الثلاثاء، 12 يوليو 2011

أخناتون وكهنة آمون


أخناتون وكهنة آمون

قراءة ثقافية لانتفاضة 25 يناير

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد



يقف العقل مشدوهاً أمام الأحداث التي تمر بها مصر منذ انتفاضة الشعب المصري غير المسبوقة، والتي استطاع من خلالها إسقاط رمز من أشد رموز الطغيان على مدى التاريخ البشري، ميزه عناد وجهل وغباء وتكبر غير مسبوقين، وشراسة ضبع خبيث لا يجيد إلا مهاجمة المؤخرات، وتَنكْرٌ طال أقرب الأقربين منه.

لكن تستلزم محاولة الفهم الأعمق للأحداث استخدام منطق يتجاوز الظاهر، فما حدث في مصر من تغيير حتى الآن، لا يتجاوز إزالة الطبقة العليا السميكة التي تكونت على سطح ماء راكد آسن وعفن، فانطلقت من تحته روائح كريهة، وحشرات وطفيليات، وديدان لا حد لها ولا حصر، وهذا يُفسرُ ما سمي خطأ (بلطجة) وهو في الحقيقة رد فعل مأساوي من جيوش مواطنين مصريين، استفادوا من نظام فاسد على مدى سنين طوال، فاستقرت حياتهم ونمت على هذا الفساد؛ مثلهم كمثل الجراثيم التي تنمو وتعيش على الجسد الحي، أو كالطفيليات التي تستنفذ وجود الكائن الذي تتطفل عليه حتى تقتله، وحتى الخلايا السرطانية التي تنمو بلا ضابط، وتظن أنها مستفيدة من استغلال الكائن الذي تتطفل عليه حتى تعيش هي، وتنسى أن موتها قرين بموت هذا الجسد الحي.

إن ما نتحدث عنه من ردود فعل قطاع كبير من المصريين يمثل كهنوتاً معقداً، فهو ليس فقط كهنوتاً دينياً، ولكنه كهنوت كل المجالات، فهو كهنوت تجاري، وصناعي، وطبي، وهندسي، وإعلامي، وغير ذلك، وهو يدافع عن مصالح ذاتية مرتبطة بنمط حياة، ومصالح أسر وأبناء، ومكاسب مادية لا يمكن الاستهانة بها؛ لذلك فلن يتوانى هذا الكهنوت عن الحرب ضد التغيير بكل شراسة، وبمختلف الأدوات المادية والمعنوية، ويعمل على استنساخ نفسه في أبنائه وكل المنتفعين من وجوده.

والإقرار واجب أن هؤلاء مصريون أردنا أو لم نشأ، وأنهم جزء لا يتجزأ من نسيج الوطن؛ صحيح أنه جزء مريض وغير سوي؛ لكنه يبقى جزءاً من الوطن شئنا أم أبينا، وواجبنا فهم هذا الجزء فهماً عميقاً حتى نستطيع اتخاذ القرارات الصحيحة بشأنه، وتحديد كيفية التعامل معه.

وتعتبر القراءة المتأنية للتاريخ، والتراث الثقافي المصري والعربي أداة مفيدة للغاية في فهم ما يحدث... صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن ذلك لا يعني أن أحداث التاريخ لا تعيد تشكيل نفسها، وتتخلق في أشكال جديدة؛ حتى وإن كانت القاعدة أن هذه الأحداث غير قابلة للإعادة؛ بمعنى أن الزمان والمكان والأحداث كلها كمركب حادثة تاريخية غير قابلة لإعادة الإنتاج، لكن الحدث المفرد ذاته قد يتشكل في هوية أخري لعوب، ليحدث في زمان ومكان جديدين، أو في نفس المكان لكن في زمان آخر.

ونستطيع من خلال قراءة أحداث تاريخ الأسرة الفرعونية الثامنة عشر التي حكم فيها عاشر فراعنة الأسرة أمنحوتب الرابع، والذي عُرف باسم أخناتون (المخلص لآتون) واشتهر باعتباره مصلحاً دينياً، وحد الآلهة في إله واحد هو (آتون) الذي لم يكن رباً لشعب معين، أو مدينة بذاتها، بل هو رب كل من تشرق عليهم الشمس من بشر، يساوى بين البشر فهو راع لا يفرق بين أحد من رعيته، وهو إله عالمي يخالف آلهة المصريين القومية المعروفة وقتئذ، فكانت ديانة آتون ثورة هائلة على كهنوت مصر؛ هذا الكهنوت المؤسسي المستقر على قواعد راسخة من النظم والعقائد التي تُؤَمّْنُ لجيش من الكهنة وتابعيهم رغد العيش.

لم يقدر الفرعون رغم سلطاته الواسعة، وأفكاره العقائدية الثورية الهائلة على السائد والمستقر، أن يواجه سطوة الفكر الديني السائد، فأضطر إلى مغادرة عاصمة ملكه، وإنشاء عاصمة جديدة حتى يستطيع أن يتحرر (وهو السيد) من سطوة (الكهنوت) وفكره السائد  الذي لم يكن فقط داخل المعابد؛ ولكن متشعباً في ثنايا المجتمع، وضمائر الشعب.

وتمنحنا قراءة القصص الديني نماذج أخرى على سطوة الفكر السائد (الكهنوت) في حكايتين أخريين حدثتا في مصر، ففي قصة يوسف u (وهي القصة التي لم ترد أبداً في التأريخ المصري القديم) لا نجد مؤرخاً واحداً ذكر اسم الرجل الذي قام على خزائن مصر يُخزن القمح سبع سنين، ويوزعه سبعاً أُخر، ولم يُكتب اسمه على خرطوش فرعوني واحد، ومن المؤكد أنه وهو نبي ابن نبي لم يكتف بعمله الرسمي، ولكنه حاول بالتأكيد التبشير بعقيدته التوحيدية، ولكن سطوة الكهنة مرة أخرى كانت لفكره الثوري بالمرصاد، فواجهته بحل عبقري سهل، يجيدون استخدامه، وهو التجاهل في الوجود، والإلغاء في الغياب، فأسقطوه وأسقطوا فكره بالكامل من التاريخ.

وتوضح حكاية موسى u وهو الذي نشأ ربيباً لفرعون وتمتع بكافة مزايا العيش في قصر فرعون، ورعايته، وحمايته، وحب زوجته وتبنيها له؛ أن كل هذه المزايا لا تساوي شيئاً حين تتبدل المواقف ]وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ[ غافر 36.

ففرعون وهامان قادران على رفض الثورة التي أتى بها النبي على فكرهم العقائدي وتجلياته الاقتصادية والسلطوية، وبالتالي ينجح الكهنوت مرة أخرى في إخراج موسى وثورته وثواره للتيه أربعين سنة، ويواجهون فكره الثوري مرة أخرى بالحل العبقري السهل، الذي يجيدون استخدامه، وهو التجاهل في الوجود، والإلغاء في الغياب، فأسقطوه وأسقطوا فكره بالكامل من التاريخ المصري الذي لا نجد فيه ذكراً لأي من الأحداث تلك.

كما تحضرني هنا حكاية أحمد باشا لطفي السيد حين ترشح لعضوية البرلمان قبل الثورة وهو ابن عمدة قرية برقين- دقهلية، وأحد كبار أعيان الريف المصري، الذي حين تزايدت شعبيته، لم يجد منافسه الخبيث إلا أن يقول أنه ديمقراطي، ويشيع أن الديمقراطية هي كفر مستورد يدعو الناس للكفر والفجور، وترك الدين، والسير عرايا في الشوارع، وطلب بخبث الفلاح المصري الأصيل من الناس أن يسألوا الباشا إذا كان ديمقراطياً أم لا؟ وبالطبع حين سألوا الباشا أجاب أنه ديمقراطي، فما كان من العامة البسطاء إلا أن احرقوا سرادقه الانتخابي، وسقط واحد من أهم صناع التنوير في مصر في الانتخابات في دائرة ولد وعاش بها كرمز من رموز القيادات الطبيعية في الريف المصري، وفاز بمقعد البرلمان نكرة لا يذكر أحد اسمه.

اخترت هذه النماذج (وهناك بالتاريخ المصري وغير المصري كثير غيرها) لتوضيح فكرة (السائد في مواجهة الثوري) فهناك عودة الملكية بعد انتصار الثورة الفرنسية، وصراع المنشفيك مع البلشفيك، والحرب الأهلية الإسبانية، وسقوط الفكر اليساري في أوروبا الشرقية، والعديد من الصراعات على امتداد الخريطة الإنسانية عبر التاريخ.

-        لكن هل يستهدف طرح هذه النماذج إحباط الثوريين، ومطالبتهم بالكف عن ثورتهم؟

بالتأكيد المطلوب تحقيقه عكس ذلك، فالهدف هو دعم فكر التغيير من خلال اكتشاف القواعد المؤسسة للصراع بين الفكرين التقليدي والثوري، باعتباره صراع أجيال وصراع حياة، وأن صراع الأجيال هذا صراع فكري، وليس صراع إقصاء، وهنا يجب أن نتذكر حكاية الإمبراطور الروماني الشاب الذي أمر بالتخلص من كافة الشيوخ حتى يجدد شباب إمبراطوريته، وكيف حاق الخراب بدولته حتى أعاد لها حكمة الشيوخ.

-        لكن مرة أخرى يقفز السؤال، أي شيوخ؟

بالتأكيد ليس كل الشيوخ، ويجب الفرز بين الزَبَّد وبين ما ينفع الناس بصدق، ولا تخلو مصر دوماً من شيوخها الشرفاء كما تمتلئ بأولئك السفلة والأوغاد، وتكمن الصعوبة في فرز هؤلاء من أولئك، فدوماً السفلة من رجال السياسة هم الأقدر على المناورة ولعب الأدوار، ويمتلكون من الحماس والخبرة ما يجعلهم يتقدمون الصفوف للعب الأدوار الأكثر تأثيراً في حياة الأمة والشعب، وإقناع الغالبية الأبسط من الناس بأنهم هم من يدافعون عن مصالحهم، ويوفرون لهم أسباب الحياة، وهم في ذات الوقت يستنزفون منهم كل أسباب الوجود ويجعلونهم في غاية الرضا حتى أنهم ينادون بوجود سفلة الساسة، وينفون الذين يدافعون عن مصالحهم.

وعلينا أن ندرك أن كثيراً من الشيوخ ليسوا فاسدين بطبعهم، ولكنهم نتاج تربية ومعارف ومواقف وخبرات سلوكية يصعب الانتقال منها إلى جديد (العلم في الصغر كالنقش على الحجر) لذلك يستحيل إسقاط كل الكبار، أو الاعتماد على كل الشباب، فمن هؤلاء وأولئك الصالحون والطالحون.

وتبدو المهمة الضرورية الآن هي إفراز قيم واضحة (غير نفعية، أو ذاتية) يتبناها المصريون (وهذا أمر غير سهل) وتحد ثقافي وحضاري ضخم، ودعم إنشاء دولة حقيقية تستند على حقوق المواطنة، وليس على حقوق فئوية أو سلطوية أو عقائدية؛ سواء كانت هذه العقائد أيديولوجيات أو أفكار دينية، وإن كنا نريد بناء وطن جديد، فلن يتحقق ذلك إلا من خلال خطوة أولى لا مفر منها ألا وهي إنجاز (عقد اجتماعي) واضح صريح يقر بكل ذلك، ثم تطهير القضاء، وعزله عن الصراعات السياسية والمجتمعية، وتنظيمه، ووضع أسس رقابية لضمان نزاهته من خلال نظام ينأى به عن السلطة التنفيذية... سلطة الدولة، وينأى به عن كهنوت كهنة وزارة العدل.

يأتي بعد ذلك إعادة بناء النظام الأمني الذي يجب أن يدرك العاملين فيه أنهم في خدمة الشعب وليسوا سادة عليه، فاستلاب الأمن ليس عشوائياً، ولكنه ردة فعل رجال أمن يمارسون دوراً تربوا عليه ونشئوا وتكونوا، وفعلهم فعل كهنوت يستنزف من الناس أسباب الأمان وهم في غاية الرضا حتى ينادون بوجود الكهنوت الأمني، وينفون الذين يدافعون عن مصالحهم.

وتستلزم إعادة الأمن تكوين رجال أمن جدد، يمارسون دوراً جديداً يُربَونَ عليه، حتى يصبحون جهازاً أمنياً يقدم للناس أسباب الأمان والاحترام، ويحترم حقوق الإنسان، ويعرف أنه حام للقانون، وليس سيداً فوقه، فيكتشف العامة وجود الجهاز الأمني الذي يدافع عنهم وعن مصالحهم، ولن يتم ذلك إلا بإعادة صياغة برامج التعليم في كليات الشرطة، وبرامج التدريب على رأس العمل، فضابط الشرطة الذي تكون تعليمياً وبداخله احتقار لغير الشرطيين، ومارس هذا الاحتقار سنوات طوال ليس صعباً – بل من المستحيل- إعادة تهيئته وبرمجته ليحترم حقوق الإنسان، ويؤمن بدور مغاير لما تربي عليه... فهو قرص مضغوط للكتابة مره واحدة، تمت الكتابة عليه وانتهى أمره، ولا يصلح لكتابة جديدة؛ لذلك لابد من التخلص منه، والكتابة على أقراص جديدة، أو استخدام أقراص بها برامج لم يصبها فيروس العادلي وأشباهه.

وتظل مشكلة التعليم والثقافة حجر الزاوية في إعادة بناء المجتمع، فإن استلاب المعلومات، وتكريس الجهل، وتحقير الثقافة، والإقلال من شأن المثقفين والعلماء لم يكن عشوائياً، ولكنه فعل كهنوت استهدف أن يستنزف من الناس أسباب المعرفة والثقافة وهم في غاية الرضا باستلابهم؛ حتى يبقى الكهنوت الثقافي وكهنوت المعلمين الجهلة، وينفون الذين يدافعون عن مصالحهم والحقيقين من المثقفين والعلماء.

إن استلاب الصحة لم يكن هو أيضاً عشوائياً، ولكنه فعل كهنوت يستنزف من الناس كرامتهم حين يلجئون تحت قسوة المرض إلى أطباء هم في واقع الأمر تجار يتاجرون بحياة البشر، ويستذلونهم، ويستنزفون القليل مما يملكونه، ويسرقون منهم  أسباب الأمان وهم في غاية الرضا حتى ينادون بوجود الكهنوت الطبي الذي يمنحهم القليل من الأمل لا العلاج وهم على حافة الموت تحت مسميات ما أنزل الله بها من سلطان؛ بينما ينفق الملايين على أبناء وبنات الكهنوت الطبي والسياسي خارج مصر ليستجموا في أرقى مراكز النقاهة تحت مسمى (العلاج على نفقة الدولة) وهو استجمام على نفقة صحة المصريين.

وتبقى كارثة الإعلام السفيه تخرج لنا لسانها، فالمؤسسة المنوط بها إعلام الشعب والمساهمة في تعليمه وتثقيفه والترفيه عنه، تحولت في أيدي كهنة الإعلام إلى أداة تخدير، وترويج لمفاهيم تساهم في تدجين المصرين بمختلف المجالات، وجعلهم أعداء لمن يعمل من أجلهم، ليكونوا يد السلطة الكهنوتية في نفي الذين يدافعون عن مصالحهم، وصنع نجوم فنون وهميين هم مهرجي السلطان وخدمه، وهم غير قادريين أن يكونوا غير ذلك، وهم كعملة رديئة، يُخرجون العملة الجيدة من الفنانين من الساحة، أو يعقدون لهم حياتهم وعملهم في أفضل الأحوال.

إن مختلف مجالات الحياة المصرية مليئة بالكهنة، ومازال كهنوت خبير بمسالك ودروب السلطة والاقتصاد يحكم ثقافة الشعب المصري، والغالبية العظمى من المصريين قانعين بالفتات والإنجاب كما يقول صلاح عبد الصبور:

"لأن فقيراً ذات مساء سعى إلى حضن فقيرة ليطفئ فيه مرارة أيامه القاسية."

*******************

لقد تخلص المصريون واسقطوا آخر الفراعين، ولكنهم يواجهون الوضع الأعقد والمشكلة الأعتى؛ ألا وهي مواجهة تراث الكهنوت في كافة مجالات الحياة، وهم شركاء في صنع هذا الكهنوت، ودعمه، واستمراره.

والمؤكد أن نجاح الثورة في تحقيق أهدافها مرتبط بقدرة المصريين بكل أطيافهم على تبني سلوك جديد، وصنع ثقافة مصرية مختلفة عن التراث الكهنوتي الذي حكم مصر منذ آلاف السنين، وذلك حتى لا يسعى المصريون لتأليه فرعون جديد فوق رؤوسهم.

ولن يصلح استنساخ التجارب الماليزية أو التركية أو حتى تلك القادمة من عوالم فضائية خارج المجرة في صنع تجربة مصرية.

إن التجربة المصرية يجب أن تتخلق في رحم المجتمع المصري، وتكون وليدة شرعية لثقافة جديدة أكثر انفتاحاً على الحياة، وأكثر تحرراً حتى مما حلم أو يحلم به أي إنسان، ونافية ورافضة لكل أنواع الكهنوت... إنها قضية صنع ثقافة جديدة مصرية، تتحدى وتسقط ثقافة الكهنوت... إنها قضية ثقافية بالدرجة الأولى لو كنتم تعلمون.