الأحد، 18 سبتمبر 2011

بنك كريدي أجريكول مصر، ونظام (فوت علينا بكره)


بنك كريدي أجريكول مصر، ونظام (فوت علينا بكره)

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد
عضو اتحــــــــــاد كتاب مصر

 أودعت قبل ما يقارب الثلاثين عاماً مبلغاً متواضعاً كوديعة في البنك المصري الأمريكي من خلال سيدة رائعة شديدة التهذيب تدعى مدام هادية في فرع صلاح سالم بالإسكندرية، وكانت عملية بسيطة ودقيقة فيما يعرف مصرفياً Fair job.
تقلبت الأيام وجرى بيع البنك المصري الأمريكي، وانتقلت خدماته وعملائه لبنك كريدي أجريكول مصر منذ عدة سنوات، ومنذ ذلك الحين أخذت تعاملات البنك مع العملاء منحى مختلفاً عما تعودوا عليه مع البنك المصري الأمريكي، حيث صارت العمليات المصرفية أكثر بطئاً وتعقيداً، ولوحظ كثرة تغيير الموظفين؛ حيث هناك دائماً وجوهاً تختفي، وأخرى جديدة تظهر، وأسلوب تعامل مصرفي مشوش، يميل لإقناع العميل بعمليات بعينها دون غيرها.
استمر تعاملي مع البنك رغم هذه الملاحظات لا لشيء إلا أن تعاملاتي محدودة للغاية وعبر فترات زمنية طويلة لا تستلزم احتكاكاً بالبنك أو العاملين به؛ رغم الشعور بعدم الراحة في كل مرة؛ حتى جاءت الطامة الكبرى اليوم الأحد الثامن عشر من شهر سبتمبر 2011 م حيث احتجت للوديعة التي تركتها لديهم بهامش ربح يقترب من الصفر لسنوات طوال، ففوجئت بأسلوب تعامل ردني للبرنامج الإذاعي القديم الذي يتفجر فيه صوت الممثل بكلمات "فوت علينا بكره يا أستاذ" وكنت قبل لحظات في بنك حكومي (البنك الأهلي المصري) وأنهيت كافة الإجراءات برقم الحساب والبطاقة الشخصية (بطاقة الرقم القومي) فماذا كانت إجراءات (بنك القطاع الخاص)؟
ذهبت إلى قسم خدمة العملاء لشاب شكله لطيف، يغادر مكتبه بين لحظة وأخرى ليرد على مكالمات خاصة في هاتفه الجوال، وهناك عميل له معاملات كبيرة مع البنك يطلب منه بياناً بحركتها، أدخل الموظف عميل البنك هذا في دوامة حيص بيص، وكلما حاول الرجل المسكين أن يُعبر عن احتياجه يقترح عليه اقتراحاً غريباً، كأن يدفع عشرين جنيهاً للحصول على إفادة ما، وحين يتملص الرجل مستغرباً أن يدفع ثمن معلومة تخصه من بنك هو عميل له، يحيله الموظف إلى حل آخر ثمنه ستين جنيهاً، حتى يأس الرجل وغادر المصرف على أمل أن يصله بيان حسابه البنكي في نهاية الشهر وأمره لله.
جاء دوري وقد أصابني الاستفزاز من الأسلوب الذي عومل به عميل أكثر أهمية وتعاملات مع البنك مني، وكان طلبي تصفية حساباتي مع البنك، وهي وديعة متواضعة بالدولار الأمريكي، وشهادة إيداع متواضعة بالمبلغ المصري، فماذا حدث؟
قام الموظف بعرض تسويقي اقترح فيه على استبدال وديعتي بالعملة الأجنبية للجنيه المصري(لدى البنك وبسعر البنك، وليس سعر السوق) وعمل وديعة بالجنيه المصري والاقتراض بضمانها.
حين أصررت على تصفية حساباتي قال لي أن الوديعة بالعملة الأجنبية لن أتمكن من صرفها دفعة واحدة، بل على عدة أيام حسب تعليمات الحكومة، فوافقت، ثم سألني عن (أصل شهادة الإيداع) لحسابي بالجنيه المصري، فقلت له أني لا أتذكر عنها شيء، وأن أصول الوثائق كلها مدونة لديهم، فطلب مني إحضار أصل الشهادة، أو عمل محضر في قسم الشرطة بفقد الشهادة وإحضاره لهم!
تخيلوا.... بنك قطاع خاص يطلب محضر من قسم الشرطة لإكمال معاملة مالية لعميل.. هل يتخيل أحد ذلك؟
بدأ توتري يزيد وارتفع صوتي، فطلب مني الموظف الذي هو أصغر من أصغر أبنائي أن أخفض صوتي، وحين ذهبت بغضبي لمدير البنك الذي كان جالساً مع ضيوف له، خرج من مكتبه ليحدثني خارجه حتى لا يزعج ضيوفه بصوت عميل ثقيل... ولم يستطيع المدير المهذب صاحب القميص شاهق البياض والنظافة أن يضع حلاً أفضل مما قاله الموظف.
خرجت من المصرف غاضباً، وقراري أن انشر ما حدث على أوسع نطاق، فقد يراه مسئول من المسئولين عن هذه البنوك، فيتخذ إجراءً يعيد الأمور إلى نصابها، فقد تعاملت مع بنوك مصرية، وعربية، وأجنبية، ولم أجد مثل هذا الأسلوب البيروقراطي الذي واجهني في بنك كريدي أجريكول مصر... أسلوب يشبه تلك الأساليب التي يبتلى بها ويعاني منها من يتعامل مع المؤسسات الحكومية القديمة المتخلفة في دهاليز الأبنية القديمة المظلمة الرطبة، وموظفيها ذوي الياقات القذرة، والأكمام السوداء، والنظارات قعر الكوباية، بين أتلال الملفات الورقية الصفراء المدفونة في ملفات أكل عليها الزمن وشرب.
وهي رسالة لكل من يستهدف التعامل البنكي أن يحذر من هذه الدكاكين المصرفية، وأساليب تعاملها الفجة.
وهي رسالة وبلاغ للجهات المصرفية المسئولة أن تولي عنايتها هذه الدكاكين البنكية، وتضبط إجراءاتها، ومعاملاتها، فنحن لسنا بحاجة أن يتعلموا الحجامة في رؤوسنا، فلسنا من اليتامى.

تقرير سري للمخابرات الأمريكية عن مبارك

(منقول)
فجر تقرير سري للمخابرات الأمريكية عن الحالة النفسية للرئيس المخلوع تم تسريبه ضمن 24 ألف مستند اعترف الجنرال وليام جي لين نائب وزير الدفاع الأمريكي بسرقتها تمتع بعدة صفات خصها علماء النفس المكلفون بتحليل شخصيته تلخصت في كونه عنيداً، بليد الفهم ومنتفخ الشخصية يعشق الكذب، شكاكاً بطبيعته، ومتغطرساً وفارغاً ونماماً ويعشق اغتياب الغير وغير متدين، يشعر بالدونية وسهل الانقياد.
اعترف الجنرال الأمريكي في صباح الجمعة 15 يوليو أن من بين المستندات المسروقة تقرير الحالة النفسية للرئيس المخلوع، وكانت المخابرات الأميريكية CIA اعتادت تحليل الرؤساء حيث تعيد تقييم الحالة النفسية والسلوكية للرئيس المخلوع 4 مرات سنوياً وضعوا خلالها لمبارك وحده نحو 117 تقريراً ننفرد بنشر التقرير الأخير الذي يكشف مفاجآت عديدة لم تعلن من قبل.
وتقول مصادر صحفية أن مبارك بسبب طول سنوات حكمه كان مادة علمية نفسية ثرية سجلت في تقارير أعدها لحساب CIA أجيال متعاقبة من أطباء وعلماء نفس أمريكيين وأوربيين أمضوا ساعات طويلة في تحليل ودراسة تقاريره الطبية المسروقة من الجهات التي تردد عليها للعلاج أو لإجراء الفحوصات الطبية الدورية طيلة فترة حكمه وهي تلك التي تنوعت بين إشاعات دماغية وصدرية وحتي تحاليل البول والبراز نهاية بدراسة حركاته المسجلة في أفلام تعددت أنواعها من تسجيلية إلي أفلام الأخبار اليومية إلي أفلام لقاءاته اليومية وزياراته الدولية والمحلية إلي دراسة تقارير الخارجية الأمريكية عنه وحتي من واقع فحص خط يده ومن تقارير العملاء الأمريكيين عنه علي الأرض.
التقرير الذي وضعه العالمان الأمريكيان "بيتر روزنفيلد" من جامعة (نورث ويسترن) بولاية شيكاجو والعالم "ديفيد إيجلمان" خبير علوم الدماغ والتصرفات الإنسانية من جامعة (بييلر) الطبية بولاية تكساس يؤكد أن علماء المخابرات الأمريكية لم يستطيعوا في وقتهم تحليل نفسية كل من الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس السادات بمثل الطريقة التي ساعدت فيها العلوم الحديثة في الكشف عن خبايا نفسية الرئيس المخلوع وأنهم اكتشفوا بلا جدال وجود فروق نفسية كبيرة بين الثلاثة، أكدت أن حسني مبارك لم يرق للمقارنة العلمية مع الآخرين وأنه كان الأضعف نفسيا بينهم.
ويكشف التقرير أن علماء المخابرات الأمريكية وضعوا لمبارك في عدة مرات أثناء زياراته المتعددة للولايات المتحدة الأمريكية اختبارات نفسية متطورة للغاية دون أن يدري أو يشعر من حوله بأن رئيسهم يخضع للتجربة العلمية النفسية لكشف خبايا ما يدور بعقله ويؤكد التقرير من ديباجته أنهم كانوا يعمدون في كل زيارة له للبيت الأبيض أن يدعوه لمشاهدة عدد من الأفلام التسجيلية بقاعة سينما البيت الأبيض وبحضور الرئيس الأمريكي نفسه وفي مكان ما فوق الشاشة كانت هناك كاميرا تعمل بالأشعة تحت الحمراء كانت مضبوطة على المكان الذي سيحتله في الجلوس الرئيس المخلوع وعن طريق تلك الكاميرا كانوا يسجلون له أفلاماً كاملة هي التي كشفت عن أكثر النقاط غموضاً في شخصيته.
يستمر التقرير ويقدم تفسيرا أعمق فمثلا كانوا يختارون الأفلام بعناية فائقة بل يعترف التقرير أنهم زوروا عدداً من الأفلام حتي تعرض أمامه صوراً معينة ومختارة أرادوا له أن يطالعها على مدي ثوان مختلفة فمثلا رؤيته لصور أشخاص معينين على الساحة السياسية العالمية كانت تحدد من تصرفات حدقة عينيه وانفعالات وجهه مدي حبه أو كرهه أو احترامه للشخصية صاحبة الصورة ومن تلك الوسيلة مثلا مع المعلومات الأخرى المتاحة علموا أنه كان يكره ويحتقر عدداً كبيراً من الزعماء والرؤساء بالعالم كان من بينهم الرئيس الأمريكي جيمي كارتر وجورج بوش وصدام حسين وعلي عبد الله صالح والقذافي بل كره كذلك الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس السادات.
كانوا يعرفون حني تفكيره في الموضوعات التي يريد طرحها بنسبة تعدت 74% بتلك الطريقة ومن خلال عرض صور مثل القطارات أو الشوارع أو المطارات أو الفنادق أو الوزارات وعواصم الدول كانوا يتعرفون خلال ثوان علي ما يفكر فيه عقله بدراسة علمية حقيقية حتى نوعية السلاح التي يريد طلبها منهم كانوا يعرفونها قبل أن يطرح الحديث عنها حيث كانوا يتعمدون عرض نوعيات معينة أمامه علي الشاشات ويسجلون ردود أفعالهم حتى اتساع حدقة عينه كانوا يرصدونها علمياً ومنها كانوا يتعرفون علي ما سيقوم بطلبه في الجلسات التالية.
كانوا يتعرفون أيضاً علي التوقيتات التي يفكر فيها حيث كان يحب ضبط ساعته علي التوقيت الأمريكي، وكان الرئيس الأمريكي مدرباً علي أن يستدرج الرؤساء من ضيوفه لمكان الساعات العالمية بالبيت الأبيض حيث الساعات تضبط بشكل معين ومن انفعالات وجهه كانت عدسة تصورها وتنقلها لهم ليتعرفوا على التوقيتات التي يفكر فيها بما فيها أيام الشهر والعام.
يكشف التقرير أنهم وضعوه كما وضع غيره علي جهاز أشعة أمريكي مثبت ركبوه في جهاز الترجمة الفورية الذي يوضع علي الدماغ ومن هذا الجهاز كانت تسجل أشعة موجات دماغية تعرف بموجات (بي 300) ومنها بعد أن يسجلها الجهاز كانوا يدرسون شخصية الرجل بشكل علمي أعمق.
يشير التقرير أنهم سجلوا كذلك بذات الوسيلة العلمية صوراً تعرف باسم (إم أر آي) و(إف إم أر آي) وهي تلك التي كشفت عن التطورات التي طرأت علي مخه علي مر الوقت علي مدي أعوام طويلة ومنها كشفوا جوانب مذهلة في نفسية مبارك وهي حقائق علمية يعرفها العلماء الكبار بالعالم حاليا في علم معروف باسم (القوانين العصبية) NEUROLAW.
يكشف التقرير أيضاً سراً عن مبارك (الشخصية والجسد) فمن خلال التحاليل الطبية التي كان يجريها بالخارج ووصل منها الكثير لمختبرات المخابرات الأمريكية ومخابرات أجهزة أخري بالعالم حللوا الحامض النووي له حيث كانت المفاجأة لديهم هي وجود جين معروف باسم MAO-A ذلك الجين معروف أنه (الجين المقاتل) ووجوده لدي شخص ما يثبت علميا أنه شخص عدواني النزعة، وأصحاب هذا الجين كما يشير التقرير لا تستجيب مادة السيروتونين المهدئة للمخ لديهم لإشارات الدماغ لتهدئة الإنسان فيظل عدوانياً لفترات طويلة تستغرق معظم حياته وهو جين كما كتبوا أصيل يلازم الكروموزوم إكس وهو جين مثل الفيروس الإلكتروني عندما يصاحب ملفاً معيناً دون غيره.
أثبت التقرير أيضاً أن مبارك كان مريضا بمرض نفسي يُسمى ITS ALL ABOUT ME ولذلك كان لا يشعر بأي شخص آخر في الدنيا إلا نفسه وذاته وكان يحطم الآخرين حتي يتمتع دائما بأن نفسه هي الأهم في الدنيا فكان مستعداً لقتل أو حتي للاشتراك في قتل كل من هدد لديه تلك النزعة المرضية ولا سيما أن المخابرات الأمريكية جندته نفسيا دون أن يشعر كي يساند أمريكا دعائيا حتي يتخلصوا من صدام حسين الذي رأي فيه مبارك عدوا خطيرا ربما يحرمه من الصدارة والسيادة التي يشعر بها في العالم العربي.
كما رصدوا جيناًأحداثاً من شأنها أن تشعره بالقلق والخوف فكان يسارع لقتل ذلك القلق باللجوء إليهم حتي يشعر بالأمان وساعتها كانوا يوفرون بطريقة علمية نفسية له الأمان وكان الشرط المقابل هو تنفيذه لأمر ما فكان ينفذه بلا جدال وقد نجحت معه تلك الطريقة كثيرا.
كما أثبت التقرير أنه كان ضيق الأفق متهوراً؛ عندما يكره يقتل أو يدبر لقتل من يفكر فيه وأنهم خشوا علي الكثير من الشخصيات المصرية التي كانت تتداخل عنده علي تلك النقطة النفسية الخطيرة.
(مبارك الإمبراطور الملك) علي حد تعبير التقرير كان غير متدين، لا يري إلا مبارك، ومصر لديه لم يعد لها وجود فقد ذابت في شخصه، ولذا فقدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة الأمل في أي يشعر بشعبه فكل مصر أصبحت هو.
ووفقاً للتقرير المثير كان مبارك يريد مصر ملكية، وفكر في التوريث وخطط لذلك في الفترة من عام 2015 إلي عام 2017 وذلك بناء علي تحليل شخصيته ومن خلال صورة أشعة دماغية سربت من أحد المعامل الأوروبية التي أجري فيها صور أشعة مقطعية أثبتوا أن في أحد فصوص مخه جزء صغير يثبت ميله للإجرام ومنه أمكنهم تفسير حجم الفساد الذي كان يرعى فيه طيلة حكمه، ومن الجين المسئول عن سهولة الانقياد فسروا خضوعه للمقربين من حكمه مثل زكريا عزمي وجمال عبد العزيز وغيرهما وكتب التقرير عن تلك الحالة السيئة يقول: "كان يمكنهم لعب الكرة بهذا الرجل بسبب مرضه".
وطبقاً للتقرير كان مبارك بطئ الفهم، يكره الإسلام ويكره العنصرين العربي والإسلامي حيث كان في الأساس يشعر أنه فوق العالم كله فلم يكن هناك أمل أن يحقق أي مخططات للوحدة العربية، فقد كان قصير النظر فارغاً، يعتبر الرؤساء الذين سبقوه أقل منه شأناً، ولم يكن مثقفاً، ولا يحب القراءة، يعشق المال والسلطة، لا يفهم نهائياً في مسائل الأمن القومي، ولا وطن عنده سوي منزل أسرته.

الثلاثاء، 12 يوليو 2011

أخناتون وكهنة آمون


أخناتون وكهنة آمون

قراءة ثقافية لانتفاضة 25 يناير

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد



يقف العقل مشدوهاً أمام الأحداث التي تمر بها مصر منذ انتفاضة الشعب المصري غير المسبوقة، والتي استطاع من خلالها إسقاط رمز من أشد رموز الطغيان على مدى التاريخ البشري، ميزه عناد وجهل وغباء وتكبر غير مسبوقين، وشراسة ضبع خبيث لا يجيد إلا مهاجمة المؤخرات، وتَنكْرٌ طال أقرب الأقربين منه.

لكن تستلزم محاولة الفهم الأعمق للأحداث استخدام منطق يتجاوز الظاهر، فما حدث في مصر من تغيير حتى الآن، لا يتجاوز إزالة الطبقة العليا السميكة التي تكونت على سطح ماء راكد آسن وعفن، فانطلقت من تحته روائح كريهة، وحشرات وطفيليات، وديدان لا حد لها ولا حصر، وهذا يُفسرُ ما سمي خطأ (بلطجة) وهو في الحقيقة رد فعل مأساوي من جيوش مواطنين مصريين، استفادوا من نظام فاسد على مدى سنين طوال، فاستقرت حياتهم ونمت على هذا الفساد؛ مثلهم كمثل الجراثيم التي تنمو وتعيش على الجسد الحي، أو كالطفيليات التي تستنفذ وجود الكائن الذي تتطفل عليه حتى تقتله، وحتى الخلايا السرطانية التي تنمو بلا ضابط، وتظن أنها مستفيدة من استغلال الكائن الذي تتطفل عليه حتى تعيش هي، وتنسى أن موتها قرين بموت هذا الجسد الحي.

إن ما نتحدث عنه من ردود فعل قطاع كبير من المصريين يمثل كهنوتاً معقداً، فهو ليس فقط كهنوتاً دينياً، ولكنه كهنوت كل المجالات، فهو كهنوت تجاري، وصناعي، وطبي، وهندسي، وإعلامي، وغير ذلك، وهو يدافع عن مصالح ذاتية مرتبطة بنمط حياة، ومصالح أسر وأبناء، ومكاسب مادية لا يمكن الاستهانة بها؛ لذلك فلن يتوانى هذا الكهنوت عن الحرب ضد التغيير بكل شراسة، وبمختلف الأدوات المادية والمعنوية، ويعمل على استنساخ نفسه في أبنائه وكل المنتفعين من وجوده.

والإقرار واجب أن هؤلاء مصريون أردنا أو لم نشأ، وأنهم جزء لا يتجزأ من نسيج الوطن؛ صحيح أنه جزء مريض وغير سوي؛ لكنه يبقى جزءاً من الوطن شئنا أم أبينا، وواجبنا فهم هذا الجزء فهماً عميقاً حتى نستطيع اتخاذ القرارات الصحيحة بشأنه، وتحديد كيفية التعامل معه.

وتعتبر القراءة المتأنية للتاريخ، والتراث الثقافي المصري والعربي أداة مفيدة للغاية في فهم ما يحدث... صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن ذلك لا يعني أن أحداث التاريخ لا تعيد تشكيل نفسها، وتتخلق في أشكال جديدة؛ حتى وإن كانت القاعدة أن هذه الأحداث غير قابلة للإعادة؛ بمعنى أن الزمان والمكان والأحداث كلها كمركب حادثة تاريخية غير قابلة لإعادة الإنتاج، لكن الحدث المفرد ذاته قد يتشكل في هوية أخري لعوب، ليحدث في زمان ومكان جديدين، أو في نفس المكان لكن في زمان آخر.

ونستطيع من خلال قراءة أحداث تاريخ الأسرة الفرعونية الثامنة عشر التي حكم فيها عاشر فراعنة الأسرة أمنحوتب الرابع، والذي عُرف باسم أخناتون (المخلص لآتون) واشتهر باعتباره مصلحاً دينياً، وحد الآلهة في إله واحد هو (آتون) الذي لم يكن رباً لشعب معين، أو مدينة بذاتها، بل هو رب كل من تشرق عليهم الشمس من بشر، يساوى بين البشر فهو راع لا يفرق بين أحد من رعيته، وهو إله عالمي يخالف آلهة المصريين القومية المعروفة وقتئذ، فكانت ديانة آتون ثورة هائلة على كهنوت مصر؛ هذا الكهنوت المؤسسي المستقر على قواعد راسخة من النظم والعقائد التي تُؤَمّْنُ لجيش من الكهنة وتابعيهم رغد العيش.

لم يقدر الفرعون رغم سلطاته الواسعة، وأفكاره العقائدية الثورية الهائلة على السائد والمستقر، أن يواجه سطوة الفكر الديني السائد، فأضطر إلى مغادرة عاصمة ملكه، وإنشاء عاصمة جديدة حتى يستطيع أن يتحرر (وهو السيد) من سطوة (الكهنوت) وفكره السائد  الذي لم يكن فقط داخل المعابد؛ ولكن متشعباً في ثنايا المجتمع، وضمائر الشعب.

وتمنحنا قراءة القصص الديني نماذج أخرى على سطوة الفكر السائد (الكهنوت) في حكايتين أخريين حدثتا في مصر، ففي قصة يوسف u (وهي القصة التي لم ترد أبداً في التأريخ المصري القديم) لا نجد مؤرخاً واحداً ذكر اسم الرجل الذي قام على خزائن مصر يُخزن القمح سبع سنين، ويوزعه سبعاً أُخر، ولم يُكتب اسمه على خرطوش فرعوني واحد، ومن المؤكد أنه وهو نبي ابن نبي لم يكتف بعمله الرسمي، ولكنه حاول بالتأكيد التبشير بعقيدته التوحيدية، ولكن سطوة الكهنة مرة أخرى كانت لفكره الثوري بالمرصاد، فواجهته بحل عبقري سهل، يجيدون استخدامه، وهو التجاهل في الوجود، والإلغاء في الغياب، فأسقطوه وأسقطوا فكره بالكامل من التاريخ.

وتوضح حكاية موسى u وهو الذي نشأ ربيباً لفرعون وتمتع بكافة مزايا العيش في قصر فرعون، ورعايته، وحمايته، وحب زوجته وتبنيها له؛ أن كل هذه المزايا لا تساوي شيئاً حين تتبدل المواقف ]وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ[ غافر 36.

ففرعون وهامان قادران على رفض الثورة التي أتى بها النبي على فكرهم العقائدي وتجلياته الاقتصادية والسلطوية، وبالتالي ينجح الكهنوت مرة أخرى في إخراج موسى وثورته وثواره للتيه أربعين سنة، ويواجهون فكره الثوري مرة أخرى بالحل العبقري السهل، الذي يجيدون استخدامه، وهو التجاهل في الوجود، والإلغاء في الغياب، فأسقطوه وأسقطوا فكره بالكامل من التاريخ المصري الذي لا نجد فيه ذكراً لأي من الأحداث تلك.

كما تحضرني هنا حكاية أحمد باشا لطفي السيد حين ترشح لعضوية البرلمان قبل الثورة وهو ابن عمدة قرية برقين- دقهلية، وأحد كبار أعيان الريف المصري، الذي حين تزايدت شعبيته، لم يجد منافسه الخبيث إلا أن يقول أنه ديمقراطي، ويشيع أن الديمقراطية هي كفر مستورد يدعو الناس للكفر والفجور، وترك الدين، والسير عرايا في الشوارع، وطلب بخبث الفلاح المصري الأصيل من الناس أن يسألوا الباشا إذا كان ديمقراطياً أم لا؟ وبالطبع حين سألوا الباشا أجاب أنه ديمقراطي، فما كان من العامة البسطاء إلا أن احرقوا سرادقه الانتخابي، وسقط واحد من أهم صناع التنوير في مصر في الانتخابات في دائرة ولد وعاش بها كرمز من رموز القيادات الطبيعية في الريف المصري، وفاز بمقعد البرلمان نكرة لا يذكر أحد اسمه.

اخترت هذه النماذج (وهناك بالتاريخ المصري وغير المصري كثير غيرها) لتوضيح فكرة (السائد في مواجهة الثوري) فهناك عودة الملكية بعد انتصار الثورة الفرنسية، وصراع المنشفيك مع البلشفيك، والحرب الأهلية الإسبانية، وسقوط الفكر اليساري في أوروبا الشرقية، والعديد من الصراعات على امتداد الخريطة الإنسانية عبر التاريخ.

-        لكن هل يستهدف طرح هذه النماذج إحباط الثوريين، ومطالبتهم بالكف عن ثورتهم؟

بالتأكيد المطلوب تحقيقه عكس ذلك، فالهدف هو دعم فكر التغيير من خلال اكتشاف القواعد المؤسسة للصراع بين الفكرين التقليدي والثوري، باعتباره صراع أجيال وصراع حياة، وأن صراع الأجيال هذا صراع فكري، وليس صراع إقصاء، وهنا يجب أن نتذكر حكاية الإمبراطور الروماني الشاب الذي أمر بالتخلص من كافة الشيوخ حتى يجدد شباب إمبراطوريته، وكيف حاق الخراب بدولته حتى أعاد لها حكمة الشيوخ.

-        لكن مرة أخرى يقفز السؤال، أي شيوخ؟

بالتأكيد ليس كل الشيوخ، ويجب الفرز بين الزَبَّد وبين ما ينفع الناس بصدق، ولا تخلو مصر دوماً من شيوخها الشرفاء كما تمتلئ بأولئك السفلة والأوغاد، وتكمن الصعوبة في فرز هؤلاء من أولئك، فدوماً السفلة من رجال السياسة هم الأقدر على المناورة ولعب الأدوار، ويمتلكون من الحماس والخبرة ما يجعلهم يتقدمون الصفوف للعب الأدوار الأكثر تأثيراً في حياة الأمة والشعب، وإقناع الغالبية الأبسط من الناس بأنهم هم من يدافعون عن مصالحهم، ويوفرون لهم أسباب الحياة، وهم في ذات الوقت يستنزفون منهم كل أسباب الوجود ويجعلونهم في غاية الرضا حتى أنهم ينادون بوجود سفلة الساسة، وينفون الذين يدافعون عن مصالحهم.

وعلينا أن ندرك أن كثيراً من الشيوخ ليسوا فاسدين بطبعهم، ولكنهم نتاج تربية ومعارف ومواقف وخبرات سلوكية يصعب الانتقال منها إلى جديد (العلم في الصغر كالنقش على الحجر) لذلك يستحيل إسقاط كل الكبار، أو الاعتماد على كل الشباب، فمن هؤلاء وأولئك الصالحون والطالحون.

وتبدو المهمة الضرورية الآن هي إفراز قيم واضحة (غير نفعية، أو ذاتية) يتبناها المصريون (وهذا أمر غير سهل) وتحد ثقافي وحضاري ضخم، ودعم إنشاء دولة حقيقية تستند على حقوق المواطنة، وليس على حقوق فئوية أو سلطوية أو عقائدية؛ سواء كانت هذه العقائد أيديولوجيات أو أفكار دينية، وإن كنا نريد بناء وطن جديد، فلن يتحقق ذلك إلا من خلال خطوة أولى لا مفر منها ألا وهي إنجاز (عقد اجتماعي) واضح صريح يقر بكل ذلك، ثم تطهير القضاء، وعزله عن الصراعات السياسية والمجتمعية، وتنظيمه، ووضع أسس رقابية لضمان نزاهته من خلال نظام ينأى به عن السلطة التنفيذية... سلطة الدولة، وينأى به عن كهنوت كهنة وزارة العدل.

يأتي بعد ذلك إعادة بناء النظام الأمني الذي يجب أن يدرك العاملين فيه أنهم في خدمة الشعب وليسوا سادة عليه، فاستلاب الأمن ليس عشوائياً، ولكنه ردة فعل رجال أمن يمارسون دوراً تربوا عليه ونشئوا وتكونوا، وفعلهم فعل كهنوت يستنزف من الناس أسباب الأمان وهم في غاية الرضا حتى ينادون بوجود الكهنوت الأمني، وينفون الذين يدافعون عن مصالحهم.

وتستلزم إعادة الأمن تكوين رجال أمن جدد، يمارسون دوراً جديداً يُربَونَ عليه، حتى يصبحون جهازاً أمنياً يقدم للناس أسباب الأمان والاحترام، ويحترم حقوق الإنسان، ويعرف أنه حام للقانون، وليس سيداً فوقه، فيكتشف العامة وجود الجهاز الأمني الذي يدافع عنهم وعن مصالحهم، ولن يتم ذلك إلا بإعادة صياغة برامج التعليم في كليات الشرطة، وبرامج التدريب على رأس العمل، فضابط الشرطة الذي تكون تعليمياً وبداخله احتقار لغير الشرطيين، ومارس هذا الاحتقار سنوات طوال ليس صعباً – بل من المستحيل- إعادة تهيئته وبرمجته ليحترم حقوق الإنسان، ويؤمن بدور مغاير لما تربي عليه... فهو قرص مضغوط للكتابة مره واحدة، تمت الكتابة عليه وانتهى أمره، ولا يصلح لكتابة جديدة؛ لذلك لابد من التخلص منه، والكتابة على أقراص جديدة، أو استخدام أقراص بها برامج لم يصبها فيروس العادلي وأشباهه.

وتظل مشكلة التعليم والثقافة حجر الزاوية في إعادة بناء المجتمع، فإن استلاب المعلومات، وتكريس الجهل، وتحقير الثقافة، والإقلال من شأن المثقفين والعلماء لم يكن عشوائياً، ولكنه فعل كهنوت استهدف أن يستنزف من الناس أسباب المعرفة والثقافة وهم في غاية الرضا باستلابهم؛ حتى يبقى الكهنوت الثقافي وكهنوت المعلمين الجهلة، وينفون الذين يدافعون عن مصالحهم والحقيقين من المثقفين والعلماء.

إن استلاب الصحة لم يكن هو أيضاً عشوائياً، ولكنه فعل كهنوت يستنزف من الناس كرامتهم حين يلجئون تحت قسوة المرض إلى أطباء هم في واقع الأمر تجار يتاجرون بحياة البشر، ويستذلونهم، ويستنزفون القليل مما يملكونه، ويسرقون منهم  أسباب الأمان وهم في غاية الرضا حتى ينادون بوجود الكهنوت الطبي الذي يمنحهم القليل من الأمل لا العلاج وهم على حافة الموت تحت مسميات ما أنزل الله بها من سلطان؛ بينما ينفق الملايين على أبناء وبنات الكهنوت الطبي والسياسي خارج مصر ليستجموا في أرقى مراكز النقاهة تحت مسمى (العلاج على نفقة الدولة) وهو استجمام على نفقة صحة المصريين.

وتبقى كارثة الإعلام السفيه تخرج لنا لسانها، فالمؤسسة المنوط بها إعلام الشعب والمساهمة في تعليمه وتثقيفه والترفيه عنه، تحولت في أيدي كهنة الإعلام إلى أداة تخدير، وترويج لمفاهيم تساهم في تدجين المصرين بمختلف المجالات، وجعلهم أعداء لمن يعمل من أجلهم، ليكونوا يد السلطة الكهنوتية في نفي الذين يدافعون عن مصالحهم، وصنع نجوم فنون وهميين هم مهرجي السلطان وخدمه، وهم غير قادريين أن يكونوا غير ذلك، وهم كعملة رديئة، يُخرجون العملة الجيدة من الفنانين من الساحة، أو يعقدون لهم حياتهم وعملهم في أفضل الأحوال.

إن مختلف مجالات الحياة المصرية مليئة بالكهنة، ومازال كهنوت خبير بمسالك ودروب السلطة والاقتصاد يحكم ثقافة الشعب المصري، والغالبية العظمى من المصريين قانعين بالفتات والإنجاب كما يقول صلاح عبد الصبور:

"لأن فقيراً ذات مساء سعى إلى حضن فقيرة ليطفئ فيه مرارة أيامه القاسية."

*******************

لقد تخلص المصريون واسقطوا آخر الفراعين، ولكنهم يواجهون الوضع الأعقد والمشكلة الأعتى؛ ألا وهي مواجهة تراث الكهنوت في كافة مجالات الحياة، وهم شركاء في صنع هذا الكهنوت، ودعمه، واستمراره.

والمؤكد أن نجاح الثورة في تحقيق أهدافها مرتبط بقدرة المصريين بكل أطيافهم على تبني سلوك جديد، وصنع ثقافة مصرية مختلفة عن التراث الكهنوتي الذي حكم مصر منذ آلاف السنين، وذلك حتى لا يسعى المصريون لتأليه فرعون جديد فوق رؤوسهم.

ولن يصلح استنساخ التجارب الماليزية أو التركية أو حتى تلك القادمة من عوالم فضائية خارج المجرة في صنع تجربة مصرية.

إن التجربة المصرية يجب أن تتخلق في رحم المجتمع المصري، وتكون وليدة شرعية لثقافة جديدة أكثر انفتاحاً على الحياة، وأكثر تحرراً حتى مما حلم أو يحلم به أي إنسان، ونافية ورافضة لكل أنواع الكهنوت... إنها قضية صنع ثقافة جديدة مصرية، تتحدى وتسقط ثقافة الكهنوت... إنها قضية ثقافية بالدرجة الأولى لو كنتم تعلمون.

السبت، 7 مايو 2011

الآباء المؤسسين، وغير المؤسسين

الآباء المؤسسين، وغير المؤسسين
 بقلم: أحمد إبراهيم أحمد
مصر الآن على عتبة تاريخية شديدة التعقيد؛ حيث يقف شعبها بين عذب سائغ شرابه للناس، وملح أجاج... واقف على بوابة كل معين منهما؛ نوعين من المصريين الآباء، ينتمون لجيلين متقاربين، شاركا في مراحل تاريخية سابقة، وساهموا -كل بطريقته- في صنع التاريخ والواقع المصريين خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة... جيل من الآباء المؤسسين الأصلاء، وجيل من الآباء غير المؤسسين وإن شاركوا في صنع التاريخ.
وتظل معاناة جيل الآباء المؤسسين أمثال الدكتور أحمد يوسف، ورجب سعد السيد، ومحمد مرسي،والدكتور ماهر هارون، والنقيب سامي، والنقيب أحمد، وجرجس، وماجد بشاي، وحسنين ومحمدين وحسني، ومحمد محمود يونس، وحسن إبراهيم محسن، والدكتور أحمد لطفي مبارك، والفيزيائي سيف الدين زكريا عطيه باقية عبر السنين.
هم وآلاف غيرهم كانوا لبنات جيش حارب العديد من المعارك داخل وطنه وخارجه، وأعاد بناء قوات مسلحة جديدة قوامها ما يقارب المليون من المتعلمين والمثقفين الذين صنعوا نقلة نوعية، حولت جيش يطيع إلى قوات مسلحة تحارب؛ بقيادة عسكريين عظماء أمثال الفريق سعد الدين الشاذلي، وعبد المنعم رياض، ومحمد فوزي.
ما زلت أذكر ما قال لي صديقي الدكتور أحمد يوسف وقتما كان يشغل منصباً إدارياً رفيعاً في وزارة الصحة أن "الجزء الباقي من الروتين الذي كنا نلعنه في السبعينات؛ هو ما يحافظ على البقية الباقية من مؤسسة الدولة."
قال لي ذلك وهو صاحب سلطة كانت تمكنه من عمل ثروة لا بأس بها، ورغم ذلك كان يجلس في مكتب متواضع مع زميلين آخرين في مكان لا يسمح بوضع مقعدين لضيفين، وكانت معاناته الكبرى من توصيات السادة الوزير والمحافظ التي تضرب بالنظام والقانون عرض الحائط، وعدم قدرته على الاستجابة لها، فترك العمل طائعاً.
عاش الصديق الآخر رجب سعد السيد مأساة العمل في جهاز علمي ينخر فيه الفساد، ويقوم بعمل روتيني، يقتل ملكات الإبداع والقدرة على العمل والفعل، وظل يناضل من أجل الاستمرار وهو يحارب الموت الوظيفي بالإبداع الفني والأدبي.
هذين النموذجين مثال واضح وبسيط لأولئك المصريين الشرفاء الذين لم يحلموا إلا بحياة إنسانية كريمة، لا يهانون فيها، ولم يحلموا يوماً بالملايين، وبعضهم كان في موقع يستطيع من خلاله أن يَفسد ويُفسد ويصنع الثروات، لكنهم كلهم كآباء مؤسسين شرفاء اختاروا أن يتركوا الجمل بما حمل، وعيونهم تملؤها الدهشة من تنكر الوطن، وقلوبهم تعصرها الحسرة على وطن تسلم زمامه الأراذل من أبنائه.
هذه النماذج، ومعها كثيرين مثلي تركوا الوطن وهم داخله، أو هاجروا وهجروا وطن هجرهم بعدما قدموا أغلى سنين العمر، وشاهدوا أخوة وأصدقاء وزملاء لهم يستشهدون من أجل الوطن، ولم يجدوا من الوطن ما يقدمه لهم أسس الحياة البسيطة التي تمنوا، فلا عمل مُجزِ، ولا علاج متوفر، ولا بيوت للسكن، ولا وسائل نقل آدمية للمواصلات، ولا أمل في مستقبل قريب أو بعيد؛ إلا الغربة من الاغتراب في وطن لم يشعر بهم.
*************
شاهدت عبد العاطي صياد الدبابات –رحمه الله- بعد سنين من الحرب في محاضرة بنادي هيئة التدريس بجامعة الإسكندرية يرتدي بذلة شعبية متواضعة، وبطنه قد تضخم نتيجة مضاعفات أمراض الكبد التي هي بالتأكيد نتاج بلهارسيا قديمة، وهو الجندي المقاتل الذي كانت طلقاته تكلف إسرائيل ملايين الدولارات كل يوم من أيام الحرب... يعمل فنياً بمحطة ري في البحيرة... كان منظره كأب مؤسس نشازاً في هذا المحفل الأنيق، فعرق البطل الحقيقي ينز من إبطيه وحول عنقه، مُغرقاً ياقة بذلته المتواضعة؛ بينما طاقم الآباء غير المؤسسين -السادة اللواءات، وأعضاء هيئة التدريس الأكاديميين- في بدلاتهم الأنيقة، وربطات العنق الأصلية، ورائحة البرفانات الباريسية تفوح منهم وهم يعطرون المكان زهواً، ويغطون على رائحة عرق عبد العاطي صياد الدبابات.
*************
لقد استطاع السفلة من أبناء الوطن أن يؤسسوا لإنكشارية أو مملوكية جديدة –مصر هي البلد الوحيد عبر التاريخ الذي اشترى حكامه- وصنعوا من أذنابهم، وماسحي أحذيتهم، ومقبلو أياديهم سادة فوق السادة الأصلاء من أبناء مصر.
كنت أتناول العشاء مع أستاذي المستشار مصطفى درويش في أحد الأندية البحرية بالإسكندرية بدعوة من الإعلامي سعيد علام، ودار بيننا الحديث عن الوضع السياسي، فقلت له أننا نعيش عصر مملوكي جديد، فنظر في وجهي بعينيه الثاقبتين وهو يسترخي في مقعده، ثم يضحك قائلاً:
"صح.. أنت جبتها.. أحنا في عصر المماليك الجوية... كان في زمان مماليك برية وبحرية، ودلوقتي المماليك الجوية."
إن السلوكيات غير المنطقية التي مارسها في الماضي وما زال يمارسها بعض رموز الآباء غير المؤسسين مثل الدكتور يحي الجمل بكل ممارساته وتاريخه مع رموز من النظام القديم، أو كمستشار قانوني لشخصيات لم تكن يوماً فوق الشبهات، والدكتور مصطفى الفقي بتاريخه المعروف والموثق كنائب ساهم في تزييف إرادة الناخبين، ومثقف خان ثقافته، وموظف لدى رأس نظام دمر المصريين، وافسد حياتهم السياسية ما يزيد على الثلاثة عقود، أو سامي الشريف رئيس الإذاعة والتليفزيون الذي أمر شفاهة –وفجأة- بحذف كل مشاهد القبلات والأحضان من الأفلام العربية والأجنبية القديمة والحديثة، واضعاً نفسه سلطة أبوية ساذجة على شعب عريق تمتد المعرفة في تاريخه عشرات الآلاف من السنين كشعب اخترعت نساءه الزراعة قبل التاريخ المعروف، أو الدكتور فيصل يونس مدير المركز القومي للترجمة الذي أعلن استعداده للتعاون المباشر مع الكيان الصهيوني في مجالات الترجمة وتبادل الكتب، عقب توليه مسئولية المركز بعد ثورة يناير ، والدكتور جابر عصفور بما مثله تذبذب مواقفه سواء إبان النظام القديم، أو محاولته التواصل مع الواقع الجديد بما يحمله من فكر قد نتفق أو نختلف معه، والإعلاميين بما يملكون من دور مؤثر استخدموه للفساد والإفساد...
هذه الأسماء وغيرها أكثر من كثير؛ غيض من فيض من الأسماء والشخصيات التي أُثرت في مختلف مناحي الحياة المصرية، وعلى مختلف المستويات السياسية، وشبه السياسية، والإدارية العليا والمتوسطة تأثيراً سلبياً، وما زالت تلعب نفس الدور الأبوي المتسلط الغبي الباحث عن تحقيق مصالحه الشخصية، وإشباع غرائزه المشروعة وغير المشروعة ولو على حساب أمة بأكملها، مدعين امتلاك حكمة لم يمتلكوها، ومصرين على لعب أدوار انتهى عمرهم الافتراضي للعبها.
إن الثوار الذي صنعوا ثورة يناير ليسوا أبناءً للآباء غير المؤسسين، ولكنهم أبناءٌ شرعيون للطبقة المتوسطة، ونتاج تربية فاضلة، وحياة لم تكن سهلة مع آبائهم من الآباء المؤسسين مجهولين الأسماء والهويات؛ معروفي المواقف والأخلاق؛ ممن صنعوا حياة كريمة لائقة بشرف وسط ظروف الشظف وقسوة العيش المرير؛ التي صنعها لهم الآباء غير المؤسسين، لينعموا هم بكل شيء، وما يزيد عن حاجة النعيم لهم ولأحفادهم من بعدهم لسنين طوال.
يجب أن تنتهي المهزلة التي يمثل هؤلاء الآباء غير المؤسسين ، ويجب إقصائهم رحمة بالوطن وأبنائه، وكرامة الوطن، وسمعته، وحرصاً على شرف الثورة والثوار... نعم إقصاء لهم، وليس لغيرهم، وذلك قمة الرحمة بهم... لقد آن لهذا الراكب أن يترجل.