الثلاثاء، 31 يناير 2012

الأخلاق


الأخلاق Ethics



إعداد أحمد إبراهيم أحمد

وَإِنَّما الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقِيَت                    فَإِن تَوَلَّت مَضَوا في إِثرِها قُدُما

أحمد بك شوقي

تعريف الأخلاق

الأخلاق هي (معايير لقياس السلوك الإنساني).

 وقد طورت الثقافات الإنسانية في مختلف المجتمعات، مواثيقها الأخلاقية الخاصة، والدراسة العلمية للأخلاق فرع من فروع الفلسفة يُدعى (فلسفة الأخلاق ــ الإيطيقا) وهو علم معياري لقياس السلوك الإنساني، نشأ في أحضان الثقافة الغربية، وتمتد جذوره للفلسفة الإغريقية، ويستمد أدواته العلمية من العلوم التقليدية (مثل الرياضيات، والمنطق) والعلوم التجريبية (مثل الكيمياء، والفيزياء) والعلوم الاجتماعية والإنسانية (الأنثربولوجي، وعلم النفس، وعلم الاجتماع) ويصف  علم الأخلاق (الإيطيقا) السلوك البشري الملتزم بعادات وتقاليد وأعراف بأنه أخلاقي (إيطيقي) أو العكس (غير أخلاقي) بمعنى خير أو شرير، قياساً إلى مجموع محدد من معايير السلوك يتقاسمها الناس في مجتمع ما، ومن وجهة نظر فلسفية منهجية، ليس لكلمتي (الأخلاق والإيطيقا) معنى متطابق. فالأخلاق مجموع معايير وأفعال سلوكية نعتاد قبولها بوصفها خيرة، أما الإيطيقا فهي التفكير حول لماذا نعتبر هذه السلوكيات خيرة،.ولهذا فإن الإيطيقا ليست الأخلاق، وإنما فلسفة الأخلاق، أو معرفة فلسفية تدرس قواعد الأخلاق وأسسها، وتتداخل فلسفة الأخلاق (الإيطيقا) مع اهتمامات علوم أخرى بالأخلاق مثل العلوم الاجتماعية التي تسعى لتحديد العلاقة بين قيم أخلاقية معينة، والسلوك الاجتماعي المرتبط بها، للتعرف على الشروط الثقافية المؤثرة في تشكيل هذه القيم الأخلاقية في إطار السلوك الاجتماعي.

ويتبني الإنسان العقلاني القيم بالمفاضلة والاختيار، بينما يفتقر الأشخاص العاديين إلى قدرة الاختيار، وأدوات المفاضلة، ويعجزون عن تطوير فلسفتهم القيمية الخاصة، فيجنحون غالباً إلى قبول ما هو سائد من المعتاد والتقليدي، للتأقلم مع البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها، ويقبلون مجمل القيم السائدة في الزمان والمكان.

مصادر الأخلاق

تحدد القواعد الاجتماعية مصدر الأخلاق أهو مصدر خارجي أو ذاتي، والمصدر الخارجي هو الدين، وتعليمات الإله المنزلة، والذاتي هو بشري اجتهادي.

 المصدر العقائدي

هو مصدر ديني مفارق متعال  Transcendentتمثل رغبات الإله فيه مصدر السلطات، ويعتبر السلوك جيداً إذا توافق مع رغبة الإله، و تعتبر رغبة الإله في هذا المصدر الفطرة الطبيعية، والمنطق السليم، وطاعة النصوص المقدسة معيار قبول السلوك، و يتميز الكهنة ورجال الدين في هذا الإطار لأنهم يلعبون دور الوسيط والمفسر للنصوص المقدسة، وتحديد المعايير الأخلاقية طبقاً لتأويلاتهم.

المصدر العقلائي

مصدر إنساني موضوعي، تُحدد فيه المعايير الأخلاقية المقبولة من عناصر الطبيعة البشرية، طبقاً للقوانين الطبيعية والواقع من خلال تحقق (العقلانية ـ المتعة ـ السلطة) وتعتبر أن إشباع هذه الحاجات هو قمة الخير، وهناك اتجاهات ثلاثة رئيسية للفلسفة العقلانية الأول منها يعتبر السلوك إيجابياً إذا كان نتاجاً لتفكير عقلي منطقي، وتُعلي هذه الفلسفة إشباع الحاجات الإنسانية العقلية، ويرى فلاسفة المتعة Hedonism في النوع الثاني أن المتعة خير مطلق، وإن كانت هذه الفلسفة تفاضل بين المتع المؤقتة الزائلة، والمتع الدائمة الباقية، وتحدد متى يجب التنكر للمتع الوقتية حتى يتحقق للإنسان رضا شامل عن النفس، وأيهما أفضل أهي المتع العقلية أم الحسية، ويرى النوع الثالث وهم فلاسفة القوة في السلطة مثالاً أعلى، وتتحقق السلطة نتيجة المنافسة التي يفوز فيها أحد الأطراف، فتزداد حدة المنافسة، وتكون النتيجة سلطة مطلقة، والفاشستية أحد تجليات هذه الفلسفة، ولا يتقبل الباحثون عن السلطة القواعد الأخلاقية المألوفة، ويتوافقون مع قيم معينة (ميكيافلية وبرجماتية على سبيل المثال) تساعدهم على النجاح والوصول للسلطة، ويخفون دوافع التسلط ويبذلون جهداً كبيراً لإقناع محيطهم الاجتماعي بالتزامهم الأخلاقي، ليحصلوا على العائد الاجتماعي والثقافي (الاحترام والثقة) الذي يحصل عليه الملتزمون أخلاقياً.

ضرورة الأخلاق

احتاج البشر المنظومة الأخلاقية منذ عرفوا ظاهرة الاجتماع البشري، لتحقيق أمن وسلامة الأفراد والجماعات، حيث يقوم المجتمع بوظيفتين الأولى سلبية رقابية، لكبت أعضائه بالسيطرة على دوافعهم، وكبح حاجاتهم الغريزية، والثانية إيجابية يحقق بها التصالح بين الفرد والجماعة، ويجعل الدوافع سلوكاً مشروعاً يؤمن إشباع الحاجات الغريزية للفرد، ويدرجه في المجموع، وحتى يتحقق الاتزان العاطفي، والعقلي بين الإنسان والعالم، حاول الفلاسفة تحديد ما هو جيد في السلوك طبقاً لقاعدتين رئيسيتين (الخير، والشر) واعتبروا أنواع من السلوك خيرة في ذاتها، أو لأنها متوافقة مع معايير خيرة، وعكس ذلك هو شر، وعبر تاريخ الفلسفة تحددت ثلاثة معايير رئيسية للخير، يحقق التناغم بينها أقصى تطور إيجابي للإمكانيات الإنسانية هذه المعايير هي:

1.       المتعة (السعادة ـ البهجة ـ الفرح).
2.      الواجب (الالتزام ـ الإخلاص).
3. الكمال (الإتقان ـ الجودة).

وتكونت المبادئ الأخلاقية في البدء من معايير سلوكية عامة غير محددة أو خاضعة لقواعد، وتطورت في بعض الأحيان بشكل صارم مناف للعقل كما يحدث عقب انتهاك المحرمات، أو من سلوك أصبح عادة، فعُرفاً، فقيمة أخلاقية، أو من قواعد فرضها زعماء الجماعات البشرية لمنع الفوضى في مجتمعاتهم، وتبنت بعض المجتمعات مبادئ مجردة دون تحديد معياري لهذه المبادئ، اعتقاداً بأن وضع معيار يوضح الحد الأدنى، والأقصى لهذه المبادئ غير ممكن أو مستحيل.

جوهر الأخلاق

 اختلف مفهوم جوهر الأخلاق في المراحل التاريخية المختلفة، وباختلاف الثقافات، فبينما سار أفلاطون على خطى سقراط في اعتبار الأخلاق علم ذو صلة بكل ما يتصل بالعقل، كان جوهر الأخلاق عند الأبيقوريين  المتعة (تعادل السعادة، أو اللذة) واعتبار زرادشت المسئولية جوهر الأخلاق، وقال كونفوشيوس إنها البرّ بالآباء (ومنه الطاعة، والحدب) وعند الطاوية هي البساطة (عدم التكلف) وفي المسيحية هي الحب، والفداء؛ أما في الإسلام فالإحسان، وهو تمثل الله في كل فعل يأتيه الإنسان، وعبادة الإنسان لله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يرى الإنسان.

أما في المذاهب الحديثة، فجوهر الأخلاق عند كانت سيادة الغايات، وأن تتناغم الإرادة الفردية مع إرادات الآخرين، وتحافظ على كرامة البشر، ويرى كير كغارد أن الأخلاق قلق داخلي، وأصلها الإيمان الخالص، وقال توماس مور إنها التماثل العقلي البحت (كما الرياضيات) و جوهر الأخلاق لدى فرويد يساوي تحرير الإنسان من العقد الجنسية، وعند نيتشه جوهر الأخلاق تمجيد القوة لأنها تعكس الحيوية الفردية (الحياة لمن غلب، إنجيل الفاتحين) واعتبرها هيوم حساسية فيزيائية تصنعها التربية الصالحة، ووجهة نظر برغسون أنها حيوية الاندفاع الذي يساعد الإنسان على مواجهة القوى المادية وأصله من عند الله سبحانه، ومن وجهة نظر وجودية قال سارتر إنها ممارسة الحرية الذاتية ولا تكتمل إلا بممارسة الآخرين لحرياتهم.

تاريخ الأخلاق

لم تكن الأخلاق في الحضارات القديمة كالحضارة الفرعونية وحضارات ما بين النهرين كذلك في حضارات الشرق الأقصى منظومات نسقية في الغالب، إذا استثنينا قانون حمورابي، ونصوص الحكيم المصري القديم بتاح حتب التي ارتبطت بعقيدة دينية صارمة أثرت بقوة على تاريخ مصر القديم، كما أن وصايا الحكيم الصيني كونفوشيوس خاصة البر بالوالدين ظلت الميثاق الأخلاقي الأكثر قبولاً لدى الصينيين، وتعليمات بوذا وهي وسيلة تقنية مهمّتها تدمير نزوع الذات للفردية، وكل تطلع شخصي ليتمكن المرء من الوصول إلى الحالة النورانية (النيرفانا) التي هي العدل المحض، والوجود الأعلى هي الميثاق الأخلاقي للبوذيين، كما تضمنت الوثائق الهندوسية معايير أخلاقية لكن دون أن تشكل منظومة نسقية هي الأخرى.

وقد اعتنى الفلاسفة الإغريق مبكراً بالتنظير لفلسفة الأخلاق، وسار الرومان على نهجهم حتى أتت المسيحية فأعادت صياغة المفاهيم الأخلاقية الرئيسية في الثقافة الغربية، وطرحت ثقافة عصر النهضة، والتنوير والعصور الحديثة مفاهيم جديدة متعددة، ومتباينة لجوهر الأخلاق.

الأخلاق اليونانية

طور فيثاغورث الفيلسوف اليوناني واحدة من أقدم فلسفات الأخلاق في القرن السادس قبل الميلاد معتمداً على عقيدة إغريقية قديمة تُدعى أورفيزم Orphism ترى أن الطبيعة العقلية أرقى من الطبيعة الحسية، وأن الحياة الأفضل تتحقق بالانضباط السلوكي المبني على العقل، وأسس مذهبه في الأخلاق بشكل مواز لهذه العقيدة على أسس تُثمن البساطة في الخطاب، والأزياء،  والطعام، وكان المنتمون لهذا المذهب يمارسون طقوساً تستعرض القيم الأخلاقية لمذهبهم.

وشهد القرن الخامس قبل الميلاد الفلاسفة السفسطائيون الذين اشتهروا بالفصاحة، وبلاغة الخطاب، والجدل، وكانوا يعلمون المنطق، والحقوق المدنية، وشككوا في الأخلاق كقيمة مطلقة، وكان معلمهم الأول بروتاجوراس يعلم تلاميذه أن قدرة الإنسان في الحكم على الأشياء غير موضوعية، وأن معرفته بالأشياء مقصورة عليه، وتختلف عن معرفة شخص آخر بنفس الشيء.

وسار جورجياس على خطى بروتاجوراس ثم مضى إلى أبعد من ذلك حين صاغ جدلاً أثبت فيه أن لا وجود لشيء بالنسبة للبشر، فهم عاجزون عن إدراك الموجودات، وإذا ما أدركوها فإنهم لا يقدرون على نقل معرفتهم بها إلى بعضهم البعض؛ بينما تبنى سفسطائيون آخرون مبدأ أن الحق هو القوة (تجل فلسفي للفاشستية).

تصدى سقراط للسفسطائيين بقوة، وكما جاء على لسانه في حوارات تلميذه أفلاطون اعتبر أن الفضيلة العليا هي المعرفة، وأن الناس يصبحون أخياراً (بمعرفة) ما هو خير، والشر نتاج للجهل، ولذلك فإن لتعليم يجعل الناس أخلاقيين، وكانت أفكار سقراط من القوة والتأثير بحيث بقيت فاعلة على مدى تاريخ الفلسفة اللاحق، وخرج من عباءته أربعة مدارس في الأخلاق لأربعة من تلاميذه المباشرين، فتبنى بعضهم كالفلاسفة الكلبيين Cynics  فكرة أن جوهر الخير الإنساني هو الفضيلة ويحددها التحكم في الذات، وضبط النفس، والقدرة على التعلم، واعتبروا أن الفخر قيمة أخلاقية بما في ذلك الافتخار بالثياب والنظافة حتى أن سقراط كان يقول لأحد تلامذته "أستطيع أن أرى افتخارك من فتحات عباءتك" وازدروا المتعة في المقابل، واعتبروها شراً كسلوك، واعتبرت طائفة Cyrenaic  الفلاسفة القورينيين أن اللذة هدف الحياة الأوحد، وأن المتعة هي الخير طالما لا تسيطر على الإنسان، ولا تتحكم في حياته، وأن المتع متساوية لا تعلو منها متعة على أخرى، وهي قابلة للقياس فقط من حيث قوتها، ومدى دوامها في الزمن.

أما أتباع إقليدس فرأوا الخير في الحكمة، وأن الإله والعقل هما شيء واحد، والخير هو سر الوجود، والتوصل إليه لا يتم إلا بالاستدلال المنطقي، واعتبر أفلاطون تلميذ سقراط النجيب أن الخير هو المكون الأساسي للواقع، وأن الشر غير موجود كوجود مستقل، ولكنه ينشأ كانعكاس لخلل أو قصور في الواقع الذي عماده الخير، وذكر في حواراته التي كتبها في النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد أن فضائل الإنسان كامنة في مدى قدرة الإنسان على الوفاء بالمهام الصائبة الموكلة إليه ليقوم بها في وجوده بالدنيا، وكان يرى أن الروح الإنساني مكون من عناصر ثلاثة هي (التفكير العقلاني ــ الإرادة ــ والعاطفة أو الوجدان) ولكل منها دور معين يؤثر عند تفعيله على جوهر الفرد، فجوهر التفكير هو (الحكمة) ومعرفة نهايات الحياة، وجوهر الإرادة هو (الشجاعة) والقدرة على الفعل، وجوهر العاطفة هو (الاعتدال) وضبط النفس، والجوهر المطلق هو العدالة ولا تتحقق العدالة إلا إذا تناغمت العناصر الثلاثة وأدت وظيفتها بشكل صحيح، في حدود المنطق،وافترض أفلاطون أن السيادة يجب أن تكون للعقل، وتأتي بعده الإرادة، ثم العواطف التي يجب إخضاعها للعقل والإرادة، والشخص الخير فقط هو الذي تنتظم حياته في إطار ذلك.

اعتبر أرسطو تلميذ أفلاطون أن العقل والأخلاق هما وسائل تحقيق السعادة التي لا تتحقق إلا بالإدراك الكامل للإمكانيات الإنسانية، وأنجز دراسة عن الأخلاق في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد واعتبر فيها المتعة هدفاً للحياة، وعرف المتعة في هذه الدراسة بأنها "نتيجة متوافق نشاط إنساني مع طبيعة إنسانية معينة" وقال أن المتعة مصاحبة لهذا النشاط الإنساني، وليست هدفاً في ذاتها، وأن العقل الذي هو خاصية ينفرد بها الإنسان، يحقق المتعة حين يعمل على القضايا الكلية الإنسانية، وعرف الفضائل بأنها العادات الحميدة بالضرورة، ولتحقيق المتعة أو السعادة يجب أن يُنمي الإنسان نوعين من العادات؛ الأول هو النشاط العقلي (النظري) ونتاجه المعرفة التي تنتج الإبداع الإنساني مثل التأمل، والثاني نشاط عملي وعاطفي (تطبيقي) مثل الشجاعة، وفضائل الأخلاق عادات سلوكية (أفعال) يجب أن تتميز بالمرونة لأنها تتوجه إلى البشر الذين هم مختلفين في الأساس نتيجة الفروق الطبيعية بينهم، فعلى سبيل المثال تتحدد كمية الطعام التي يتناولها الفرد على عوامل ذاتية مثل الحجم، والعمر، وطبيعة العمل، والحالة الصحية، وتتحقق فضائل الأخلاق بمبدأ الاعتدال (الوسطية) الذي سماه أرسطو الوسيط الذهبي Golden mean وعرفه بأنه "ما يقع بين الحدين الأقصى، والأدنى" مثل الكرم الذي هو وسط ما بين الإسراف والبخل.

ظهر الفيلسوف الإغريقي أبيقور مع نهايات القرن الرابع، وبدايات الثالث قبل الميلاد، وله يُنسب المنهج الأبيقوري الذي يعتبر المتعة (خاصة المتع العقلية) أرقى درجات الخير،وروج لفكرة الاعتدال الأرسطية مع ميل للزهد والتأمل، وكانت منطلقات الأبيقوريين أن المتعة تتحقق من الصفاء الذي يتحقق  بالتخلص من كافة عناصر التشويش الوجداني، والعاطفي، واعتبر أبيقور أن المعتقدات الدينية، وممارسة شعائرها أمر ضار بالنفس لأنها تشغل الإنسان، وتزعجه بأفكار مقلقة عن الموت، وتثير حيرته الحياة بعد الموت، وأكد الأبيقوريون على تأجيل المتع الآنية المؤقتة الزائلة لإشباع متع أكثر ديمومة في المستقبل، وأكدوا أن الانضباط الذاتي يحقق الحياة الخيرة، ثم ظهر الفلاسفة الرواقيون في القرن الثالث قبل الميلاد مع نهاية العصور الهيلينية، وبزوغ فجر الإمبراطورية الرومانية التي تبنت المحكيات الكبرى للثقافة الإغريقية، وكانت الفلسفة الرواقية ترى الطبيعة "عاقلة ومنظمة" والحياة الخيرة فقط هي تلك المتناغمة مع الطبيعة، وحتى يكون الإنسان حراً عليه أن يبذل الجهد لأن الظروف المحيطة بالإنسان تؤثر على حياته، وأن ممارسة الفضائل الأساسية مثل الحكمة، والشجاعة، أو الحذر، والتحفظ، ومثل العدالة، والحق تساعد الإنسان على التحرر ، ورفع الرواقيون شعار "تحمل، وترفع" مما جعل كلمة رواقي مرادفاً للثبات عند المحن، ومواجهة الصعاب والمشاق.

الأخلاق المسيحية

لما جاءت الإمبراطورية الرومانية كان الشاعر الروماني والفيلسوف لوكراتيس هو الشارح الأكبر للأبيقورية، وقصيدته (طبيعة الأشياء) التي كتبها منتصف القرن الأول قبل الميلاد تضم أفكار الفيلسوف اليوناني ديموقراطيس، والأفكار الأبيقورية، وكانت منظومات الأخلاق السابقة مقصورة على النبلاء والإغريق دون العامة، والعبيد، أو الأجناس الأخرى، وكان تعبير البرابرة مرادفاً للآخر، ويعبر عن نظرة دونية وانتقاصاً لغير الإغريق، ويعكس ذلك موقف أرسطو من العبيد الذين اعتبرهم "آلات حية" فأدى ذلك إلى موقف معاد للفلسفة، وساعد تفشي الفساد في العقائد الوثنية، ومؤسساتها إلى فقدان الاعتقاد فيها، وظهرت المسيحية مبشرة بالمساواة بين البشر لا فرق بين سيد وعبد، فانتشرت بين طبقات المحرومين انتشار النار في الهشيم، وشكلت ثورة أخلاقية حملت إلى الغرب مفاهيم أخلاقية خيرة مغايرة ومن أصل عقائدي، وارتكزت هذه القيم على مبدأ الاعتماد على الله حيث الإنسان عاجز في ذات÷ يعتمد في وجوده على الرب، ولا يحقق الخير بعقله، أو إرادته الإنسانية، ولكن بإرادة الله ونعمته، ويحقق الخير من خلال الحب كما جاء في إنجيل لوقا "أحبب الرب إلهك بكل قلبك، وكل روحك، وكل قوتك، وكل عقلك، وأحبب جارك" وكما جاء في إصحاح اللاويين "أحبب أعداءك" وطرحت المسيحية مجموعة من المعتقدات الأخلاقية فجاء في إصحاح ماثيو "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك" و " أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله؛ لله" واعتمدت المسيحية الوصايا العشر الأخلاقية المنزلة في الألواح على موسى كميثاق أخلاقي.

وقد أكدت المسيحية في بدايتها على فضائل بعينها لم تكن معتبرة في الفلسفة الإغريقية الكلاسيكية مثل الزهد، والاستشهاد، والإيمان، والرحمة، والمغفرة، والحب العذري (غير الجنسي).

وقد مثلت أفكار العقيدة الفارسية المانوية بما لها من أتباع كثر في القرنين الثالث والرابع الميلاديين، تحدياً للفكر المسيحي في عصوره الأولى؛ حيث تعتمد بنيتها العقائدية على فكرة الصراع بين الخير، ويمثله النور مع الشر ويمثله الظلام، وكلاهما يسعى ليسود الوجود، وكان القديس أوغسطين مانوياً، ومتأثراً بالفلسفة الأفلاطونية قبل تنصره عام 387م فجاءت رؤيته اللاهوتية صياغة مركبة تتكامل فيها عناصر الفكر الثلاثة هذه، فاعتبر الخير صفة من صفات الله، والشر هو الخطيئة البشرية ممثلة في سقوط آدم، وأن التوازن يحدث بغفران الله للخطيئة برحمته منه،  ويبدو واضحاً تأثر أوغسطين بالفلسفة المانوية في احتفاظه بفكرة الخطيئة البشرية الأولى التي تعكس شعوراً بالذنب تجاه تاريخه وشبابه الطائش، وقد انعكس هذا المفهوم على الميثاق الأخلاقي المبكر للمسيحية الذي ركز بقوة على مفهوم العفة، والعزوبية.

أعادت جهود العلماء والمفكرين العرب أرسطو إلى واجهة المعرفة في نهايات العصور الوسطى، واستطاعت ترجمات، وشروح، وتعليقات الدارسين العرب مثل ابن رشد أن تؤثر بقوة على الفكر الأوروبي لما أعادت طرح الفكر الوضعي، والتجريبي مرة أخرى في مواجهة الوحي، فشكل الفكر الفلسفي، والأرسطي منه على وجه الخصوص تهديداً قوياً لسلطة الكنيسة الروحية، وصنع حالة من الصراع الفكري بين الفلسفة واللاهوت، حتى نجح عالم اللاهوت القديس توما الإكويني في عقد مصالحة بينهما حيث جير السلطة الثقافية الأرسطية الضخمة، لدعم سلطة الكنيسة، واستخدم المنطق الأرسطي لدعم مفاهيم القديس أوغسطين عن الخطيئة البشرية الأولى، والتوبة التي تؤمنها النعمة القدسية لرحمة الرب، وشكلت هذه الأفكار جوهر أفكار توما الأكويني، وضمنها في كتابه العقيدة الشاملةSumma Theologica  الذي ألفه خلال الفترة ما بين 1265 ـ 1273م.

ازدادت قوة الكنيسة في القرون الوسطى، وطورت منظومة صارمة للأخلاق تضع عقاباً للذنوب والأخطاء، وثواباً في الآخرة لأصحاب الفضائل المطيعين الذين يعلون من شأن الزهد، والإحسان، والروحانية، ووضعت الكنيسة معايير صارمة لأفعال الخير والشر؛ كما وضعت نظاماً للتكفير عن الذنوب في الدنيا قبل ثواب الآخرة أو عقابها.

وجدت القيم الأخلاقية الكنسية للعصور الوسطى تجلياً أدبياً لها في الكوميديا الإلهية لدانتي الذي كان متأثراً بفلسفات أفلاطون، وأرسطو، وتوما الإكويني، فصنف دانتي الذنوب في قسم (الجحيم Inferno) إلى ثلاثة أقسام رئيسية يقع تحت كل منها عدد من الخطايا، وتعميقاً لمفهوم الشر جعل الانقياد للشهوات الحسية مثل العنف والغلظة والبهيمية، والوجدانية مثل الحقد، والاحتيال ذنوباً تستحق التكفير، وأعاد للملكات الروحية الأفلاطونية الثلاث اعتبارها وأهميتها، واعتبر الخطايا والذنوب فساداً في واحدة أو أكثر من هذه الملكات.

تراجعت سلطة الأخلاق المسيحية وضعفت ممارسة السلوكيات ذات الصلة بها في عصر النهضة، ولما ظهرت الحركة البروتستانتية لإصلاح المسيحية، أحدثت تغييراً كبيراً في مفاهيم القواعد الأخلاقية المسيحية، وأعادت تقييم بعض المبادئ فقللت من أهمية البعض، وأعلت من شأن البعض الآخر، وأضافت قيم جديدة للمنظومة الأخلاقية المسيحية، وكان للقس وعالم اللاهوت مارتن لوثر أثر قوي في صياغة المبادئ الأخلاقية البروتستانتية فيما عرف باللوثرية، واعتبر الروح الخيرة عماد التقوى المسيحية، والسلوك الأخلاقي الذي تجسده الأفعال الحميدة ضرورة للحياة المسيحية، وأن الخلاص لا يتحقق إلا بالإيمان، وكسر قاعدة عفة رجال الدين، وأباح زواجهم مانحاً العفة الجنسية مفهوماً جديداً ساد بين رجال الدين البروتستانت.

تبنى اللاهوتي الفرنسي جون كالفين الأفكار اللوثرية المتعلقة بالخلاص بواسطة الإيمان وحده، وأقر مذهب القديس أوغسطين عن مسئولية الإنسان عن الخطيئة الأولى؛ وطور منظومة من الأفكار كانت هي المادة الخام لطائفة من المتطرفين المسيحيين عرفوا باسما (الأنقياء) Puritan الذين وضعوا قواعد شديدة الصرامة، والتطرف، وربما الغرابة للمفاهيم الأخلاقية فاعتبروا قيم مثل الرزانة، والكد والاجتهاد، والاقتصاد والتوفير، والتواضع  قيماً إلزامية لا يجوز التخلي عنها، واعتبروا التأمل نوعاً من الكسل، والفقر عقوبة إلهية، ودليل على أن الفقير محروم من نعمة الله ورحمته، وآمن الأنقياء بأن المختارين من الله هم فقط من سينعمون بخلاص الروح، وأن المختار يحتاج إلى إشارة أو علامة من الله تبين له أنه اختاره ليخلص روحه، وكانوا يعتبرون أنفسهم من المختارين ثقة في أن منهجهم الحياتي هو المنهج الوحيد الصحيح، وأن هذا المنهج يقود بالضرورة إلى سعة العيش والرخاء الدنيوي، فالغنى والثراء علامة على رضا الرب، والفقر ؛ لذلك اعتبروا الفقر شراً، والغني والثروة خيراً، وإشارة إلى أن صاحب الثروة قد اختاره الله ليخلص روحه، وقادت الأخلاق البيوريتانية أصحابها، وأبناءهم، وحفدتهم لملكوت الدنيا والثروة؛ بدلاً من ملكوت السماء.

اعتبرت المسئولية الفردية في عصر الإصلاح (إصلاح الكنيسة) أهم من طاعة أولي الأمر، أو الالتزام بالأعراف والتقاليد، وشكل هذا التغيير الجوهري في مفهوم الحرية والمسئولية الفردية منعطفاً هاماً في التفكير الأخلاقي الغربي، قاد إلى تطور الفكر الأخلاقي إلى مزيد من العلمانية، ويبدو هذا التأثير واضحاً في كتاب قانون الحرب والسلام الذي ألفه رجل الدولة الهولندي، وخبير القانون، وعالم اللاهوت هوجو جروتيوس Hugo Grutius فرغم أن هذا الكتاب اعتمد على أعمال القديس توما الأكويني كمرجعية رئيسية؛ إلا أنه تناول الالتزامات السياسية، والمدنية وحقوق الأفراد من خلال روح القانون الروماني، وبرر ذلك بأن القانون الطبيعي جزء من القانون الإلهي، وأنه مؤسس على الطبيعة البشرية التي تعكس رغبة الإنسان الفرد في التعايش السلمي مع الآخرين، وميل فطري لإتباع المبادئ السلوكية العامة، وبالتالي فإن المجتمع مؤسس فطرياً، وبشكل صحيح على قانون الطبيعة.

الأخلاق العلمانية

كانت وجهة نظر الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز Thomas Hobbes كما جاءت في كتابه الهام Leviathan (كلمة تعني مرادفاتها التنين وهو وحش بحري يرمز إلى الشر في الكتاب المقدس، وتعني أيضاً الدكتاتورية، والدولة) فقال أن الحياة الإنسانية هي حالة من حالات الطبيعة، تميزت قبل المجتمع المدني بالشراسة، والسوء، والقسوة، وقصر العمر؛ حتى أنها كانت حرب الجميع ضد الكل، مما دفع الناس سعياً نحو الأمن إلى الدخول في عقد اجتماعي، تُجير فيه عناصر القوة والسلطة الفردية لصالح سلطة تنظم سلوك الأفراد، وقد افترضت وجهة النظر المحافظة هذه أن الشر هو فطرة الإنسان، مما يجعله بحاجة لسلطة قوية تسيطر عليه، وقال هوبز أيضاً أنه إذا لم توفر السلطة الأمن والنظام للمواطنين، واستطاعوا قلب السلطة، يعودون لحالتهم الطبيعية، ويصبح المجتمع في حاجة لعقد اجتماعي جديد.

وقد أثرت نظرية هوبز المعنية بالدولة والعقد الاجتماعي في أفكار الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، فأكد في أطروحتين كتبهما في نهاية القرن السابع عشر عن الحكومة المدنية؛ أن الغرض من العقد الاجتماعي هو التقليل من السلطة المطلقة للدولة، وتحقيق المزيد من الحرية للأفراد.

كتب الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا في الربع الأخير من القرن السابع عشر دراسة هامة سماها "الأخلاق مرتبة ترتيباً هندسياً Ehica Ordine Geometrico Demonstrata" قال فيها أن العقل الإنساني هو معيار السلوك، وصمم منظومة أخلاقية مصدر الأخلاق فيها علم النفس، وعلم النفس مصدره الميتافيزيقا، وقال أن كافة الموجودات محايدة أخلاقياً، وأن الحاجات والمصالح الإنسانية هي ما يحدد الخير والشر، والصواب والخطأ، واعتبر كل ما يدعم المعرفة الإنسانية بالطبيعة، وينمي العقل البشري خيراً، وبالتالي فكل ما يتشارك فيه الناس من سلوك، ويعتبره الفرد مناسباً له خير، وبتعبير آخر فالخير هو ما يتمناه المرء لنفسه، ويفعله في نفس الوقت مع أو للآخرين؛ لذلك فالعقل ضرورة للسيطرة على المشاعر، وتحقيق المتعة والسعادة بتفادي الألم، والحالة العقلية الأرقى كما يراها سبينوزا هي " الحب العقلاني للإله" وهذا الحب العقلاني يتحقق بما سماه "الفهم الحدسي" وهي قدرة أكبر من العقل العادي، يستطيع الإنسان بالاستخدام الصحيح لها أن يتأمل مجمل الوجود المجرد، والمادي، فيراه رؤية شاملة في حالته اللا نهائية التي هي التعبير عن الإله كما يراه سبينوزا.

أثرت اكتشافات فيلسوف العلوم الطبيعية إسحاق نيوتن في مفاهيم الأخلاق خلال القرن السابع عشر تأثيراً كبيراً، وقدمت نموذجاً واضحاً لقدرة العلم الطبيعي على التأثير في الأفكار المجردة لما استخدم الفلاسفة أفكار نيوتن للتدليل على أن ما يوصف بأنه نظام إلهي هو نظام عقلاني، يخضع لقوانين الطبيعة، وعبر الشاعر الإنجليزي الكسندر بوب عن هذه الفكرة، مقتبساً من الكتاب المقدس قائلاً " قال الرب فليكن نيوتن، فإذا بكل شيء يتضح" ومثلت اكتشافات نيوتن مصدر ثقة هائلة للفلاسفة الذين مضوا بقوة في اعتبار المنظومة الأخلاقية عمل عقلاني، مُرتب على أسس علمية مصدرها القوانين الطبيعية.

شهد القرن الثامن عشر قبل ظهور الداروينية فلاسفة أخلاق مؤثرين مثل البريطاني دافيد هيوم الذي ألف دراسة مهمة بعنوان"الأخلاق والسياسة" وآدم سميث صاحب نظرية الاقتصاد الحر الذي صاغ نظريته "العواطف الأخلاقية" على نسق نظريته الاقتصادية، ومضمناً إياها منظومة أخلاق ذاتية فردية، واتفق الاثنان على أن الخير هو ما يحقق مشاعر الإشباع والرضا، والشر هو ما يسبب التعاسة والألم، وطبقاً لنظريات هيوم وسميث تنشأ الاهتمامات العامة، والأفكار الأخلاقية من تعاطف الناس مع الآخرين الذين لا يمتون لهم بصلة قرابة، أو علاقة مصلحة.

وصاغ جان جاك روسو عقده الاجتماعي في نفس القرن مؤسساً هذا العقد على أفكار ونظرية هوبز، واعتبر روسو في كافة أعماله أن الشر هو انحراف اجتماعي عن الطبيعة البشرية التي هي خير بالفطرة، ثم جاءت أعمال الفيلسوف الإنجليزي ورجل الاقتصاد والسياسة وليام جودوين التي بلورتها دراسته المسماة "سؤال معني بالعدالة السياسية" ورفض فيها كافة المؤسسات الاجتماعية بما في ذلك الدولة، معتبراً هذه المؤسسات مصدر الشر.

ساهم الفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانت في نهاية القرن الثامن عشر مساهمة هامة في علم الأخلاق بكتابه "مبادئ ميتافيزيقا الأخلاق" وبين فيه أن لا قيمة لمدى ذكاء الفعل الفردي؛ لأن نتائج الفعل الإنساني محكومة بالأحداث والظروف المحيطة بالفعل، ويمكن فقط الحكم على أخلاقية الفعل بالدافع، وليس بسياق الفعل، فالنية وحدها كافية لتقود الإنسان لفعل الخير بدافع الواجب على عكس الهوى، فالواجب عند كانت خير في ذاته، وصاغ ما اعتبره الهدف الأخلاقي المطلق صياغة منطقية فيما سُمي القاعدة الذهبية التي توجه السلوك بقوله "تصرف كما لو أن المبدأ الذي أسست عليه تصرفك، أصبح بإرادتك الذاتية قانوناً كونياً من قوانين الطبيعة"

وسميت هذه القاعدة (المقولة الملزمة Imperative Categorical) لأنها صيغة أمر قاطع unqualified   وأكد كانت على أن أسلوب التعامل الأخلاقي هو ذلك الأسلوب الذي يتعامل فيه الإنسان مع الآخر باعتباره ذات ووجود كامل، وليس وسيلة لغاية يستهدف تحقيقها.

صاغ الفيلسوف البريطاني جيرمي بنثام Jeremy Bentham في نهاية القرن الثامن عشر منظومة أخلاقية مؤسسة على عقيدة فلسفية سماها النفعية Utilitarianism شرح مبادئها في مقدمة كتابه "مبادئ الأخلاق والتشريع" قائلاً أن النفعية هي الوسائل التي تستهدف تحقيق سعادة المجتمع، وان دافع الأفعال الإنسانية هو الرغبة في تحقيق سعادة المجموع، وليس المتعة الفردية الأنانية كما تحددها الفلسفة الأبيقورية، وبذلك يتحقق الخير بسعادة أكبر عدد ممكن من البشر، وقد تبنى الفيلسوف البريطاني جيمس ميل، وابنه جون ستيوارت ميل هذه الأفكار.

كتب هيجل في الربع الأول من القرن التاسع عشر كتابه الهام "أسس فلسفة الصواب" منطلقاً من مقولة كانت (المقولة الملزمة Imperative Categorical) واضعاً إياها في إطار جديد لنظرية تطور شاملة تعتبر التاريخ سلسلة من المراحل التي تتحرك إلى الأمام في اتجاه تأكيد حقيقة أساسية تعتبر المبادئ الأخلاقية سواء كانت علانية المنشأ أو روحانية ليست نتاجاً للعقد الاجتماعي، ولكن للنضج الطبيعي للأفراد الذي يبدأ وينمو داخل الأسرة ثم يتراكم تاريخياً، وقال "إن تاريخ العالم هو تجل لانضباط الرغبات الطبيعية المنفلتة، وتحول مسارها إلى طاعة المبادئ الكلية؛ دون تأثير على الحرية الشخصية".

رد عالم اللاهوت، والفيلسوف الدنماركي سورن كيركجارد على هيجل بقوة في كتابه "إما ــ أو Either - Or" في منتصف القرن التاسع عشر، واعتبر المحك الرئيسي للأخلاق هو الاختيار الحر، وقال أن المنظومات الأخلاقية المربكة مثل منظومة هيجل تجعل المسألة الأخلاق تبدو كما لو كانت إشكالية موضوعية يمكن حلها حلاً شمولياً،بدلاً من النظر إليها باعتبارها مسألة شخصية، يجب على كل فرد مواجهتها بنفسه منفرداً، وكان اختيار كيركجارد الشخصي هو العيش في إطار المنظومة الأخلاقية المسيحية، وكان تأكيده على ضرورة الاختيار الحر، متأثراً بوجهات نظر فلسفية لبعض الوجوديين، وفلسفات يهودية، ومسيحية.

ولم تتأثر الأخلاق بالاكتشافات العلمية منذ اسحق نيوتن كما تأثرت بنظرية النشوء والارتقاء شارلز داروين، التي زودت نظرية الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر عن الأخلاق بدعم هائل، وأمدته بالمصطلح الرئيسي في فلسفته مصطلح "الأخلاق المتطورة Evolutionary Ethics " التي هي من وجهة نظر سبنسر مجرد نتاج لعادات سلوكية إنسانية مكتسبة خلال تطور الإنسان، واستخدم الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه مبدأ البقاء للأصلح كقانون أساسي من قوانين الطبيعة التي أقرتها نظرية النشوء والارتقاء لصياغة فلسفته عن الإنسان المتفوق (السوبرمان) وقال أن السلوك الأخلاقي ضرورة للضعاف فقط حيث تمكن الضعيف من تحمل إحساسه بسطوة القوي عليه، وهي أخلاق عبيد خاصة تلك المنتمية لليهودية والمسيحية، وطالب نيتشه بتوجيه كافة السلوكيات لتطوير الإنسان المتفوق فقط، فهو وحده من يمتلك القدرة على إدراك الإمكانيات الحقيقية والفعالة للحياة، وكانت نماذجه الممثلة لهذا النوع من البشر هم الفلاسفة ما قبل أفلاطون، والشخصيات الديكتاتورية مثل يوليوس قيصر، ونابليون.

عارض الأمير الفيلسوف والمصلح الاجتماعي الروسي بيوتر كروبتكين Pyotr Kropotkin مفهوم الصراع المتواصل عديم الرحمة، ورفض الاعتراف به قانوناً من قوانين الطبيعة، وقدم دراسات تطبيقية عن سلوك الحيوانات في الطبيعة بين من خلالها أن الحيوانات تتبادل المنفعة، وتتعاون فيما بينها، وأكد أن بقاء النوع يعتمد على تبادل المنفعة، وأن الجنس البشري حقق التطور النوعي دون الحيوانات لأنه يمتلك قدرة أكبر على التعاون، وتبادل المنفعة، وأصدر عدداً من الأعمال العلمية الهامة التي تتضمن أفكاره في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين من أهمها (تبادل المنفعة Mutual Aid ــ عامل من عوامل التطور ِA factor in Evolution الأخلاق Ethics الأصل والتطور Origin and Development) وكان مؤمناً أن الحكومات مؤسسة على القوة، وأنها إذ تستأصل غريزة التعاون من الناس، فإنها تستبدلها بنظام تعاوني زائف، ودعا إلى نظام فوضوي مثالي.

أدخل علماء علم الإنسان (الأنثربولوجي) مبادئ متطورة لدراسة المجتمعات الإنسانية، وثقافات هذه المجتمعات، وقد أعادت هذه الدراسات تقييم مفاهيم الخطأ والصواب، وبينت أن الخطأ والصواب مسألة نسبية بين المجتمعات المختلفة، وليست مفاهيم شاملةً، وبرزت دراسات عالم الأنثربولوجي الفنلندي إدوارد إيه وست مارك في دراسته المهمة "نسبية الأخلاق "Ethical Relativity.  في الربع الأول من القرن العشرين.

أثرت بقوة أعمال سيجموند فرويد، ومن تلاه من المتأثرين بنظريته في علم النفس؛ كما أثرت دراسات علماء السلوك التي استندت على اكتشافات عالم الفسيولوجي الروسي إيفان بافلوف في فلسفة الأخلاق رغم أن الدراسات الأخلاقية لم تستوعب كافة أفكار فرويد، ولم تتعمق في دراستها.

نسب فرويد مسألة الخير والشر داخل كل نفس إلى الصراع بين الدوافع الفطرية التي تستهدف إشباع الغرائز، والرغبات من جهة؛ وبين الذات الاجتماعية التي تعمل على قمع هذه الدوافع لتمكن الإنسان من التعايش مع أقرانه في المجتمع، وبين فرويد أن شعور الإنسان بالذنب، وتصوغ مفاهيم الإنسان عن الخير والشر هذا الشعور الذي يكون ذو صلة بالمفاهيم الجنسية غالباً.

وتبنى علماء السلوك منهجاً لدراسة السلوك الإنساني من خلال دراسة سلوك الحيوانات، وطرحوا نظريات عن إمكانية تغيير السلوك الإنساني من خلال التدخل في بيئة الإنسان، والظروف المحيطة به، وانتشرت أفكار السلوكيين في أمريكا في عشرينات، وثلاثينيات القرن العشرين انتشار النار في الهشيم في نظريات طب الأطفال، والتعليم، وتربية الصغار، والتدريب، ووجدت نظريات السلوكيين المجال الرحب للتطبيق في الإتحاد السوفيتي السابق، وحققت الأثر التطبيقي الأعظم فيما سمي بتشكيل (المواطن السوفيتي الجديد) حيث استخدمت هذه النظريات في منظومة إجراءات وقواعد صارمة لتكييف المواطن مع المجتمع، وإخضاعه لقواعد هذا المجتمع الذي وضع قاعدة أخلاقية بسيطة وواضحة، فالخير هو ما يتفق مع مصالح الدولة، والشر كل ما يعارضها، أو يعارض مصالحها.

تأثر أبو البرجماتية الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس بأفكار فرويد، وإيفان بافلوف، وكانت أهم مشاركاته في علم الأخلاق هي وجهة نظره عن أهمية العلاقات البينية بين الأفكار، وما ينتج عن هذه العلاقات من نتائج أسوة بما ينتج من علاقات بين الظواهر الطبيعية، وجاء في نظريته (البرجماتية) عن الأخلاق  أن قيمة الأفكار تحددها نتائج هذه الأفكار، فالأفكار الخيرة تلك التي لها عائد، والعكس صحيح.

وترك الفيلسوف البريطاني برتراند راسل أثراً قوياً على دراسات علم الأخلاق في القرن العشرين من خلال نقده الصارم للقيم الأخلاقية التقليدية، وكان يرى أن أحكام الناس الأخلاقية تعكس رغباتهم الفردية، أو العادات المقبولة منهم، واعتبر أن القديس الزاهد، والمذنب الخطاء كلاهما نموذج بشري قاصر، وكان يعتبر الإنسان الكامل هو ذلك الذي يشارك في الحياة المجتمعية بكامل طاقته، ويعبر بتلقائية عن طبيعته البشرية، وأن تجاوزات بعض الأفراد يجب إيقافها من أجل المصلحة العامة، كما يجب منع تجاوزات المجتمع على الحقوق الفردية للأفراد؛ واعتبر نمو الفرد الطبيعي (نسبياً) هو ذلك النمو الذي لا تعوقه العوائق الاجتماعية، لأن واقعية الشخص وإدراكه للمحيط الطبيعي الذي يعيش فيه، يحقق رفاهية الحياة، وانسجام المجتمع.

أثرت أفكار سيجموند فرويد، ومن تلاه من علماء النفس على اختلاف اتجاهاتهم، ودراسات علم السلوك (الذي استند على اكتشافات عالم الفسيولوجي الروسي إيفان بافلوف) تأثيراً قوياً على مفاهيم الأخلاق، فقد نسب فرويد مفاهيم الخير والشر إلى الصراع الذي ينشأ داخل النفس البشرية؛ هذا الصراع الذي ينشأ بين الدوافع الفطرية التي تستهدف إشباع الغرائز والرغبات، وبين الذات الاجتماعية التي تعمل على كبح هذه الدوافع ليتمكن الإنسان من التعايش في المجتمع، ورغم عدم استيعاب الأفكار الفرويدية بالعمق الكافي في الدراسات الأخلاقية إلا أن الفكرة الفرويدية القائلة بأن (الشعور بالذنب الذي ينتج أغلبه من سبب جنسي، يتأثر بقوة من رصيد الفرد الفكري عن الخير والشر) تركت أثراً على فلسفة الأخلاق لا يمكن محوه.

تبنى علماء السلوك في المقابل (نتيجة دراستهم لسلوك الحيوانات) معتقدات قوية عن إمكانية تغيير سلوك الإنسان من خلال التدخل في البيئة المحيطة به، وإعادة ترتيب الظروف المؤثرة في السلوك لتحقيق تغيير معين، وانتشرت أفكار السلوكيين في أمريكا في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين انتشار النار في الهشيم في نظريات طب الأطفال، والتعليم، وتدريب الصغار، وتجلت آثار السلوكيين تجليها الأعظم في الاتحاد السوفيتي السابق لتشكيل ما سُمي "المواطن السوفيتي الجديد" من خلال منظومة إجراءات صارمة، تعمل على إخضاع المواطن للمجتمع، وكانت منظومة الأخلاق السوفيتية هي الأبسط والأوضح، فالخير هو ما يتفق مع الدولة ومصالحها، والشر كل ما يتعارض مع الدولة ومصالحها.

زاوج عدد من فلاسفة القرن العشرين بين فلسفة الأخلاق الوجودية، وأفكار كيركجارد، ونيتشه عن الاختيار الأخلاقي الذاتي، وكان لبعض هؤلاء الفلاسفة توجه ديني في إطار ظاهرة ما بعد الحداثة التي مثلت السلفية أحد تجلياتها، وكان الفيلسوف الروسي نيكولاي الكسندروفيتش بردياييف أحد الذين أكدوا من منطلق ديني على أهمية حرية روح الفرد، وشغلت أخلاقيات العلاقات البينية بين الأفراد الفيلسوف اليهودي النمساوي مارتن بوبر من منطلق عقائدي، كذلك عالم اللاهوت الأمريكي بول تيليش الذي أكد على أهمية تمتع الإنسان بالشجاعة حتى يحقق ذاته، ويكون نفسه من منطلق مسيحي، ورجل المسرح والفيلسوف الكاثوليكي الفرنسي جابرييل مارسيل، وطبيب النفس والفيلسوف الألماني البروتستانتي كارل جاسبرز اللذان اهتما في أعمالهما بتفرد الإنسان، وأهمية تواصل الأفراد، وفي إطار نفس الظاهرة ظاهرة ما بعد الحداثة، وما شهدت من ردة سلفية انحاز بعض فلاسفة القرن العشرين المعنيين بالأخلاق إلى الماضي مثل الفرنسيين جاك ماريتاين وإيتين جيلسون اللذان اعتبرا الوجودية الحقيقية كامنة في أعمال القديس توما الأكويني.

رفض في المقابل بعض فلاسفة القرن العشرين مجمل الأفكار العقائدية التقليدية، فمارتن هيدجر الفيلسوف الألماني أنكر وجود الله، وقال باحتمال أن يجيء إله ما في المستقبل، وقال أن البشر وحدهم في هذا الكون مما يلزمهم باتخاذ قراراتهم الأخلاقية وهم واعين بأنهم فانين، وأكد الفيلسوف، والروائي، والمسرحي الفرنسي جان بول سارتر على أهمية الوعي بالموت والفناء، ومواجهة ذلك كحقيقة واضحة من منطلق لا ديني، وأكد على مسئولية البشر الأخلاقية التي تلزمهم المشاركة في الفعاليات الاجتماعية والإنسانية في الأزمنة التي يعيشونها؛ بينما تبنى فيلسوف الذرائعية Instrumentalism الأمريكي جون ديوي فكرة أن ما هو خير هو ذلك الذي يتم اختياره بعد دراسة الظروف الموصلة إليه، والوعي بها، وإدراك صلاحيتها، وظهر الفلاسفة الطبيعيون أيضاً في إطار ظاهرة ما بعد الحداثة، واعتمدت الفلسفة الأخلاقية للثقافة الإنجليزية في القرن العشرين على أعمال جورج إدوارد مور صاحب مدرسة الحدس أو البديهة intuitionist ودراسته الهامة "مبادئ الأخلاق Principia Ethica" التي تناول فيها إشكالية المصطلح الأخلاقي الذي يوصف بأنه (خير) بينما لا يمكن تعريف الخير لأنه مكون أولي لا يمكن تفكيكه، ورغم اختلاف الطبيعيون مع نظرة مور عن الخير إلا أن المدرستين اتفقتا على أن الضوابط الأخلاقية هي مواصفات نسبية للوجود؛ قد تكون صحيحة، وقد تكون خاطئة.

ثم ظهر مع تطور مدرسة جان بياجيه في الإدراك المعرفي دراسات أخلاقية معنية بدراسة الأخلاق في إطار اكتشافات هذه المدرسة من بينها مدرسة المنطق التجريبي Logical Empiricism التي عنيت بدراسة صلاحية المقولات الأخلاقية مقارنة بالمقولات المجردة، والمقولات المنطقية، وقال بعض دارسيهم أن المقولات الأخلاقية لا تتجاوز كونها مقولات وجدانية ذات أهمية في التأثير والإقناع، وظهر في أمريكا في النصف الثاني من القرن العشرين فلاسفة اهتموا بآثار الاقتصاد على الأخلاق.

الأخلاق العربية والإسلامية

لم يصلنا من مظاهر الحياة العربية قبل البعثة المحمدية، وعناصر الثقافة النشطة فيها الكثير، ولم يصلنا أيضاً من هذه البيئة الصحراوية نصوص مكتوبة تمثل منظومة ثقافية يمكن الرجوع إليها للحكم على هذه المرحلة التاريخية، فقد أحدث الإسلام قطيعة معرفية مع ما سبقه من تاريخ اعتبره جاهلية، وغاية ما وصلنا عن هذه الفترة التاريخية إشارات عبر التراث الشعري، وحكايات أيام العرب، نستطيع استخلاص بعض الدلالات منها، وتبين هذه الدلالات أن الثقافة العربية قبل الإسلام متأثرة بالظرف البيئي، قد أعلت بعض القيم مثل القوة، والشجاعة لحاجة القبائل لغزو بعضها البعض بحثاً عن مصادر العيش، كما ثمنت الكرم كقيمة تعادل فقر الحياة الصحراوية الشحيحة، كما تتبين سيادة قيم سلبية مثل تحقير الأنثى، والدعوة للتخلص منها بوأدها لأنها تمثل عنصر ضعف اجتماعي كهدف جنسي، تُحقق سيطرة الخصم عليه إذلال الذكر (الأب والأخ والزوج والابن) كما أنها عنصر ضعف اقتصادي لا تمارس العمل الرئيسي (الغزو) وتنتقل بثروة الأسرة لقبيلة أو أسرة أخرى عند زواجها.

ولما جاء الإسلام ارتبط مفهوم الأخلاق فيه بالانضباط (الأدب في السلوك) فالإنسان ليس من طبيعة صالحة خيرة خالصة، وليس شريراً على وجه الإطلاق، وليست الخطيئة متأصلة في كيانه، وليس مسئولاً عن خطيئة سابقة كما في المسيحية، فالإسلام يرى في الإنسان طبيعة بين الخير والشر. وإيمانه بالله هو ما يرده عن الشر، وجاءت المفاهيم الأخلاقية موزعة في النص القرآني، ثم خصصت علوم الحديث النبوي باباً كاملاً عن الأخلاق، والآداب (السلوكية) مقسم إلى فرعين رئيسيين هما الأخلاق، والآداب والحقوق العامة، ويتفرع عن فرع الأخلاق قسمين رئيسيين هما مكارم الأخلاق، ومساوئ الأخلاق.

مكارم الأخلاق

قيم أخلاقية مجردة، يأتي الأدب مع الله ورسوله على رأسها، ثم يأتي بعد ذلك قيم سلوكية تُنظم العلاقة بين الناس مثل أداء الأمانة، والاحترام والتوقير، والاعتدال والتوسط، والإخاء، والحث على الإنفاق، والإصلاح بين الناس، والإيثار، والإخلاص، والاستقامة، والبر، والتقوى، والتواضع، والحب في الله، والحياء، والرحمة، والرفق، والزهد، والسكينة، والبر، والشكر، والصدق، والعدل، والعفة، وطاعة أولي الأمور، وقيم أخرى.

مساوئ الأخلاق

قيم أخلاقية مجردة، وأفعال سلوكية مثل الاختيال والفخر، وإتباع الهوى، والكبر، والاعتداء، والإفساد، والإسراف، والبطر، والتشاؤم، وأكل الربا، والمن، والبخل، والبغي، والبغض، والبهتان، والتبذير، والجبن، والتجسس، والتواكل، والحسد، والخيانة، والرياء، والشماتة، والشهوة، والصد عن الحق، والسباب، والسخرية، وسوء الظن، والطمع، والظلم،والعجب، والغدر، ونقض العهود، والعنف، والغضب، والغيبة، والنميمة، والغيرة، والغش، والغرور، والجفاء، والتعيير، والفجور، والكذب، وقول الزور، والفحش، والقذف، والسكر، والقتل، والكفر، والكبر، والهمز واللمز، ولغو الحديث.

الآداب، والحقوق العامة

تضمن ستة عشر قسماً فرعياً هي آداب الكلام، وآداب المجالس، وآداب الكتابة، وآداب المزاح، وآداب المشي، وآداب النوم، وإلقاء السلام، والاستئذان، والتثاؤب، والعطاس، وحق الضيف، وحق الطريق، وحقوق الجار، والمصافحة، والالتزام، ومعاملة الحيوان، ومعاملة العبيد، ومعاملة أهل الكتاب وغيرهم، ويتضمن كل قسم من هذه الأقسام عدداً من التفريعات التي تعمق شرح التفاصيل كمذكرات تفسيرية، وتوضح عناوين هذه الأقسام أنها معنية بالانضباط Discipline.

ثبات الأخلاق وتغيرها من منظور الفكر الإسلامي

وطبقاً للفهم العميق للنص القرآني فالإنسان ليس عبداً لمواريثه أو بيئته، بل قادر بفهم الدور الذي خلق من أجله أن يحرر نفسه من الخطايا، وكل موروث يمكن تغييره ولا تصد المواريث أو البيئة عن التحرر والتغيير.

}21{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }22{‏ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }23{ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ }24{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }25{ الزخرف

إلا أن الفكر الإسلامي (التالي على النص القرآني) لا يُقر نظرية تغير الأخلاق باختلاف البيئات والعصور، كما لا يقر نظرية التطور، ولا العقل، ويشكل مفهوم الأخلاق عند المفكرين الإسلاميين خلافاً أساسياً مع الفلسفة من منطلق أن الأخلاق الإسلامية إلهية المنشأ، بينما الأخلاق الفلسفية وضعية.

السبت، 28 يناير 2012

الحسبة

مفهوم الحسبة:
يعتمد مبدأي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في فكر الإسلام السياسي المعاصر على إنكار الجديد في الحياة باعتباره ابتداعاُ استناداً إلى مفهوم يستمدونه من القول "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" ارتكازاً على رواية العرباض بن سارية عن الرسول r "وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" أخرجه أبو داود (4067) وحديث جابر بن عبد الله عن النبي r حيث قال في خطبته "إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" أخرجه بهذا اللفظ النسائي في سننه (3/188) والحديث الشريف الذي رواه البخاري عن عمرانَ بنِ حُصَينٍ رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ r "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمرانُ: لا أدري أذكر النبيُّ r بعدُ قرنينِ أو ثلاثةً، وقول النبيُّ r إنَّ بعدَكُم قوماً يخونون ولا يُؤْتَمنونَ، ويشهدون ولا يُسْتَشهدون، ويَنْذِرونَ ولا يِفونَ، ويَظْهَرُ فيهِمُ السِّمَنُ".

ويختلف تفسير هذه الأحاديث ومفهومها في الفكر الديني ذاته؛ حيث يرى قطاع كبير من علماء الدين الإسلامي أن المقصود بالابتداع هو ما يضيف أو يُنقص من أعمدة الإسلام الخمسة، أو الشعائر والممارسات المتعلقة بها، ويشترط لوقوع البدعة قيودًا ثلاثة لا تكونَ إلا بتوفرها، وهي: (الإحداث؛ وأن يضاف هذا الإحداث إلى أصل من أصول الدين؛ وألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي؛ بطريق خاص أو عام.)

تجعل هذه القيود الثلاثة كل ما يُستحدث من أمور دنيوية، وممارسات سلوكية مهما كانت -ما دامت غير ذات صلة بأعمدة الدين- غير ذات صلة بمفهوم الابتداع أو الإحداث، ويمكن بناءً على ذلك تعريف البدعة بأنها ما أُحدث في دين الله، دون أصل عام أو خاص يدل عليه، أو (ما أُحدث في الدين بغير دليل.)

يقول الإمام الشافعي t"المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة، والثانية ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا؛ وهذه مُحدثة غير مذمومة."

ويستند المفسرون في ذلك على رواية عن أبي عمرو جرير بن عبد الله t قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله r فجاءه قوم عراة مجتابي النمار، أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر؛ فتمعر وجه رسول الله r لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ- إلى آخر الآية- إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء:1) والآية الأخرى التي في آخر الحشر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ (الحشر:18) تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة" فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله r يتهلل كأنه مذهبة؛ فقال رسول الله r "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء." رواه مسلم (246).

ويستند المفسرون أيضاً في ذلك على حديث آخر للرسول r رواه أحمد في المسند يقول فيه r "مثل أمتي كمثل الغَيْثِ، لا يُدري أوله خَيْرٌ أو آخره."

لذلك فإن الاستخدام الحادث لمفهوم الابتداع، والذي تستند إليه أفكار الداعين لأنشطة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) استناد غير صحيح وغير شرعي، ولو حاولوا قراءة تاريخ جماعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) السعودية، وكيف أن هذه الجماعة هي التي أخرجت جهيمان العتيبي الذي احتل الحرم، وهي الحاضنة التي نشأ في أحضانها أسامة بن لادن وصنعت أفكاره، لعرفوا أي منقلب سوء ينقلبون.

الثلاثاء، 10 يناير 2012

أرواح قلقة (2)


ابن الرِّيوَندي... الروح الحائر



بقلم: أحمد إبراهيم أحمد



ظهرت الزندقة ظهوراً غامضاً في التاريخ الإسلامي، ولم يسلط عليها المؤرخون ضوءاً كافياً رغم انتشارها زمن الخلافة العباسية، فقد تواجد الزنادقة في بغداد وحلب ومكة والبصرة والكوفة، وأرجع عدد من الباحثين هذا الظهور لنمو الحركة الشعوبية، وانتقال المؤثرات الثقافية للشعوب غير العربية، وعقائد غير المسلمين إلى الثقافة الإسلامية، وأشهر ما اتهم به الزنادقة ترك الفرائض كالصوم والصلاة والحج، وادعائهم أنهم قادرين أن يكتبوا نصوصاً أحسن من القرآن، وتعرض الزنادقة لمواجهة شرسة في خلافة أبي عبد الله محمد المهدي.

وتتحدث كتب تاريخية محدودة عن الزندقة والزنادقة، من بينها كتب تراثية مثل (كتاب الفهرست- كتاب الأغاني -كتاب مروج الذهب) وكتب حديثة من أشهرها (من تاريخ الإلحاد في الإسلام- شخصيات قلقة في الإسلام) من تأليف عبد الرحمن بدوي، التي صدرت في النصف الثاني من القرن العشرين.

وعُرِفَ ابن الرِّيوَندي أو ابن الراوندي كأبرز زنادقة التاريخ الإسلامي القديم، واعتبر واحداً من أهم دعاة الفكر اللا ديني في نصف القرن الثالث الهجري الأول خلال العصر العباسي، واشتهر كزنديق ملحد ذو شخصية جريئة مثيرة، وأحد الشخصيات العلمية البارزة في التاريخين العربي والإسلامي، فقد كان ذو جرأة بالغة على عقيدة الإسلام مُشككاً فيها، مُنكراً للنبوة، يدعي أن الوحي والنبوة لا ضرورة لهما، ونفي وجود الخالق، وبلغت شهرته حداً دفع مفكري وكتاب عصره للتباري في الرد عليه، ونقض كتاباته، وكانت له مجالس ومناظرات مع علماء الكلام، وله وجهات نظر في المذاهب ذكرها علماء الكلام ونسبوها له في ما تركوا من تراث.

قيل أنه كان يمشي في شوارع بغداد مجاهراً بإلحاده، ولم يتعرض له أحد بسوء، ولم يتعرض لاضطهاد رسمي أو شعبي، واكتفى فقهاء عصره بالرد على آرائه المعلنة رغم أنه خلال رحلته الفكرية الشاقة انتقد الشريعة الإسلامية، وعقيدة التوحيد، ويوم المعاد، وناقش مسألة العدل، والفرائض، وأزلية الوجود، وصفات الله، حتى ألحد تماماً وأنكر وجود الله والدين، ونفى معجزات النبوة.

اسمه الحقيقي أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي (الرِّيوَندي ) واشتهر باسم ابن الراوندي نسبة إلى قرية راوند البلدة التي ولد بها (بفتح الراء والواو وبينهما ألف وسكون النون وبعدها دال مهملة) وهي إحدى قرى قاسان (بالسين المهملة) من نواحي أصفهان بإيران.

ولد عام 205هـ الموافق 820م واختُلِفَ في تحديد منيته، فقيل أنه توفي ولم يجاوز الأربعين في عام 245هـ الموافق 859م وقيل مات عن عمر ناهز الثمانين سنة، وقيل أن الوزير المهلَّبي طلبه فهرب منه، ومات في الاستتار، وذكر أبو علي الجبائي أن السلطان طلب ابن الراوندي وأبا عيسى الوراق "فحُبس أبا عيسى حتى مات، أمّا ابن الراوندي فهرب إلى ابن لاوي الهروي، ووضع له كتاب (الدامغ) في الطعن على محمد r وعلى القرآن، ثم لم يلبث إلاّ أياماً يسيرة حتى مرض ومات، وذُكر أن وفاته كانت برحبة مالك بن طوق التغلبي." وقيل ببغداد[1].

مر ابن الراوندي بمراحل عقائدية متباينة، إذ بدأ تعليمه التقليدي في مدرسة إسلامية بقريته (راوند) درس فيها العلوم الشرعية السائد تعليمها، ويقال أنه كان طالباً مجداً، ثم انتقل من قريته إلى مدينة (الري) ليلتحق بمدرسة حظي فيها بإعجاب أساتذته، إلا أننا لا نعرف شيئاً عن هؤلاء الأساتذة ولا الدروس التي تلقاها، ويقال أن إقامته في (الري) كانت قصيرة للغاية، و يصفه من كتبوا عن هذه الفترة من حياته بأنه كان طيب السيرة، نقي السريرة، يراعي الآداب السائدة، محافظاً على الفرائض، يحترم السنن المرعية، وألف خلال هذه الفترة كتابه الأول (الابتداء والإعادة) وكتابه الثاني (الأسماء والأحكام) اللذان يؤكدان إيمانه وانتمائه العقائدي للإسلام خلال هذه المرحلة من حياته.

انتقل ابن الراوندي في شبابه من (الري) إلى بغداد العاصمة السياسية والفكرية والثقافية للخلافة العباسية، وعمل ببغداد وراقاً ينسخ الكتب؛ فساعدته مهنته تلك على الاطلاع، وساهمت في سعة ثقافته، وصار مُعتزلياً في صدر شبابه حتى أصبح واحداً من أعلام معتزلة القرن الثالث الهجري، ودافع عن آرائهم وفلسفتهم، لكنه انشق عليهم وانفصل عنهم، وأخذ يفند آراءهم ومناهجهم ويرد عليها، وانتقدهم في كتابه (فضيحة المعتزلة) رداً على كتاب الجاحظ (فضيلة المعتزلة) (ذكره ابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان) وقد وضع الخياط كتاب (الانتصار) رداً على كتابه هذا.

انحاز ابن الراوندي بعد ذلك للشيعة لفترة قصيرة، وألف خلال هذه الفترة كتاب (الإمامة) (ذكره الخياط وابن المرتضى) وطعن فيه على المهاجرين والأنصار اختيارهم أبي بكر y خليفة لرسول الله r وقال "أن النبي محمد r استخلف عليهم رجلاً بعينه (يعني علي بن أبي طالب y) وأمرهم أن يقدموه، ولا يتقدموا عليه، وأن يطيعوه ولا يعصوه، فأجمعوا جميعاً إلا نفراً يسيراً، خمسة أو ستة، على أن يزيلوا ذلك الرجل عن الموضع الذي وضعه فيه رسول الله r استخفافاً منهم بأمر الرسول r وعصياناً له" إلا أنه انقلب على الشيعة، وقطع علاقته بهم.

جاء لقاء الراوندي بالملحد البغدادي أبي عيسى الوراق ليكون حجر زاوية قلقه الفكري، وليحوله إلى أحد أشهر ملاحدة التاريخ، وقال خصوم أبي عيسى الوراق عنه أنه كان شيعياً رافضياً؛ إلا أن الخياط (كان مُعتزلياً) يقول أن الوراق كان معتزلياً في البدء، لكن المعتزلة طردوه لأفكاره المانويةً إذ كان يقول بمبدأي النور والظلمة، ويعتقد في خلود الأجسام[2].

بدأ ابن الراوندي بعد لقاءه بأبي عيسى الوراق رحلة شك قاسية، تتلمذ خلالها على اثنين من أهم أساتذة الزندقة (ابن طالوت ونعمان) كما تعرف وتتلمذ على الزنديق (أبو شاكر) الذي كان مُتشيعاً قبل أن يُلحد.

وصف الراوندي بأنه كان حاداً جاداً في جدله جاء عنه أنه قال:

"ما التصدي للحراب والقضاب ومبارزة الأبطال بأصعب من التصدي للجواب لمن أمك بالسؤال." وقال: "تحت كل لم أسد ملم."[3]

ويقال أن ابن الراوندي اجتمع بأبي علي الجبائي على جسر بغداد، فقال ابن الراوندي:

"يا أبا علي أما تسمع مني معارضتي للقرآن وتقضي له؟"  

فقال أبو علي:

"أنا أعرف بمجاري علومك، وعلوم أهل دهرك، ولكن أحاكمك إلى نفسك، فهل تجد في معارضتك له عذوبةً وهشاشة وتشاكلاً وتلازماً ونظماً كنظمه وحلاوة كحلاوته؟"

فرد ابن الراوندي قائلاً:

"لا والله."

فرد أبو علي:

"قد كفيتني، فانصرف حيث شئت."

وكتب ابن الجوزي في زندقة ابن الراوندي أكثر من ثلاث ورقات، وقال الجبائي:

"وضع كتاباً للنصارى على المسلمين في إبطال نبوة محمد r ونسبه إلى الكذب، وشتمه وطعن في القرآن الذي جاء به."

ويمكن فهم فكر ابن الرواندي من خلال النزعة المادية التي تبناها وموقفه من النبوة، فهو يرى أن الفكر الإنساني مستمر في التقدم إلى الأمام دوماً سواء قبل أو بعد الرسالة النبوية، ويرى أن هذا الفكر الإنساني يحقق بالقدرات العقلية للبشر إنجازات تراكمية بمرور الزمن حتى لو واجه فترات انحطاط، فالمحصلة النهائية هي التقدم والتطور.

و يلتقي ابن الرواندي في نزعته الإنسانية التي تبناها مع أفكار جابر بن حيان، وكافة المذاهب الغنوصية، والمذاهب المستورة، وأفكار التنوير التي ترى الحياة تمضي قدماً للأمام وتتطور بغض النظر عن قربها من الرسل أو ابتعادها عن الأنبياء رضي الله عنهم أجمعين.

ويقف هذا الفكر موقفاً معاكساً للفكر السلفي السني الذي يرى في العصر النبوي أرقى العصور الذهبية وأعظمها، وأن ما يليه من عصور، ينحدر تدريجياً كلما بعدت الشقة عن العصر النبوي، إذ يزداد تراجع العلم والقيم بالابتعاد عن هذا العصر.

تصدى لأفكار ابن الراوندي كثرة من معاصريه وممن جاء بعدهم من رجال الدين؛ مما يدل على أهمية وخطورة أفكاره، وممن رد عليه أبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي أحد شيوخ الشيعة الذي رد على كتاب (التاج) وألف الجبائي المعتزلي خمسة كتب للرد على ابن الراوندي وكتبه (الزمرد) الذي يحتج فيه على الرسل وإبطال الرسالة و(الدامغ) الذي يطعن فيه على نظم القرآن وكتاب (التاج) وكرس (الخياط - معاصر الجبائي) أيضاً جهوده لنقض كتب الراوندي، فكتب كتابه (الانتصار) نقداً لكتاب (فضيحة المعتزلة) كما نقد أيضا كتب (القضيب) الذي قال فيه الراوندي أن علم الله تعالى بالأشياء محدث، وأنه كان غير عالم حتى خلق خلقه، وأحدث لنفسه علماً، وكتاب (عبث، أو نعت الحكمة) الذي يسفّه فيه الله I في تكليف خلقه ما لا يطيقون من أمره ونهيه وكتابي (الزمرد-الدامغ) وهاجم الزبيري المعتزلي أربعة من كتب الراوندي، كما رد أبو الحسن الأشعري مؤسس الفرقة الأشعرية على ابن الراوندي في كتب كثيرة، وغيرهم كثير.

لم يكن كل من رد على ابن الراوندي على نفس القدر من الكفاءة العلمية والعقلية، فهناك من تناوله بالهجوم في شخصه ولم يتعرض لفكره، قال القاضي أبو علي التنوخي (المحسن بن علي بن محمد ابن أبي داود التنوخي البصري أبو علي)[4]:

"كان أبو الحسين ابن الراوندي يلازم أهل الإلحاد فإذا عوتب في ذلك قال: إنما أريد أعرف مذاهبهم، ثم إنه كاشف وناظر، ويقال أن أباه كان يهودياً فأسلم، وكان حُبر اليهود يقول للمسلمين: "لا يفسدنّ عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا." ويقال إن أبا الحسين قال لليهود: "قولوا إن موسى قال لا نبيّ بعدي."

وذكر أبو العباس أحمد ابن أبي أحمد الطبري أن ابن الراوندي كان لا يستقر على مذهب، ولا يثبت على انتحال حتى ينتقل حالاً بعد حالٍ حتى صنف لليهود كتاب (البصيرة) رداً على الإسلام لأربعمائة درهم، فيما بلغني، أخذها من يهود سامرا، فلما قبض المال رام نقضها حتى أعطوه مائتي درهم فأمسك عن النقض.

وقال محمد ابن إسحاق النديم قال البلخي في كتاب محاسن خراسان: "أبو الحسين أحمد ابن الراوندي من أهل مرو الرّوذ من المتكلمين ولم يكن في زمانه في نظرائه أحذق منه بالكلام ولا أعرف بدقيقه وجليله منه، وكان في أول أمره حسن السيرة جميل المذهب كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك كلّه لأسباب عرضت له ولأن علمه كان أكثر من عقله."[5]

ويكاد كتاب (الانتصار) للخياط أن يضم النص الكامل لكتاب (فضيحة المعتزلة) فضلاً عن نقل نصوص كثيرة من كتاب (الزمرد) الذي رد عليه أيضاَ المؤيد في الدين هبة الله بن عمران الشيرازي الإسماعيلي الذي كان داعي الدعاة في عصر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي بكتابه (المجالس المؤيدية) الذي ورد في أحد أجزائه الكثير من كتاب (الزمرد) بشكل ساعد على معرفة محتوى هذا الكتاب بدقة كبيرة.

 وقد أمكن  التعرف من خلال هذين الكتابين (الانتصار، والمجالس المؤيدية) على مضمون كتاب (الزمرد أو الزمرذ) الذي يعتبره البعض قمة ما كُتب في الفكر الإلحادي في العصر العباسي، ففيه أكد الراوندي على سمو العقل على النقل، وبين أوجه تعارض الشريعة الإسلامية مع العقل، وشكك في أركان الإسلام وسخر منها سخرية قاسية، واستهزأ من العقائد الإسلامية، وطعن في الإسلام والقرآن، وأنكر النبوة ومعجزات محمد r وآيات الأنبياء وأنكر معجزاتهم الحسية وزعم أنها مخاريق حسب كلام الخياط (ذكره ابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان والخياط) ويمكن تلخيص أهم الأفكار والشكوك التي طرحها ابن الراوندي في كتابه (الزمرذ) فيما يلي:

-   الشعائر الإسلامية، والحج والطواف، ورجم الشيطان كلها عادات وثنية، وطقوس هندوسية كان العرب يمارسونها في الجاهلية.

-   تهكم على وصف الجنة، حيث فيها حليب لا يكاد يشتهيه إلا الجائع، والزنجبيل الذي ليس من لذيذ المشروبات، والإستبرق الذي هو الغليظ من النسيج.

-   لا فضل للغة العربية على غيرها من اللغات، ولا تفرد للقرآن، ولا إعجاز به، إذ أنه من وجهة نظره لا يلزم غير الناطقين بالعربية، وأن القرآن يمكن كتابة نص أحسن منه، وإن عدم محاكاة العرب للقرآن يرجع لانشغالهم بالقتال.

-   ما يأتي به الرسول إما أن يكون معقولاً أو غير معقول، فإن كان معقولاً فقد كفانا العقل إدراكه فلا حاجة لرسول، وإن كان غير معقول فهو غير مقبول.

-        تساءل عن سبب عدم نزول الملائكة لعون المسلمين في معركة أحد.

-        اعتبر غزوات الرسول محمد r سلباً ونهباً.

ويمكن تلخيص أهم آراء ابن الراوندي في:

1. ليس على الله أن يرسل الرسل، أو يبعث أحداً ليكون نبياً له، ويرشد الناس إلى الصواب والرشد، لأن في قدرة الله وعلمه أن يجعل الإنسان يرقى ويمضي إلى رشده وصلاحه بطبعه.

2. إن تصورات الإنسان عن الخالق والمبدأ محاطة بالأوهام والأساطير، لأن فكر الإنسان يعجز عن إدراك الخالق أو معرفة أوصافه.

3. لا سبيل لمعرفة سر الموت، فالإنسان منذ خلق وهو يبحث عن سر الموت كي يحول دون وقوعه، فأخفق حتى الآن في هذا السعي، وقد لا يوفق في الاهتداء إلى سره إلى الأبد، و لا يعلم الناس جميعاً كيف يموتون، ولو جرب الإنسان الموت ما أدركه أو عرفه حق المعرفة، ومعاينة الإنسان موت الآخرين لا تعلمه شيئاً عن أسرار الموت.

4. يشعر الإنسان بالخلود كونه عاجزٌ عن إقناع نفسه بأنه سيموت، وبأنه سينعدم من هذا الوجود، فلدى الإنسان شعور بأنه لن يموت أبداً، وأنه حين يُثوى في قبره سيعيش ويبقى حياً، وإن يكن ذلك بطريقة أخرى وبنشأة تختلف عما كان عليه في هذه الدنيا.

5. الملائكة الذين أنزلهم الله يوم معركة بدر كانوا "مفلولي الشوكة وقليلي البطش، فلم يقتلوا أكثر من 70 رجلاً، ولم ينزل أي ملاك يوم معركة أحد عندما توارى النبي r بين القتلى فزعاً."

6.   لا يختلف الطواف حول الكعبة عن الطواف عن غيره من البيوت.

ويرد المؤيد في الدين هبة الله بن عمران الشيرازي الإسماعيلي في كتابه (المجالس المؤيدية) على آراء الراوندي بأن:

-   بشأن كفاية العقل لإدراك الصالح والطالح وعدم الحاجة للأنبياء, فوظيفة العقل إبصار الأمور الباطنة والغائبة عن الحس مثلما الحواس مسئولة عن مبصرات الدنيا، فالبصر لا يستطيع الرؤية دون تحفيز خارجي كضوء الشمس أو القمر، والعقل لا يستطيع الإدراك دون محفز خارجي؛ مثله كامتلاك الإنسان لسان وحنجرة وشفتين لا تكفي وحدها لبدء النطق.

-   بالنسبة إلى التهكم على طقوس الحج، والطواف، ورجم الشيطان، والزكاة، والصلاة فهذه الطقوس غرضها الأساسي خرق الغرائز البدائية للإنسان، وإشباع حاجاته الروحية التي هو بحاجة لإشباعها.

-   كون القرآن فريداً، وتفضيل اللغة العربية على غيرها من اللغات سببه أن الكلام كالجسد له روح، وروح الكلمة المعنى، وكما الأجساد فإن اللغات والكلمات قد لا تتفاوت كثيراً، ولا يمكن اعتبار أحدها خيراً من الآخر، حيث المعنى وروح الكلمة هما الفيصل، وإن اعتبر العرب -الذين هم أهل اللغة- القرآن إعجازاً، فإن روح الكلمة ومعاني القرآن وحكمته، تطغى على اختلاف اللغات والعبارات.

-   عدم نزول الملائكة يوم أُحد مرده أن من يؤمن بالملائكة، يُدرك أن جبريل قادر على دفع الكفار بريشة واحدة من جناحه، وأن ملكين أو ملك واحد كان كافياً لإهلاك قوم لوط وثمود وصالح، ونزول الملائكة في بدر كان غرضه رفع الروح المعنوية للمسلمين، وحل مثالي لتوزيع الغنائم بين المسلمين الجدد، باعتبار الله وملائكته هم أصحاب ذلك النصر.

ويحكم نخبة رجال الدين الإسلامي على ابن الراوندي من مقولاته بأنه فيلسوف ملحد، وليس عندهم شك في إلحاده وردته في التكييف الفقهي الإسلامي، ووصف بعض من ترجم له أنه من مشاهير الزنادقة، وأنه كان يحتال لنشر إلحاده فينسب آرائه للبراهمة، ويرون أنه غلب عليه عقله، وأن ثقته بهذا العقل المجرد جعلته يظن أن الذهن البشري قادر على تمييز الخير من الشر، وأن إتباعه لهذا النُهى (الذي هو قاصر من وجهة نظرهم) جعله يستخف بالوحي والسنة، فجاءت أفكاره مجافية للمنطق، مفارقة للحق، بعيدة عن مناهج الإسلام.

ونص ابن تيمية في مجموع الفتاوى على أنه زنديق، وقال عنه الذهبي في السير:

"ابن الراوندي الملحد." وذكر الغزالي إلحاده في كتابه الأشهر إحياء علوم الدين، ونقض عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال عنه:

"كان ابن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد والإنكار والستر والتغطية، وليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفراً، ولا يجوز إيمان إلا ما كان في اللغة إيماناً، وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر، ولا السجود لغير الله كفر، ولكنه علم على الكفر، لأن الله بين أنه لا يسجد للشمس إلا كافر."

وقال ابن الجوزي:

"زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري."[6]

ويرى بعض المفكرين الإسلاميين أن مذهب ابن الراوندي هو مذهب المرجئة الذين يجعلون الإيمان مجرد التصديق، لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وما ليس بتصديق ليس بإيمان، ويزعمون أن التصديق بالقلب واللسان جميعاً، ويخرجون العمل عن مسمى الإيمان، ويرون أن طريقة ابن الراوندي الإرجائية هي طريقة بشر المريسي.

ترك ابن الراوندي من الكتب مائة وأربعة عشر كتاباً مليئة بالحجج القوية المتقنة، والآراء الجريئة على الثوابت الإسلامية، ذكر بعضها أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط في كتابه (الانتصار).[7]

ومن كتب الراوندي التي ذكرها الخياط في كتابه الانتصار (الابتداء والإعادة- الأسماء والأحكام - البقاء والفناء - لا شيء إلا موجود – اللؤلؤ) وذكرهم ابن البلخي، وكتاب (خلق القرآن) ذكره ابن البلخي وابن النديم، وكتاب (الطبائع في الكيمياء) ذكره الخياط وابن المرتضى، وكتابي (القضيب) و(التاج) الذي يحتج فيه لقدم العالم وقد ذكرهما الخياط وابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان، وكتاب (التعديل والتجوير) وكتاب (الفرند) الذي انتقد فيه بعث الرسل ورسالات الأنبياء، ورد عليه أبو هاشم كما أشار ابن المرتضى، وجاء ذكر هذا الكتاب عند ابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان، وكتاب (البصيرة) الذي ذكره أبو العباس الطبري، وقال أن الراوندي ألف هذا الكتاب نزولاً عند رغبة اليهود طعناً في الإسلام، وكتاب (الدامغ) وهو طعن في القرآن ومعارضة له وذكره ابن البلخي وابن المرتضى، وكتابي (التوحيد- الزينة) وكتاب (اجتهاد الرأي) الذي ذكره ابن النديم في كتابه الفهرست وقال أن أبا سهل النوبختي رد على هذا الكتاب، وأشهر هذه الكتب (عبث الحكمة) الذي طعن فيه على مذهب التوحيد وتحدث عن الوثنية، ولا يوجد للأسف معرفة بمضمون معظم هذه الكتب لأنها اختفت ضمن ما اختفى من كنوز الفكر العربي والإسلامي.

إن الحديث عن ابن الراوندي ليس طعناً في الإسلام، ولا انحيازاً للزندقة، ولكنه تعرف على مساحة فكرية هامة في تاريخ الفكر الإنساني، أضافت لهذا الفكر سواء اختلفنا معها أو اتفقنا حولها، فموقف ابن الراوندي المنكر للنبوة، موقف شديد التفرد Idiosyncrasy في الفكر الإلحادي، ومنهج العقل الإنساني، ونتاج حقيقي لمنطق مختلف في الذهنية البشرية، تميز بها الفكرين العربي والإسلامي، فبينما أنكر الإلحاد الوثني الآلهة في الفكر الفلسفي اليوناني، وأعلنت الفلسفة الغربية الحديثة بعد المسيحية على لسان نيتشه "موت الله" تبقى أفكار ابن الراوندي فريدة في اختلافها مع هذين المنطقين اللذان نقضا الإلوهية، فأفكار الراوندي لا تهاجم الإلوهية، وإنما تهاجم الفكر العقائدي الديني، وتنفي النبوة كصلة وحيدة بين المفارق Transcend والإنساني Human والتي إذا انتفت انتفى معها مفهوم الدين، ومن ثم تزول الأديان، ولا يصبح هناك معنى أو ضرورة لمهاجمة الإله والإلوهية.



لمزيد من القراءة:

1.    ابن النديم: الفهرست.

2.    عبد الأمير الأعسم: ابن الريوندي في المراجع العربية الحديثة، مجلدان، دار الأفاق الحديثة - بيروت – لبنان.

3.    عزيز العظمة: ابن الريوندي، رياض الريس للنشر- بيروت – لبنان.

4.    عصام محفوظ: حوار مع الملحدين في التراث، دار الفارابي- بيروت – لبنان.

5.    عبد الرحمن بدوي: شخصيات قلقة في الإسلام، الطبعة 2، دار النهضة العربية- القاهرة 1964م.

6.    عبد الرحمن بدوي: من تاريخ الإلحاد في الإسلام- الطبعة الثانية-دار سينا للنشر- القاهرة 1993م.

7.    صلاح الدين الصفدي: الوافي بالوفيات، الموسوعة الشعرية الإلكترونية http//www.cultural.org.ae



[1] عبد الرحمن بدوي: من تاريخ الإلحاد في الإسلام- الطبعة الثانية-دار سينا للنشر- القاهرة 1993م.
[2] عبد الرحمن بدوي: من تاريخ الإلحاد في الإسلام- الطبعة الثانية، ص 49-دار سينا للنشر- القاهرة 1993م.
[3] الراغب الأصفهاني (الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم الأصفهاني): محاضرات الأدباء، ومحاورات الشعراء والبلغاء، باب (مما جاء في المجادلة والمذاكرة). http//www.cultural.org.ae
[4] القاضي التنوخي: جامع التواريخ (نشوار المحاضرة).
[5] صلاح الدين الصفدي: الوافي بالوفيات، الموسوعة الشعرية الإلكترونية http//www.cultural.org.ae
[6] الحافظ شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء، http//www.cultural.org.ae
[7] أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط: الانتصار.