الثلاثاء، 10 يناير 2012

أرواح قلقة (1)


الموَلَّدُ المتمردُ... الأعمى البصير



بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

أبو معاذ... بشار بن برد العُقيلي... ذو أصل فارسي من طخارستان غربي نهر جيحون، وعقيلي بالولاء، حيث نُسب إلى امرأة من بني عقيل، قِيلَ أنها أعتقته، لأنه حين ولد في البصرة عام 95 هـ 713/714 م وُلد أكمهاً، فما رأى الدنيا قط، وتربى في بني عقيل وانتسب لهم بالولاء، ولُقب بالمرعث لأنه كان يحلي أذنه وهو طفل برعاث (قرط) وتردد على أعراب بادية البصرة صغيراً، فاكتسب منهم اللغة، وشب فصيح اللسان, صحيح البيان، وجاء عن نسبه وكنيته أنه:

"فيما ذكره الحسن بن علي عن محمد بن القاسم بن مهروية عن غيلان الشعوبي: بشار بن برد بن يرجوخ بن أزدجرد بن شروستان بن بهمن بن دارا بن فيروز بن جرديه بن ماهفيدان بن دادان بن بهمن بن أزدجرد بن حسيس بن مهران بن خسروان بن أخشين بن شهر زاد بن نبوذ بن ماخرشيدا نماذ بن شهريار بن بنداد سيحان بن مكر بن أدريوس بن يستاسب بن لهراسف، قال: وكان يرجوخ من طخارستان من سبى المهلب بن أبي صفرة، ويُكنى بشار أبا معاذ." [1]

ويوضح توضيح سلسلة النسب الطويلة هذه لبشار حرص بعض المؤرخين على تأكيد نسبة شاعر العربية المفوه هذا للأصول الفارسية غير العربية.

وكان أبو بشار (بُرد) فخاراً، قال حين وُلد له بشار: "ما رأيت مولوداً أعظم منه بركة، ولقد وُلد لي وما عندي درهم، فما حالَ الحول حتى جمعت مائتي درهم."[2]

ويقال أن أمه أَمةً كانت رومية واسمها غزالة، وتباهى بشار بنسب أمّه في قوله:

وقيصر خالي إذا

**
عددت يوماً نسبي


وكان بشارٌ ابناً من ثلاثة ذكور، يسمى أخويه بشرٌ وبشير، وكانا قصابين، ورغم أن بشاراً كان ضيق الصدر مُتبرماً من الناس، إلا أنه حن عليهما وبرهما لأنهما كانا معاقين مثله فالأول أعرج، والثاني أبتر، فكان يقول: "اللهم إني قد تبرمت بنفسي وبالناس جميعاً، اللهم فأرحني منهم." ورُزق بعدما تزوج بطفلين (ذكر، وأنثى) إلا أنهما لم يعمرا طويلاً، إذ توفي ابنه (محمد) صغيراً فجزع عليه جزعاً شديداً، ورثاه بقصيدة جاء فيها:

أجارتنا لا تجزعي وأنيبي
بُنيَّ على قلبي وعيني كأنه
كأني غريبٌ بعد موت محمد

**
**
**
أتاني من الموت المطلّ نصيبي
ثوى رهن أحجارٍ وجار
قليب
وما الموت فينا بعده بغريب
 

وقد رضي عن عاهته وفقد بصره بعد أن خبر الدنيا وقال: "إنها تحجب عني رؤية ما أكره."

مما يدل على أن من كرههم فاق من رغب فيهم بكثير، ولم يكن بشار ذاك الشخص المحبوب، فقد جمع سوء الخُلُق مع دمامة الخِلقة، حتى أنه لم يخجل من وصف نفسه بقوله: "والله إني لطويل القامة عظيم الهامة، تام الألواح، أسجع الخدين." إذ كان ذو جسد ضخم الحجم، مجدور الوجه جاحظاً، يغشى مقلتيه جلد أحمر مع فظاعة عينان عمياوان، حتى ضُرب المثلُ بقبح عينه فقالوا: "كعين بشار بن برد." وهجا مخلد بن علي السلامي رجلاً في شعره بقوله:

رأيتك لا تحبُّ الود إلا
أراني الله وجهك جاحظياً

**
**
إذا ما كان من عصب وجلد
وعينك عين بشار بن برد


شعر بشار

قال بشار بن برد الشعر في سن مبكرة على قول الأصفهاني، فما كاد يبلغ من العمر عشر سنين حتى تفجرت موهبته، وزينت له طبيعته الشرسة شعر الهجاءً، فأدرك منذ صغره خطورة الهجاء وأثره المخيف على الناس، فتطاول بذمهم ليهابوه ويتجنبوا لسانه، وجعل الهجاء وسيلة عيش، وروي عنه أنّه قال:

"دخلت على الهيثم بن معاوية وهو أمير البصرة فأنشدته:

إنّ السلام أيّها الأمير

**
عليك والرحمة والسرور



فسمعته يقول: "إن هذا الأعمى لا يدعنا أو يأخذ من دراهمنا شيئاً." فطمعت فيه فما برحت حتى انصرفت بجائزته."[3]

وكان أهل البصرة يتضررون من شعره مذ كان صغيراً، فيشكونه إلى أبيه الذي يضربه ضرباً شديداً حتى قالت له أمه:

-       كم تضرب هذا الصبيّ الضرير... أما ترحمه؟‍‍

فيرد الأب:

-       ويلي... والله إني لأرحمه، ولكنه يتعرض للناس فيشكونهُ إليّ.

فسمعه بشّار فطمع فيه وقال له:

-       يا أبتِ إن هذا الذي يشكونه مني إليك هو قول الشعر، وإني إن ألممت عليه، أغنيتَك وسائر أهلي، فإن شكوني إليك فقل لهم: أليس الله يقول: )ليس على الأعمى حرج(؟

فلما عاودوا شكواهم، رد عليهم برد بقول بشار، فانصرفوا عنه وهم يقولون:

-       فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار.[4]

*****

انتقل بشار مع نهاية القرن الأول الهجري لبغداد، وعاش فيها غالبية الثاني، وبذلك عاش في بغداد والبصرة عصراً كانتا فيه ملء السمع والبصر، وموئلاً للمثقفين من العلماء والفقهاء وأصحاب الكلام، ومكث يتابع كتب الأدب، ويستمع لرواة التاريخ، ويحفظ شعر من سبقه، ويختلط بالمبدعين والمفكرين وأصحاب الكلام، فنما شاعراً مُشبعاً بروح عصرين إمبراطوريين (الأموي والعباسي) تكونت ذائقته وقتما كانت شمس الدولة الأموية تُشرق فوق الناس، فعانى تعصب الأمويين للعرب وعنصريتهم ضد العجم، ثم شهد أفول شمسها، وصعود نجم الدولة العباسية التي قَرَبَت غير العرب، فشعر بشار كغيره من الموالي والعجم بحرية واقع جديد، لم يعرفوه من قبل، فانطلق كطير كان حبيساً، وسجيناً تحرر، واستفاد كل الاستفادة من المناخ الجديد، فعكست حياته وشعره خصائص زمن ثري بالفكر والجدل غرق في لجته، وعاش كافة تفاصيله.

استخدم العباسيون المبدعين للدفاع عن سلطتهم الوليدة، والذود عن أحقيتهم في الخلافة، وقد المح أبو الفرج الأصفهاني إلى ذلك حين قال أنّ العباسيين وجّهوا الشعراء للبحث عن صيغ شعرية تدعم خلافتهم اتكاءً على النص القرآني، فقد ورد في كتاب الأغاني، والتذكرة الحمدونية: "قيل: كان بشار بن برد جالساً في دار المهدي، والناس ينتظرون الإذن، فقال بعض موالي المهدي، وهو الـمُعلي بن طريف، لمن حضر: ما عندكم في قول الله عز وجلّ )وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً([5] فقال له بشار: النحل التي يعرفها الناس. قال: هيهات يا أبا معاذ، النحل بنو هاشم وقوله )يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس([6]يعني العلم، فقال له بشار: أراني الله شرابك وطعامك مما يخرج من بطون بني هاشم، فقد أوسعتنا غثاثة. فغضب وشتم بشاراً، فبلغ المهدي الخبر فدعاهما وسألهما عن القصة، فحدثه بشار فضحك حتى أمسك على بطنه، وقال للمولى: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم فإنك بارد غث."[7]

اشتهر بشار بشعره حتى صار أحد بلغاء المكفوفين، وإماماً للشعراء المولدين، وأكسبته سلاطة لسانه، وجرأته سطوة وجعلته مرهوب الجانب يُخشى هجاءه، فقد كان هَجَاءًّ مُقذعاً، جريئاً في مقالته مُستخفاً بالأعراف والتقاليد، هجاءه مليء بالبذاءة والتطاول، لا يمنعه مانع عن التجريح، أو يعيقه عائق عن تناول الأعراض، شديد الوطأة على من يمتنعون عن عطائه، فلم يسلم بالتالي من ذم معاصريه لشخصه وأفعاله، فعاداه أُناس كُثرٌ لهجومه عليهم وهجائه لهم، ولم ينج من أذى الذين لم يتعفف عن التعرض لأعراضهم، فحظي بكراهية وعداء يُناسبان تطاوله، فحقره خصومه وتطاولوا على نسبه، فهذا هشام البصري المعروف بالحلو، يُذكِّره بنسبه قائلاً :

بِذلّةِ والدَيكَ كُسيت عزاً

**
وباللؤم اجترأتَ على الجوابِ


وقال هو بنفسه عن نفسه:

"لقد عشت في زمان وأدركت أقواماً لو اختلقت الدنيا ما تجملت إلا بهم، وأنا الآن في زمان ما أرى فيه عاقلاً حصيفاً، ولا فاتكاً ظريفاً، ولا ناسكاً عفيفاً، ولا جواداً شريفاً، ولا خادماً نظيفاً، ولا جليساً خفيفاً، ولا من يساوي على الخبرة رغيفاً."[8]

ومما أنشد:

فما الناس بالناس الذين عهدتهم
أيست من دهري ومن أهله
إن رمت مدحاً لم أجد أهله
كما قال:
قيل لي لم ذممت كل البرايا
قلت هب أنني كذبت عليهم


**
**
**

**
**
ولا الدار بالدار التي كنت أعرف
فليس فيهم أحد يرتضى
أو رمت هجواً لم أجد عرضا


وهجوت الأنام هجواً قبيحا
فأروني من يستحق المديحا


وعندما قيل لبشار: "إنك لكثير الهجاء." قال: "إني وجدتُ الهجاء أقوى للشاعر من المديح، ومن أراد من الشعراء أن يُكرم من المديح في دهر اللئام، فليستعد للفقر، وإلا فليبالغ في الهجاء ليُخافَ فيعطى."

*****

ورغم أن بشار كان انتهازياً في هجائه ومدحه إلا أنه لم يُخضع نزعاته لسلطة أو رقابة، فقد وثق من زيف الرقابة بعدما اختبر مفعولها وكشف كذب السلطة، فلم يتورع عن التحريض، والإغواء، ودعا في شعرُه إلى التمرّد والتهتك السافر يقول:      

لا يُؤيِسَنَّكَ مِن مُخَدَّرَةٍ
عُسرُ النِساءِ إِلى مُياسَرَةٍ

**
**
قَولٌ تُغَلِّظُهُ وَإِن جَرَحا
وَالصَعبُ يُمكِنُ بَعدَ ما رَمَحا


وغزل ابن برد جريء يغلب عليه المجون، ولم يكن أقل قيمة من هجائه، حيث يُعبرُ عن فتنة حسية قوية بالنساء، تبدو نتيجة خبرة واقعية، فقد كان له مجلس أشبه بصالون عصري من صالونات الأدب والثقافة والفن في العصر الحديث، يستقبل فيه راغبات سماع شعره، والمغنيات اللواتي يتغنين بهذا الشعر، كما كان يرتاد مجالس اللهو والغناء المنتشرة آنئذ، وقد عشق امرأة يقال لها عبدة قال فيها:

يزهدني في حب عبدة معشر
قلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فما تبصر العينان في موضع الهوى
وما الحسن إلا كل حسن دعا الصبا

**
**
**
**
قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحب
ولا تسمع الأذنان إلا من القلب
وألف بين العشق والعاشق الصب


ويتغنى بشارٌ بمغنية قائلاً في واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي:

وَذاتُ دَلٍّ كَأَنَّ البَدرَ صورَتُها
إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ
فَقُلتُ أَحسَنتِ يا سُؤلي وَيا أَمَلي
يا حَبَّذا جَبلُ الرَيّانِ مِن جَبَلٍ
قالَت فَهَلا فَدَتكَ النَفسُ أَحسَنَ مِن
يا قَومُ أُذني لِبعَضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ
فَقُلتُ أَحسَنتِ أَنتِ الشَمسُ طالِعَةٌ
فَأَسمِعينِيَ صَوتاً مُطرِباً هَزَجاً
يا لَيتَني كُنتُ تُفّاحاً مُفَلَّجَةً
حَتّى إِذا وَجَدَت ريحي فَأَعجَبَها
فَحَرَّكَت عودَها ثُمَّ اِنثَنَت طَرَباً
أَصبحتُ أَطوَعَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ
فَقُلتُ أَطرَبتِنا يا زَينَ مِجلِسِنا
لو كنت اعلم أن الحب يقتُلُني
فَغَنَّتِ الشَربَ صَوتاً مُؤنِقاً رَمَلاً
لا يَقتُلُ اللَهُ مَن دامَت مَوَدَّتُهُ
لا تَعذِلوني فَإِنّي مِن تَذَكُّرِها
لَم أَدرِ ما وَصفُها يَقظانَ قَد عَلِمَت
باتَتَ تُناوِلُني فاهاً فَأَلثُمُهُ

**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
**
باتَت تُغَنّي عَميدَ القَلبِ سَكرانا
قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيينَ قَتلانا
فَأَسمِعيني جَزاكِ اللَهُ إِحسانا
وَحَبَّذا ساكِنُ الرَيّانِ مَن كانا
هَذا لِمَن كانَ صَبَّ القَلبِ حَيرانا
وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا
أَضرَمتِ في القَلبِ وَالأَحشاءِ نيرانا
يَزيدُ صَبّاً مُحِبّاً فيكِ أَشجانا
أَو كُنتُ مِن قُضَبِ الرَيحانِ رَيحانا

وَنَحنُ في خَلوَةٍ مُثِّلتُ إِنسانا
تَشدو بِهِ ثُمَّ لا تُخفيهِ كِتمانا
لأَكثَرِ الخَلقِ لي في الحُبِّ عِصيانا
فَهاتِ إِنَّكِ بِالإِحسانِ أَولانا
أَعدَدتُ لي قَبلَ أَن أَلقاكِ أَكفانا
يُذكي السُرورَ وَيُبكي العَينَ أَلوانا
وَاللَهُ يَقتُلُ أَهلَ الغَدرِ أَحيانا
نَشوانُ هَل يَعذِلُ الصاحونَ نَشوانا
وَقَد لَهَوتُ بِها في النَومِ أَحيانا
جِنِّيَّةٌ زُوِّجَت في النَومِ إِنسانا


ويلاحظ في هذه الأبيات أن بشاراً ضمن قصيدته بيتين لجرير (البيت الثاني، والخامس) إذ كان مولعاً به، وحاول في شبابه أن يهجوه ليشتهر، لكن جريراً استصغره ولم يرد عليه، ورغم ذلك بقى بشار على إعجابه به.

ورغم شهرة بشار لم يصلنا من شعره الكثير إذ ضاع أغلبه؛ وما بقي منه جُمع في ديوان، وقال بشارٌ أنه كتب أكثر من اثنتي عشر ألف قصيدة، وقال: "ويلي إن لم يكن في كل واحدة منها بيت جيد." إلا أن الواقع يؤكد أن هذا العدد مبالغة كبرى، وعلل البعض قلة ما وصل من شعره بالرقابة الدينية والسياسية والاجتماعية في عصره، التي أعدمت كثيراً من هذا الشعر، والحقيقة أنه جرى التخلص بعد موته من الكثير من شعره لاتهامه في عقيدته إذ حملت لنا الروايات والكتب روايات عدة -متناقضة- في هذا الشأن.

ورغم الاختلاف حول فكر بشار إلا أن الجميع يتفقون على شاعريته ورقي شعره، فيرى بعض النُحاةُ أن بشاراً هو خير من يُحتج بشعره، لأنه في شعره يُشبه الأشياء بعضها ببعض وهو الأعمى، فيأتي بما لا يقدر عليه المبصرون، حتى شهد له الجاحظ بقوله: "والمطبوعون على الشعر من المولَّدين بشارٌ العُقيليّ، والسَّيِّد الحِمْيريّ، وأبو العتاهية، وابن أبي عُيَيْنة، وقد ذكر الناسُ في هذا الباب يَحيى بن نوفل، وسَلْماً الخاسر، وخَلَفَ بن خليفة، وأبانُ بنُ عبد الحميدِ اللاحقيُّ أَوْلى بالطَّبع من هؤلاء، وبشّارٌ أطبَعُهم كلِّهم."[9]

وتبدو ملامح الإبداع والتجديد واضحة في شعر بشار إذ نراه يقول:

جفتْ عيني عن التغميض حتى
أقـول وليلتي تزداد طـولاً

**
**
كأنّ جـفونها عنـها قصارُ
 أمـا لليل بعدهـم نهـار



لقد سيطر بشار على زمام اللغة، وأمسك بقيادها فسخرها لصياغة شعره في لغة يسيرة متقنة، وأجاد التلاعب بالمعاني والألفاظ، مجيزاً لنفسه الاشتقاق أسوة بأئمة اللغة، مجيداً لفنون الشعر تحركه موهبة فياضة، فأنتج شعراً غزير المادة غير متكلف النظم، لذا اعتبر الأكاديميون والنقاد المحدثين شعره إبداعاً من الطبقة الأولى، ورأوه من أشهر شعراء العصرين الأموي والعباسي، وأجزلهم شعراً بإجماع الرواة.

*****

كان الهجاء وسيلة من وسائل إثبات الوجود عند بشار وهو الشخص المعاق بالعمى حتّى قال عنه يونس النحوي على نحو ما روى ابن سلام: "العجيب من الأزد يدعون هذا العبد يُنسب بنسائهم، ويهجو رجالهم!" ، ثم جاء الغزل المفضوح الذي قاله تعبيراً عن تقديره الحسي للذة والمتعة، فكان شعره متأرجحاً بين الهجاء المقذع، والغزل المتهتك المكشوف، ولم يكن بشار بن برد هجاءً مقذعاً ومُتغزلاً جريئاً فحسب، بل كان إنساناً حسياً وماجناً، عرف عنه الغزل والتشبيب بالنساء، سئل مرة عن نهجه في الحياة: أي متاع الدنيا آثر لديك؟ فقال: "طعام مزّ، وشراب مر، وبنت عشرين بكر." وقد أدرك أن الإقبال على الحياة، ومجالسة الغواني، يُكلف المرء مالاً وفيراً، فاستغل موهبته الشعرية في المديح كوسيلة تدر عليه المال الذي يحتاجه لينفقه على ملذاته، لذا كان مبالغاً في مدائحه، طمعاً في رضا الممدوح، وإغرائه بالعطاء، حتى يشبع نهمه بالنساء والحياة التي اقتحمها غير وجل ولا هياب، حيث يقول:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته 

**
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج


حاول البعض تفسير شخصية بشار العدوانية وسخريته من عصره كردة فعل على احتقار العرب لجنسه من الأعاجم خلال حكم بني أمية، وأنه لما جاءت الدولة العباسية، وقربت غير العرب اعترافاً بدورهم في تمكينهم من الحكم والقضاء على الأمويين، تمادى بشار في استخدام الحرية التي منحها العباسيون لغير العرب، فعاش حياته غير مبالٍ نهماً مُقبلاً على متع الحياة، عاشقاً للخمر والنساء والغناء؛ بينما فسر البعض الآخر سلوكه العدائي المستفز ذاك كنتيجة لعاهته وقبحه وشعوره بالدونية؛ الذي عمل كدافع للتجرؤ على الحياة والإقبال عليها، والتنعم بنعمها، وكأن حياته كلها ليست إلا ردة فعل قاسية على العمى والقبح اللذان أحرقاه بنارهما.

يقول الدكتور طه حسين عن طباع بشار وعماه: "كذلك أصاب الله بشاراً بهذه الآفة، فسلبه البصر، وكان إلى ذلك نابغة في الشعر يكاد ينعدم نظيره في قوة الذكاء وحدّة الذهن ولكنه أساء احتمال آفته، كما أساء الانتفاع بذكائه وحدة ذهنه، فأصبح بغيضاً إلى الناس، مُذمّماً عندهم، ثقيلاً عليهم؛ حتى روى الرواة أن عامة أهل البصرة ابتهجوا لموته واستبشروا به كأن الله قد أزاح عنهم ضراً."[10]

ويضيف:

"إن بشاراً اتخذ من هذا المصاب وسيلة إلى الفخر والتمدح، وأسرف في ذلك إسرافاً شديداً، فكان يحمد الله على العمى، لأنه يحول بينه وبين رؤية الناس الذين كان يكرههم، ويتبرم بهم تبرماً شديداً... وليس هذا شيئاً... فقد يستطيع الإنسان فهمه وتأويله والاعتذار عنه، ولكن بشاراً تجاوز الحد في ذلك، فلم يكتف بحمد الله على العمى بل اتخذ العمى فخراً، وزعم أن ذكاءه النادر ونبوغه الفذ إنما هما أثر من آثار هذه المحنة، وقال في ذلك كلاماً كثيراً، فليس من الهين على رجل كبشار قد منحه الله هذا كله أن يحتمل آفة العمى راضياً بها مطمئناً إليها وإنما المعقول أن يُحدثَ ذلك في نفسه سخطاً شديداً على الحياة والأحياء، لما يجر عليه ذلك من حرمان."[11]

موته

جاءت منية بشار على يد الخليفة المهديّ في عام 167هـ الموافق 783م حيث تقول الرواية أن المهدي حين علم بقصيدة بشار أمر وزيره يعقوب بإحضاره، فطلب يعقوب من أخيه صالح بن داوود والي البصرة جلد بشار قبل إحضاره للخليفة المهدي فضربه صالح بالسياط حتى قتله، وفي رواية أخري أن المهدي زار البصرة يتفقد أحوالها، فوصل البطائح حيث دار بشار الذي كان يجلس فوق سطحها سكراناً، وحين أحس بالمهدي خاف وأوحى له الخمر أن يؤذن، فسأل المهدي: "من هذا الذي يؤذن في غير الوقت؟" فقالوا: "بشار." وكان يكن له من الحقد والغل الكثير لهجائه له، وجاءته فرصة الانتقام فقال: "عليّ به." وحين مثل بين يديه قال: "يا زنديق هذا من بذائك... تؤذن في غير الوقت... ثكلتك أمك." ثم أمر صاحب الزنادقة (قيل ابن نهيك وقيل محمد بن عيسى بن حمدويه) فأخرجه معه في زورق، وأمر الجلادين أن يضربوه ضرباً مُتلفاً، فجعل بشار يقول كلما وقع عليه السوط: "حَسْ." وهي كلمة يقولها العرب عند الألم، فاستغلها يعقوب ليزيد من غيظ المهدي على بشار فقال: "انظروا إلى زندقته... ما تراه يحمد الله." فقال بشار: "أثريدٌ أحمد الله عليه؟" فأمر الخليفة بزيادة الضرب لتعذيبه تعذيباً أشد، فضربوه سبعين سوطاً مات على إثرها، فألقوه من فوق السفينة، فحمله الموج إلى شاطئ البصرة، لينقله أهله ويدفنوه، وما تبع جنازته سوى أمَة سوداء من السند، تصرخ وتقول: "وا سيداه... وا سيداه." وقيل أن أهل البصرة سّروا لموته، وهنّأ بعضهم بعضاً لنجاتهم من لسانه.

وتقول روايات أخرى أنه بعدما تأكد المهدي من موت بشار أمر بتفتيش منزله، فتم له ما أراد، فوجد صحيفة في المنزل مكتوباً بها: بسم الله الرحمن الرحيم... إني أردت هجاء آل سليمان بن علي لبخلهم، فتذكرت قرابتهم من رسول الله r فامتنعت عن ذلك على أني قلت فيهم:

دينار آل سليمان ودرهمهم
لا يُبصران ولا يُرجي لقاءهما            

**
**
كالبابليين حفا بالعفاريتِ
كما سمعت بهاروت ماروت


 فلما قرأ المهدي تلك الصحيفة بكى بكاءً شديداً وندم على قتله، وقال: لا جزي الله يعقوب بن داوود خيراً... لما هجاهُ بشارٌ، لفق عندي شهوداً على أنه زنديق، فقتلته ثم ندمت حيث لا يفيد الندم.[12]

فكر بشار

لما تمكَّن غير العرب من الوصول إلى مجالس العباسيين، أصبحوا مكونًا أساسياً من مكوّنات هذه المجالس نظرًا لما يتمتعون به من ثقافة مختلفة، ومعرفة لم تكن مألوفة في الثقافة العربية السائدة وقتئذ، فحقق بشار ذاته في هذا المناخ الثقافي، واستخدم شعره أداة ولوج لتلك المجالس، فبعدما عاش ردحاً من الزمن متنقلاً في البلاد يبحث عن العلم، آب إلى البصرة واختلف على مجالس المتكلمين ومجالس رجال الدولة، فامتدح الولاة مثل عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الذي جالسه، وأشركه في حواراته مع معتقدي الديانات والمذاهب غير الإسلامية مثل الثنوية، والدهرية، والفلسفة، والمنطق الأرسطي وغيرها من الأفكار والمذاهب الفلسفية غير الإسلامية.

كان الجدل في مجالس الصفوة من العباسيين مُتحرراً، حيث ساهم رجال الدولة في ازدواج الخطاب الثقافي السائد، إذ أظهر العباسيون الشدّة في التدين مشايعة للعامة، ومارسوا في مجالسهم الخاصة تحرراً مستوراً من الفكر والسلوك لا يخاف تهم الزندقة، حيث الفكر المطروح لا يستطيع العامة فهمه أو قبوله، بينما كانت تهم الزندقة والكفر والمجون جاهزة للخصوم، وفي نفس الوقت يمكن تجاهلها كل التجاهل عمن يرضى عنهم رجال السلطان، فيقول الطبري على سبيل المثال أن العباسيين استخدموا تهمة الزندقة لتصفية خصومهم السياسيين خاصة الهاشميين، ويورد أن يعقوب بن الفضل أودع السجن بتهمة الزندقة، واستناداً إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بدأت حملة الخليفة العباسي أبو عبد الله محمد المهدي بإلقاء القبض على جل الزنادقة سنة 163هـ حيث أمر الخليفة وكان مقيماً وقتئذ في دابق بتمزيق كتبهم وقتلهم، وخصص قضاة لهذا الغرض يطالبونهم بالرجوع عن الزندقة، ولتأكيد كفرهم بها كانوا يطالبون المتهم بالبصق على صورة ماني بن فاتك، وذبح حيوان تحرمه المانوية، علماً أنه لا توجد مصادر تتحدث عن تقديس المانوية لطائر معين.[13]

وفي هذا المناخ الملتهب مارس بشارٌ سلوكاً يمكن وصفه بأي شيء إلا التوافق مع السائد، ولم يتعلم أو يكتسب مهارة أهل مجالس الصفوة في التفرقة بين الخاص والعام من الفكر والسلوك، فكان يُعلن مواقف فكرية غير معتادة أو مقبولة بين العامة وأهل السنة والجماعة، حتى نُسب له شعر كفري يقول:

إِبليسُ خَيرٌ مِن أَبيكُم آدَمٍ      
إِبليسُ مِن نارٍ وَآدَمُ طينَةٌ      
الأَرضُ مُظلِمَةٌ وَالنارُ مُشرِقَةٌ      

**
**
**
فَتَنَبَّهوا يا مَعشَرَ الفُجّارِ
وَالأَرضُ لا تَسمو سُمُوَّ النارِ
وَالنارُ مَعبودَةٌ مُذ كانَتِ النارُ


وتنسب له قصيدة تقول:

وَإِنَّني في الصَلاةِ أَحضُرُها
أَقعُدُ في سَجدَةٍ إِذا رَكَعوا
أَسجُدُ وَالقومُ راكِعونَ مَعا
وَلَستُ أَدري إِذا إِمامُهُمُ


**
**
**
**
ضُحكَةُ أَهلِ الصَلاةِ إِن شَهِدوا
وَأَرفَعُ الرَأسَ إِن هُمُ سَجَدوا
وَأُسرِعُ الوَثبَ إِن هُمُ قَعَدوا
سَلَّمَ كَم كانَ ذَلِكَ العَدَدُ



ورغم أنّ بشارًا كان عباسياً إلا أن له تاريخ حافل في التمرد عليهم؛ إذ تشير الروايات أنّه مدح أبي جعفر المنصور محاولاً التواصل معه وفشل، فعاد للبصرة وانضوى تحت لواء العلويين الثائرين على العباسيين، ومدح الأمويين خاصة آخر خلفائهم مروان بن محمد، واتصل بإبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وهجا عنده المنصور، فلما قـُتل إبراهيم خاف، فقلب الكنية، وأظهر أنه قالها في أبي مسلم وحذف منها أبياتاً يقول في أول هذه القصيدة:

أَبا مُسلِمٍ ما طُولُ عَيشٍ بِدائِمِ
عَلى المَلِكِ الجَبّارِ يَقتَحِمُ الرَدى
كَأَنَّكَ لَم تَسمَع بِقَتلِ مُتَوَّجٍ
تَقَسَّمَ كِسرى رَهطُهُ بِسُيوفِهِم             


**
**
**
**
وَلا سالِمٌ عَمّا قَليلٍ بِسالِمِ
وَيَصرَعُهُ في المَأزِقِ المُتَلاحِمِ
عَظيمٍ وَلَم تَسمَع بِفَتكِ الأَعاجِمِ
وَأَمسى أَبو العَبّاسِ أَحلامَ نائِمِ


كما انتقد بشار فكر المعتزلة، وعارض قولهم أن الإنسان يخلق أفعاله، مُصرحاً باعتقاده بالمنهج التجريبي، وأنه لا يؤمن إلا بالعيان وما يشهده الحس، مما أثار عليه غضب (خليفة واصل) عمر بن عبيد، فدعا في خطبه إلى قتله، فاختفى بشار عن أعين الناس خوفاً من إباحة دمه حتى مات بن عبيد، فظهر حيث قصد (حران) ومدح سليمان بن هشام بن عبد الملك، ثم اتجه لـيزيد بن عمر بن هبيرة والى العراق في (واسط) الذي استقبله استقبالاً حافلاً، فكال له بشار المدح، ثم عاد إلى (البصرة) ليمدح إبراهيم بن عبد الله زعيم ثورة العلويين آنذاك، ثم مدح الخليفة العباسيّ الثالث المهديّ بقوله:

عُرِفتَ أَميرَ المُؤمِنينَ بِرِقَّةٍ
بَنيَ لَكَ عَبدُ اللَهِ بَيتَ خِلافَةٍ
وَعِندَكَ عَهدٌ مِن وَصاةِ مُحَمَّدٍ
وَرِثتَ عَلِيّاً شيمَةً أَريَحِيَّةً

**
**
**
**
عَلَينا وَلَم تُعرَف بِفَخرٍ وَلا كِبرِ
نَزَلتَ بِها بَينَ الفَراقِدِ وَالنِسرِ
فَرَعتَ بِها الأَملاكَ مِن وَلَدِ النَضرِ
وَصُنتَ اِبنَ عَبّاس وَأُيِّدتَ بِالشُكرِ



فلم يحظ منه أيضاً بشيء ومنعه الجائزة، فأسرها في نفسه، وهجاه هجاءً مقذعاً هو ووزيره يعقوب بن داود، وأفحش في هجاء الخليفة بقصيدة جاء في مطلعها:

خَليفَةٌ يَزني بَعَمّاتِهِ
أَبدَلَنا اللَهُ بِهِ غَيرَهُ

**
**
يَلعَبُ بِالدَبّوقِ وَالصولَجان
وَدَسَّ مُوسى في حِرِ الخَيزُران



وهجا يعقوب بن داود، فقال:

لا يَأيَسَنَّ فَقيرٌ مِن غِنىً أَبَداً
قَد صارَ مِن بَعدِ إِشرافٍ عَلى تَلَفٍ
أَخاً لِمَهدِيِّ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ
لَئِن حُسِدتَ عَلى ما نِلتَ مِن شَرَفٍ
يا أَيُّها الناسُ قَد ضاعَت خِلافَتُكُم
ضاعَت خِلافَتُكُم يا قَومُ فَاِلتَمِسوا

**
**
**
**
**
**
بَعدَ الَّذي نالَ يَعقوبُ بنُ داوودِ
وَبَعدَ غُلٍّ عَلى الزَندَينِ مَشدودِ
يوفى بِهِ فَوقَ أَعناقِ الصَناديدِ
لَقَد عَنيتَ زَماناً غَيرَ مَحسودِ
إِنَّ الخَليفَةَ يَعقوبُ بنُ داوودِ
خَليفَةَ اللَهِ بَينَ الزِقِّ وَالعودِ


فحين علم يعقوب بن داوود وكان وزيراً للمهدي، دخل عليه غاضباً، إذ كان يُكن حقداً وكرهاً شديدين لبشار لأنه هجاه قبل ذلك أيضاً، وقال: "يا أمير المؤمنين هذا الأعمى الملحد الزنديق بشار بن برد قد هجاك." فسأله الخليفة: "بأي شيء؟" فرد الوزير: "بما لا ينطق به لساني، ولا يتوهم فكرك." فقال الخليفة: "بحياتي.. ألا أخبرتني عن تلك القصيدة." فقال يعقوب: "والله لو خيرتني بين إنشادي لتلك القصيدة وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي." فأصر المهدي على سماع تلك القصيدة، فقال يعقوب: "أما لفظاً فلا، ولكني سأكتبها لك في ورقة." ثم كتبها ورفعها إليه، وحين قرأ المهدي القصيدة كاد يموت غيظاً، وأخفى في صدره لبشار كرهاً عظيماً، وقرر وصمه بالزندقة.

ويرى الدكتور طه حسين أن تهمةُ الزندقة كانت السلطة العباسية تستغلها كوسيلة تنكيل بالمثقفين وذوي الأفكار التي تهدد النظام، أو تثير اضطراباً في صفوف العامة، لأن العباسيين كانوا يخافون من انهيار الخلافة بثورة من العامة، كما عاشوا فصاماً جعلهم يتخذون من الشعراء وأصحاب الكلام والوزراء جلساء وندامى في مجالس نخبة معزولة، يتبادلون خلالها الأفكار بصفتها معرفة وأدب خواص، ويظهرون الحزم والورع والتقوى أمام العامة حتى يتمكنوا من بسط سيطرتهم عليهم، وإحكام قبضتهم على سواد الناس.

وتؤيد الحقائق التاريخية وجهة النظر هذه حيث لقب أبو جعفر المنصور ابنه محمدًا بالمهديّ تمهيدًا لإيهام الشيعة أنه المهديّ المنتظر، واستمراراً لنفس نسق التفكير السياسي المستغل للدين، سعى المهديُّ للظهور بمظهر مؤيد الدين ومحيي العقيدة، الحريص على سيرة السلف، وأبدى إفراطاً في إغلاظ حجاب النساء، وليحقق الإيهام بأنه المهدي المنتظر، أظهر شّدة ضد الزندقة وأنشأ ديوان الزنادقة، وجعل عليه عثمان بن نُهيك، وعمر الكَلْواذاني، ومحمد بن عيسى بن حمدويه، وجرم الغزل في الشعر ونهى بشارًا عنه، فخاف أبو العتاهية وأعرض عن الغزل، وقَصر شعره على الزهد والحكمة.

ونتيجة لهذا المناخ الثقافي المشبع بالإرهاب الفكري، ولتورّط بشار في مواجهة الخطاب الديني السائد، منذ نشأته الأولى وقتما كان أحد أبرز المتكلمين في البصرة، أصبح من السهل اتهامه بالزندقة العقائدية التي كانت تهمة كافية لتصفية أي إنسان يعلن موقفاً عقائدياً مناوئاً للسائد، ومن ثم يكاد قدامى الرواة يجمعون على أن بشاراً كان زنديقاً ملحداً، يؤمن بالرجعة، ولا يؤمن بالبعث، وحتى بعض المحدثين ينساقون وراء تأييد هذه التهمة فيقول د. شوقي ضيف: "وما من شك في أن بشاراً كان مُلحداً وزنديقاً، يكفر بالعرب." بينما تؤكد الحقيقة التاريخية أن بشاراً صادق واصل بن عطاء إمام المعتزلة، وعمرو بن عبيد اللذين أسسا فرقة المعتزلة التي أصبحت أفكارها خطاب الدولة العباسية فيما بعد، وكان بشارٌ صديقاً مقرباً لواصل لكنهما اختلفا حين اعتقد بشار بفساد عقيدة المعتزلة، فهجا واصل ونقد مذهبه، يقول بشار في هجاء واصل:

مالي أُشايعُ غزَّالاً له عنقٌ

**
كنِقْنِق الدوّ إنّ ولَّى وإنْ مثلا


فغضب واصل وتحول الصديقان لغريمان يكن كل منهما للآخر خصومة العداء، وعداء الخصومة، والخلاف بين الرجلين غامض لم تفصل فيه المصادر، إذ كان بشار في بادئ أمره من المتكلمين، وكذلك كان واصل، فلما صار واصل إلى الاعتزال، وصار بشار كما يقول الأصفهاني إلى الرجعة، اختلف الرجلين اختلافاً فكرياً، فانقلبت العلاقة بينهما من ود وإعجاب إلى عداء وخصومة.

ويسجل الأصفهاني لبشارٍ شعراً يمدح فيه واصلاً ويشيد بخطبه وبلاغته قبل أن يهجوه هذا الهجاء الموجع؛ وبينما أضفى هجاء بشار لواصل على شخصه مهابة، أصاب واصلاً بإهانة بالغة، حتى دفع واصل أنْ يقول: "إنّ لمن أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الملحد الأعمى." وأنْ يُحرّض على قتله قائلاً: "أما لهذا الأعمى الملحد المُشنِّف الـمُكنَّى بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أنّ الغيلة سجيةٌ من سجايا الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله وفي يوم حَفْلِه." من ثم ألب واصل العامة على بشار وأشاع بين الناس فساد عقيدته، وقد بين الجاحظُ ذلك في (البيان والتبيين) حيث بين أن بشارًا لم يكتفِ بهجاء واصل وذمه بل خرج على فكر المعتزلة وعمل على تقويضه، ويجب هنا أن نتذكر أن الجاحظ كان من شيوخ المعتزلة، والمؤكد أنه لم يرض عن هجاء بشار لواصل؛ إذ يقول: "كان بشار يدين بالرجعة، ويكفر جميع الأمة، ويصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين." وموقفه هذا من بشار لا يختلف عن بقية المعتزلة الذين اصطفوا في مواجهة شرسة لحرب بشار، فألبوا شعرائهم عليه للرد على شعره، والذود عن شيخهم واصل فها هو شاعر المعتزلة صفوان الأنصاري يقول مادحاً بن عطاء:

له خلف شَعْب الصّين في كـلّ ثغرة
رجـالٌ دُعـاةٌ لا يَفُـلُّ عزيمـهم


**
**
إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر
تهكُّمُ جبار ولا كـيدُ مـاكر


ويهجو بشار بن برد قائلاً:

فيا ابن حليف الطين واللؤم والعمى
أتهجو أبا بكر وتخـلع بعـده
كأنك غضبانٌ على الدِّين كله
رجعت إلى الأمصار من بعد واصل
تُواثبُ أقمارًا وأنت مُشـوّه


**
**
**
**
**
وأبعدَ خلق الله من طرق الرشدِ
عليًّا وتعـزو ذاك إلى بُـرد
وطالبُ ذحلٍ لا يبيتُ على حقد
وكنت شريدًا في التهائم والنُّجدِ
وأقربُ خلق الله من شَبَه القرد


فإذا أضفنا لذلك عداء المهدي لبشار الذي هجاه وتناول عرضه بشراسة في وقت كانت فيه الدولة العباسية حديثة العهد، يريد خلفائها كسب ثقة الناس، نستطيع أن نفهم لماذا انحازت السلطة لواصل في تأكيد تهمة الزندقة على بشار، ورغم ذلك تشير بعض مصادر الأدب القديم أن قتل بشار لم يكن بتهمة الزندقة، ولكن بسبب سلوكه الاجتماعي حيث لم يتورّع عن إظهار نزعته الماجنة في الحياة العامة، فبدا سلوكه الغريزي فاضحاً، وميوله الفاحشة مستفزة، ورغباته معلنة أثارت الوعـّاظ، فاستعدوا عليه العامة وسلطة الخلافة، مطالبين بوضع حد لفحشه وتمرده، وقمعه عن ولوج دائرة المسكوت عنه اجتماعياً؛ ذلك أنّ سلامة هذه الدائرة مسؤولية مؤسسات الدولة المسئولة عن الدفاع عن مفاهيم المجتمع وحرمته الثقافية كما يراها الوعاظ.

وهكذا لم يكتف بشّارٌ أن يؤلب على نفسه فقهاء البصرة ليتهموه بالزندقة الدينية والرجعة، بل منحهم نتيجة تهتكه ولا مبالاته سلاحاً آخر لاتهامه بالزندقة الاجتماعية -إن صح التعبير- فلامه مالك بن دينار على تهتكه قائلاً: "ما من شيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى." وأنـَّبه الحسنُ البصريُّ لشعره الفاحش الذي كان يتلاعب بقلوب الرجال والنساء على حد سواء، حيث لم يتورّع بشارٌ عن إظهار نزعته الماجنة للعامة، مبدياً حسّه الغرائزي وفحشه سافرًا، ورغباته معلنة، دون أن يتأثَّم في نزعاته أو يُُقرُّ بسلطة، أو يخضع لرقابة مؤسسة دولة أو مجتمع، إذ طالما اعتبر هذه الرقابة زائفة بعدما اختبرها وكشف تهتكها، يقول:

وَمُرتَجَّةِ الأَردافِ مَهضومَةِ الحَشا
إِذا نَظَرَت صَبَّت عَلَيكَ صَبابَةً
خَلَوتُ بِها لا يَخلُصُ الماءُ بَينَنا


**
**
**
تَحورُ بِسحرٍ عَينُها وَتَدورُ
وَكادَت قُلوبُ العالَمينَ تَطيرِ
إِلى الصُبحِ دوني حاجِبٌ وَسُتورُ


ليس هذا فحسب بل لم يتورع عن التحريض على التمرّد والانتهاك السافر والإغواء. يقول بشار:

لا يُؤيسنَّك من مُخبـَّأةٍ
عُسرُ النساء إلى مياسرة

**
**
قـولٌ تُغلـِظُه وإنْ جـرحا
والصعبُ يُمكنُ بعدما جمحا


ويبين البحث التاريخي تهافت تهمة الزندقة الموجهة لبشار؛ حيث نهج شعراء آخرون نهجه في التهتك والمجون وربما أكثر، ولم يتهموا بالزندقة ولم يقتلوا، فأبي نواس (198هـ) كان شعوبياً زنديقاً ماجناً، نال من المجتمع ومفاهيمه الدينية والثقافية والسياسية وقال:

      يا أَحمَدَ المُرتَجى في كُلِّ نائِبَةٍ

**
قُم سَيِّدي نَعصِ جَبّارَ السَمَواتِ


وقال مخاطباً أبا إسحاق النظام شيخ المعتزلة بشعر كله فحش يقول:

دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ
صَفراءُ لا تَنزَلُ الأَحزانُ ساحَتَها      
مِن كَفِّ ذاتِ حِرٍ في زِيِّ ذي ذَكَرٍ

**
**
**
وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ
لَو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتهُ سَرّاءُ
لَها مُحِبّانِ لوطِيٌّ وَزَنّاءُ


ورغم كل ما قاله أبو نواس أو فعله، حظي بحماية السلطة ودعمها، واستمتع بعطاياها، ولم يُقتل، إذ لم تكن الأخلاق يوماً معياراً لجودة الفنّ أو الشّعر.

يقول الدكتور طه حسين في هذا السياق أنّ التماجن في الشعر بدأ بتحول السُلطة من الأمويين إلى العباسيين، ويقصد بذلك أنّ العنصر الفارسي كان له أثر في نشوء هذه الظاهرة، وتبنّى الدكتور هدارة هذا الرأي في كتابه (اتجاهات الشعر في القرن الهجري الثاني) وقال أنّ أغلب الشعراء المُجّان كانوا من الموالي مما يوحي بأنّ عهد بني أمية كان عهداً لم يُعَبّر فيه الشّعراء إلا عن الفضائل، ففي قراءة الدكتور هدارة لظاهرة التحرر الشعري في العصر العباسي يرى أنّ المجون لم يكن دعوة ساذجة أو بريئة وإنما هو نتيجة "مؤثرات عميقة اجتماعية وفكرية ودينية." حيث يرى الشعوبية " تهدف إلى تحطيم معنويات المسلمين ودس الأكاذيب والمفتريات في أصول دينهم حتى ينتقموا لأصولهم الفارسية." وموقف الدكتور هدارة هذا موقف عنصري، يتهم موقفاً آخراً بالعنصرية رغم أنه في موقع آخر يقول: "هنالك من شعراء المجون من لا صلة لهم بالشعوبية والذي دعاهم إلى ذلك عوامل اجتماعية وثقافية." وهو بذلك يناقض نفسه ليس لسبب إلا انحيازه لوجهة نظر سلفية تخشى الإقرار بواقع مرير حتى لو كان في الماضي، فالمجون يجانب الخلق القويم ويدعو للإباحية وهو بذلك عند الدكتور هدارة تمهيدٌ للزندقة، ومقدمة لتهديد الفكر الديني والعقيدة، فكلّ معنىً ماجن تردد في الشعر العباسي في القرن الثاني الهجري من وجهة نظر الدكتور هدارة يشكك في سلامة عقيدة قائله، ومقدمة للزندقة والإلحاد!

وهذا كلام غير علمي وغير صحيح؛ إذ لم يلتزم الشعراء عبر التاريخ بما يوافق الأخلاق والفضائل، كما أن الهجاء وهو من أوسع أبواب الشعر العربي عبر التاريخ لم يقف بعيداً عن الآثام والتحلل الأخلاقي، وعمد كثير من أبرز شعراء العربية إلى الهجاء الممزوج بالقذف والفحش، فقد هجا الشعراء الأمويون هجاءً متهتكاً، وتتبعوا السوءات وطعنوا في الأنساب، وحقروا الخصوم كما فعل الفرزدق، حتى الغزل والمدح لم يقفا موقفاً أخلاقياً خالصاً في الشعر العربي، فنجد شعراً لا يختلف عن قول بشار وأبي نواس بين شعراء العصر الأموي كما في شعر عمر بن أبي ربيعة ووضاح اليمن وغيرهما؛ فهذا شاعر القرن الثاني الهجري العراقي المولد علي بن جبلة بن مسلم بن عبد الرحمن الأبناوي المشهور باسم (العكوك) والذي عاش في الفترة (160:213هـ الموافق 776: 828م) يقول:

وَبِصَدرِها حُقّانِ خِلتُهُما
وَالبَطنُ مَطوِيٌّ كَما طُوِيَت      
وَبِخَصرِها هَيَفٌ يُزَيِّنُهُ
وَلَها هَنٌ رابٍ مجَسَّتُهُ
فَكَأَنَّهُ مِن كَبرِهِ قَدَحٌ
فَإِذا طَعَنتَ طَعَنتَ في لَبدٍ

**
**
**
**
**
**
كافورَتَينِ عَلاهُما نَدُّ
بيضُ الرِياطِ يَصونُها المَلدُ
فَإِذا تَنوءُ يَكادُ يَنقَدُّ
ضَيقُ المَسالِكِ حُرَّهُ وَقدُ
أَكلَ العِيال وَكَبَّهُ العَبدُ
وَإِذا سَلَلتَ يَكادُ يَنسَدُّ


كما أن الشعر الجاهلي لم يقف بمنأى عن المجون، ناهيك عن الخمريات التي تأتي في مقدمتها خمريات الأعشى، ومجاهرته بشرب الخمر وافتتانه بها للدرجة التي صرفته عن دخول الإسلام.[14]

وتظل تهمة الزندقة شبهة أكثر منها إدانة لبشار، فهو وإن كان قلق الروح، متمرد الفكر، باحث شرس عن الحقيقة، فهو أيضاً مكتشف لزيف الواقع المحيط به على مختلف الأصعدة، فقد اخترق طبقات الخاصة من الساسة، ورجال الدين والوعاظ مخالطة جريئة، فاكتشف زيف هذا الواقع، وازدواج المعايير والقيم، مما دفعه لنقض ونقد هذا الواقع والقسوة في التعبير عن اكتشافه لهذا الإفك المحيط به على المستويات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، وحتى الفكر العقائدي، فكيف لا يؤمن وهو القائل:

وَعَجيبٌ نَكثُ الكَريمِ وَلِلنَفسِ

**
مَعادٌ وَلِلحَياةِ اِنقِضاءُ


ويقول في رثاء ابنه:

ولي كل يومٍ عَبْرَةٌ لا أفيضها

**
لأحظى بصبر أو بحط ذنوبي


إن جرم بشار الأصيل هو جرأته الفكرية التي أوصلته لتهمة المجون والزندقة، فقد كان بطبيعته قلقاً متبرماً مفطوراً على استعداء الآخرين، وساعده عمق معرفته الثقافية واختلاطه بالمتكلمين وفهمه العميق للدوافع البشرية، لتبني موقف حسي من الحياة والفكر، مختلط بما يشبه الفكر العدمي الفوضوي نتيجة اكتشافه العبقري لازدواج الشخصية البشرية التي ترتدي ثوباً أخلاقياً متطهراً أمام الناس، وتتعرى متهتكة في عالمها الخاص، فكان اكتشافه لهذه الازدواجية سابقاً على رؤية أوسكار وايلد لها في روايته العبقرية (صورة دوريان جراي).

لم يكن بشار بن برد ثائراً، ولا صاحب موقف سياسي أو عقائدي، بل شخص بوهيمي اكتشف في نفسه ملكة الشعر، وأدرك عمق تأثيرها في المجتمع الذي يعيش فيه، فقرر أن يستثمرها كأداة من أدوات التحقق الوجودي لشخص معاق، ودفعه عقله النابه لمعرفة حقائق الواقع المحيط به، فاكتشف زيف السياسة، وتلفيق السياسيين ورجال الدولة، وتهافت الفكر العقائدي وما يمارسه رجاله من تأفيق، وعرف أن الجميع بلا استثناء يعيشون واقعاً مادياً يغلفونه بقيم براقة، ليستروا حقيقة الحياة الحسية التي يعيشونها، فقرر أن يجهر بما يدفونه، فعاش حياتهم الماجنة السرقة في العلن، وأعلن(ما يسروَ فكان لعنة عليهم ـعلى نفسه.

لقد كان بشار الضرير صاحب بصيرة نافذة، استطاعت قراءة الزيف الـائم في الثقافة التي يعيشها، ودفعه قلقه الروحاني للبحث عن كافة الملاجئ التي يحاول أن يجد فيها راحة روحه القلقة، وسلام نفسه الوهاجة التواقة للحقيقة، فلم يجد، وراح ضحية الحقيقة التي اكتشف في محيطه... حقيقة أن لا شيء حقيقي. 



[1] الأصفهاني، أبو الفرج: الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. ، http//www.cultural.org.ae
[2] المرجع السابق.
[3]  أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 3-146.
[4]  المرجع السابق.
[5]  النحل: 68
[6]  النحل: 69
[7]  أبو الفرج الأصفهاني: كتاب الأغاني.
[8]  الوطواط، إبراهيم بن يحي بن علي الأنصاري الكتبي جمال الدين: غرر الخصائص الواضحة، وعرر النقائص الفاضحة، http//www.cultural.org.ae
[9]  الجاحظ، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي أبو عثمان: البيان والتبيين، http//www.cultural.org.a
[10]  طه حسين: مع أبي العلاء في سجنه، دار المعارف- القاهرة 1939م
[11]  المرجع السابق.
[12]  أبو الفرج الأصفهاني: كتاب الأغاني.
[13]  عبد الرحمن البدوي: تاريخ الإلحاد في الإسلام، ص 41.
[14]  محمد مصطفى هدارة: اتجاهات الشعر في القرن الهجري الثاني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق