السبت، 7 مايو 2011

الآباء المؤسسين، وغير المؤسسين

الآباء المؤسسين، وغير المؤسسين
 بقلم: أحمد إبراهيم أحمد
مصر الآن على عتبة تاريخية شديدة التعقيد؛ حيث يقف شعبها بين عذب سائغ شرابه للناس، وملح أجاج... واقف على بوابة كل معين منهما؛ نوعين من المصريين الآباء، ينتمون لجيلين متقاربين، شاركا في مراحل تاريخية سابقة، وساهموا -كل بطريقته- في صنع التاريخ والواقع المصريين خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة... جيل من الآباء المؤسسين الأصلاء، وجيل من الآباء غير المؤسسين وإن شاركوا في صنع التاريخ.
وتظل معاناة جيل الآباء المؤسسين أمثال الدكتور أحمد يوسف، ورجب سعد السيد، ومحمد مرسي،والدكتور ماهر هارون، والنقيب سامي، والنقيب أحمد، وجرجس، وماجد بشاي، وحسنين ومحمدين وحسني، ومحمد محمود يونس، وحسن إبراهيم محسن، والدكتور أحمد لطفي مبارك، والفيزيائي سيف الدين زكريا عطيه باقية عبر السنين.
هم وآلاف غيرهم كانوا لبنات جيش حارب العديد من المعارك داخل وطنه وخارجه، وأعاد بناء قوات مسلحة جديدة قوامها ما يقارب المليون من المتعلمين والمثقفين الذين صنعوا نقلة نوعية، حولت جيش يطيع إلى قوات مسلحة تحارب؛ بقيادة عسكريين عظماء أمثال الفريق سعد الدين الشاذلي، وعبد المنعم رياض، ومحمد فوزي.
ما زلت أذكر ما قال لي صديقي الدكتور أحمد يوسف وقتما كان يشغل منصباً إدارياً رفيعاً في وزارة الصحة أن "الجزء الباقي من الروتين الذي كنا نلعنه في السبعينات؛ هو ما يحافظ على البقية الباقية من مؤسسة الدولة."
قال لي ذلك وهو صاحب سلطة كانت تمكنه من عمل ثروة لا بأس بها، ورغم ذلك كان يجلس في مكتب متواضع مع زميلين آخرين في مكان لا يسمح بوضع مقعدين لضيفين، وكانت معاناته الكبرى من توصيات السادة الوزير والمحافظ التي تضرب بالنظام والقانون عرض الحائط، وعدم قدرته على الاستجابة لها، فترك العمل طائعاً.
عاش الصديق الآخر رجب سعد السيد مأساة العمل في جهاز علمي ينخر فيه الفساد، ويقوم بعمل روتيني، يقتل ملكات الإبداع والقدرة على العمل والفعل، وظل يناضل من أجل الاستمرار وهو يحارب الموت الوظيفي بالإبداع الفني والأدبي.
هذين النموذجين مثال واضح وبسيط لأولئك المصريين الشرفاء الذين لم يحلموا إلا بحياة إنسانية كريمة، لا يهانون فيها، ولم يحلموا يوماً بالملايين، وبعضهم كان في موقع يستطيع من خلاله أن يَفسد ويُفسد ويصنع الثروات، لكنهم كلهم كآباء مؤسسين شرفاء اختاروا أن يتركوا الجمل بما حمل، وعيونهم تملؤها الدهشة من تنكر الوطن، وقلوبهم تعصرها الحسرة على وطن تسلم زمامه الأراذل من أبنائه.
هذه النماذج، ومعها كثيرين مثلي تركوا الوطن وهم داخله، أو هاجروا وهجروا وطن هجرهم بعدما قدموا أغلى سنين العمر، وشاهدوا أخوة وأصدقاء وزملاء لهم يستشهدون من أجل الوطن، ولم يجدوا من الوطن ما يقدمه لهم أسس الحياة البسيطة التي تمنوا، فلا عمل مُجزِ، ولا علاج متوفر، ولا بيوت للسكن، ولا وسائل نقل آدمية للمواصلات، ولا أمل في مستقبل قريب أو بعيد؛ إلا الغربة من الاغتراب في وطن لم يشعر بهم.
*************
شاهدت عبد العاطي صياد الدبابات –رحمه الله- بعد سنين من الحرب في محاضرة بنادي هيئة التدريس بجامعة الإسكندرية يرتدي بذلة شعبية متواضعة، وبطنه قد تضخم نتيجة مضاعفات أمراض الكبد التي هي بالتأكيد نتاج بلهارسيا قديمة، وهو الجندي المقاتل الذي كانت طلقاته تكلف إسرائيل ملايين الدولارات كل يوم من أيام الحرب... يعمل فنياً بمحطة ري في البحيرة... كان منظره كأب مؤسس نشازاً في هذا المحفل الأنيق، فعرق البطل الحقيقي ينز من إبطيه وحول عنقه، مُغرقاً ياقة بذلته المتواضعة؛ بينما طاقم الآباء غير المؤسسين -السادة اللواءات، وأعضاء هيئة التدريس الأكاديميين- في بدلاتهم الأنيقة، وربطات العنق الأصلية، ورائحة البرفانات الباريسية تفوح منهم وهم يعطرون المكان زهواً، ويغطون على رائحة عرق عبد العاطي صياد الدبابات.
*************
لقد استطاع السفلة من أبناء الوطن أن يؤسسوا لإنكشارية أو مملوكية جديدة –مصر هي البلد الوحيد عبر التاريخ الذي اشترى حكامه- وصنعوا من أذنابهم، وماسحي أحذيتهم، ومقبلو أياديهم سادة فوق السادة الأصلاء من أبناء مصر.
كنت أتناول العشاء مع أستاذي المستشار مصطفى درويش في أحد الأندية البحرية بالإسكندرية بدعوة من الإعلامي سعيد علام، ودار بيننا الحديث عن الوضع السياسي، فقلت له أننا نعيش عصر مملوكي جديد، فنظر في وجهي بعينيه الثاقبتين وهو يسترخي في مقعده، ثم يضحك قائلاً:
"صح.. أنت جبتها.. أحنا في عصر المماليك الجوية... كان في زمان مماليك برية وبحرية، ودلوقتي المماليك الجوية."
إن السلوكيات غير المنطقية التي مارسها في الماضي وما زال يمارسها بعض رموز الآباء غير المؤسسين مثل الدكتور يحي الجمل بكل ممارساته وتاريخه مع رموز من النظام القديم، أو كمستشار قانوني لشخصيات لم تكن يوماً فوق الشبهات، والدكتور مصطفى الفقي بتاريخه المعروف والموثق كنائب ساهم في تزييف إرادة الناخبين، ومثقف خان ثقافته، وموظف لدى رأس نظام دمر المصريين، وافسد حياتهم السياسية ما يزيد على الثلاثة عقود، أو سامي الشريف رئيس الإذاعة والتليفزيون الذي أمر شفاهة –وفجأة- بحذف كل مشاهد القبلات والأحضان من الأفلام العربية والأجنبية القديمة والحديثة، واضعاً نفسه سلطة أبوية ساذجة على شعب عريق تمتد المعرفة في تاريخه عشرات الآلاف من السنين كشعب اخترعت نساءه الزراعة قبل التاريخ المعروف، أو الدكتور فيصل يونس مدير المركز القومي للترجمة الذي أعلن استعداده للتعاون المباشر مع الكيان الصهيوني في مجالات الترجمة وتبادل الكتب، عقب توليه مسئولية المركز بعد ثورة يناير ، والدكتور جابر عصفور بما مثله تذبذب مواقفه سواء إبان النظام القديم، أو محاولته التواصل مع الواقع الجديد بما يحمله من فكر قد نتفق أو نختلف معه، والإعلاميين بما يملكون من دور مؤثر استخدموه للفساد والإفساد...
هذه الأسماء وغيرها أكثر من كثير؛ غيض من فيض من الأسماء والشخصيات التي أُثرت في مختلف مناحي الحياة المصرية، وعلى مختلف المستويات السياسية، وشبه السياسية، والإدارية العليا والمتوسطة تأثيراً سلبياً، وما زالت تلعب نفس الدور الأبوي المتسلط الغبي الباحث عن تحقيق مصالحه الشخصية، وإشباع غرائزه المشروعة وغير المشروعة ولو على حساب أمة بأكملها، مدعين امتلاك حكمة لم يمتلكوها، ومصرين على لعب أدوار انتهى عمرهم الافتراضي للعبها.
إن الثوار الذي صنعوا ثورة يناير ليسوا أبناءً للآباء غير المؤسسين، ولكنهم أبناءٌ شرعيون للطبقة المتوسطة، ونتاج تربية فاضلة، وحياة لم تكن سهلة مع آبائهم من الآباء المؤسسين مجهولين الأسماء والهويات؛ معروفي المواقف والأخلاق؛ ممن صنعوا حياة كريمة لائقة بشرف وسط ظروف الشظف وقسوة العيش المرير؛ التي صنعها لهم الآباء غير المؤسسين، لينعموا هم بكل شيء، وما يزيد عن حاجة النعيم لهم ولأحفادهم من بعدهم لسنين طوال.
يجب أن تنتهي المهزلة التي يمثل هؤلاء الآباء غير المؤسسين ، ويجب إقصائهم رحمة بالوطن وأبنائه، وكرامة الوطن، وسمعته، وحرصاً على شرف الثورة والثوار... نعم إقصاء لهم، وليس لغيرهم، وذلك قمة الرحمة بهم... لقد آن لهذا الراكب أن يترجل.