الثلاثاء، 12 نوفمبر 2013


الحداثة العربية

أزمــة بنيـويــة


 
 
أحمد إبراهيم أحمد

مقدمة:

لا يزال المفهوم العلمي للتحديث محتفظاً بقدرته على تحرير المجتمعات من التخلف – خاصة في زمننا هذا الموصوم بتصاعد السلفيات على أصعدة عدة ؛ وليست السلفية الإسلامية وحدها كما تعلو الأصوات ؛ فكما كان الإسلام السياسي نتاجاً غير كريم لعلاقة غير مشروعة بين السلطة عابرة القارات مع طامحين للسلطة مسلحين بأحافير فكرية تعود لأزمنة سحيقة ؛ كانت السلفية المسيحية جاهزة هي الأخرى للارتداد على كل القيم التي حاول التنوير أن يقيمها لتصبح البروتستانتية - التي صنعت تاريخ التمرد على الكنيسة - هي الداعي للحرب الصليبية الجديدة، وكانت السلفية الصربية بعثاً لكل ما هو كريه في تاريخ الإقصاء والتصفية العرقية، ولم تكن الهندوسية بعيدة عن ذلك وهي تتصاعد حاملة ميراثاً من الكراهية والبغضاء لا يقبل إلا بإلغاء الآخر من الوجود هو وما يمثله من تراث ثقافي على الأرض، وأخيراً وليس بآخر السلفية اليهودية التي لا تكتفي بتجاهل الآخر، وسلبه حقه بل تسعى سعياً حثيثاً لإلغاء الآخر العربي إلغاء كاملاً ليس معنوياً فقط بل ومادياً أيضاً من خلال إرهاب الدولة المنظم في الاغتيال والقتل.. لذلك تصبح العودة لقيم التحديث ضرورة لنا نحن وكل المحاصرين بالتخلف لأننا جميعاً في أشد الحاجة إليها لمواجهة كافة العشوائيات الفكرية والسياسية التي بلغت في تطرفها حداً جعلها أداة العديد من النظم السياسية للتواجد عبر التعصب وقمع الآخر.

ويطرح سؤال نفسه: هل ندخل عالم التحديث، والغرب قد غادره لعالم ما بعد الحداثة ؟ هذا العالم الذي يقر بأن الحداثة أهملت عناصر كثيرة هامة كالفطري، والريفي، والروحاني.. هذا ما سنحاول أن نبحث حوله.

الهدف:

البحث عن العوامل، والأدوات التي تنتج ثقافة جديدة حقيقية من وعي حقيقي غير مزيف، أو مصنوع ؛ ثقافة تعتمد على إدراك قيمة الإنسان الفرد، وشروط التواجد الاجتماعي السياسي للإنسان العربي في مجتمعه، والمناهج المؤدية لصنع المستقبل بوعي يستند للتاريخ الموضوعي، ولا يحول التاريخ لمذبح تقدم له قرابين البشر وقيمهم لتأمين واقع سياسي اقتصادي اجتماعي مهترئ، ودون خلط التاريخي بالمقدس، والثابت بالمتحول لإكساب أشكال السلطة قداسة ليست فيها بدءاً بسلطة الأب داخل الأسرة، وامتداداً حتى سلطة البطريرك الحاكم لأعم المؤسسات.

أولاً: تأسيس المفاهيم، وضبط المصطلحات:

نحدد في هذا الجزء المفاهيم الأساسية، ونتبنى معنى محدد للمصطلحات التي سيتم تداولها لتضييق شقة الخلاف حولها ؛ حتى لا نغرق في اختلافات الترجمات، والمفاهيم.

الحديث Modern:

تجدر الملاحظة أن الجذر اللغوي الغربي Mode يُستعمل جوهرياً للتعريف بمفهوم الحداثة، وأن الدلالات القاموسية تشير لبعدين.. الأول الزمني الكرونولوجي الذي ينتقل فيه النشاط الإنساني من القديم للحديث، والثاني هو التحول البنيوي المتمثل بما يطرأ على المجتمعات من تغيير في: البني الأساسية ( كنتيجة لتغير طرق التفكير، والتعبير ) ومن ثم أساليب العيش، والثقافة المنتجة تبعاً لتلك التحولات الجوهرية.. أساساً في طرق التفكير باعتبار الفكر سابق على الفعل ؛ كون العقل أحد أهم سمات الإنسان.. أي أن سلسلة مفردات الحداثة لا بد أن ترتبط، فكرياً وبنيوياً، بالتحولات الجوهرية التي تحدث في الأزمنة الحديثة على ( طرق – صيغ – أشكال – أساليب التفكير، والتعبير، والنظر إلى ): الإنسان، والمجتمع، والطبيعة، والعالم بغض النظر إذا ما تم التنظير لهذه التحولات أم لا ؛ حيث أن التغيير يتم بناء على تراكم ثقافي سواء كان بشكل واع، أو غير واع، والاتجاهات الحديثة تنحو نحو التغيير الثقافي القصدي لإنتاج الثقافة بشكل واع، وفي اتجاهات بعينها، والحديث Modern هو العصري، والأقرب زمنياً، وتوصف به التقنيات، والطرق، والأفكار، والأساليب التي تتميز - خاصة في الآداب والفنون - بتمرد، وجسارة لإحداث قطيعة مع الأشكال، والتقنيات التقليدية في التعبير، ويقدم قاموس المورد، وقاموس ميكروسوفت الإلكتروني ترجمات للجذر Mode ذات مغزى بسيط واضح هي: صيغة -  شكل- أسلوب - طريقة (عمل شيء) - زيّ سائد، وفي لسان العرب الحديث نقيض القديم، وحدث الشيء يحدث حدوثاً، وحداثة، وأحدوثة، فهو محدث، وحديث، والحدوث كون شيء لم يكن، وقال النبي r. كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وأحدث الرجل وأحدثت المرأة إذا زنيا، والحدوث كون شيء لم يكن وأحدثه الله فحدث، وحدث أمر أي وقع، ومحدثات الأمور ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها، وفي الحديث: إياكم، ومحدثات الأمور.. الخ.

الحداثة La modernié - Modernity:

يقدم جان بودريلار Jean Budrillard تعريفاً موجزاً: صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد، وتعارض جميع الثقافات السابقة، أو التقليدية.

الحداثية Modernism:

يذكر قاموس وبستر بعض معانيها الأساسية على النحو التالي: ممارسة - استعمال - تعبير خاص يميز الأزمنة الحديثة - طريقة للعيش، أو التفكير مميزة للأزمنة الحديثة - فلسفة، وممارسات الفن الحديث خاصة الخروج الذاتي الواعي المقصود على الماضي، والبحث عن أشكال تعبيرية جديدة.

الثقافة Culture:

يعرف لسان العرب الفعل ثقف بعد تصريفه: ثقف الشيء ثقفاً وثِقافاَ وثقوفةً أي حذقه، وثَقِفً وثَقٌفّ أي حاذق فهم  ، ويقال ثَقِفتُ الشيء أي حذقته، ومنه المثاقفة، والثُقاف حديدة تكون مع القواس والرماح يُقوم بها الشيء المعوج، وتثقيفها تسويتها، ويعرف قاموس ميكرو سوفت الإلكتروني، والمورد Culture بـ:حراثة – تثقيف – يثقف، ويضيف المورد حضارة ومرحلة معينة من التقدم الحضاري – نتاج عملية الاستنبات ، وقد أجملت الدكتورة / سامية الساعاتي في كتابها الثقافة، والشخصية – بحث في علم الاجتماع الثقافي الصادر عن دار النهضة العربية تعريفات الثقافة في سبعة أنماط أساسية هي:

1.         التعريفات الوصفية:

وتتسم بالنظرة الشمولية للثقافة كنشاط إنساني متصل العناصر، وأشهرها تعريف تايلور: " ذلك المركب المعقد الذي يشمل المعلومات، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والعرف، والعادات، والتقاليد، وجميع القدرات الأخرى التي يستطيع الإنسان أن يكتسبها بوصفه عضواً في مجتمع ما ".

2.        التعريفات التاريخية:

تركز التعريفات التاريخية للثقافة على التراث الاجتماعي Tradition والتقاليد مثل تعريف سابير: " مجموعة الممارسات، والمعتقدات المتوارثة اجتماعياً، والتي تحدد جوهر الحياة المعاشة ".

3.        التعريفات المعيارية:

وتقسم إلى قسمين القسم الأول يرى في الثقافة قواعد وطرق، وأساليب حياة، والقسم الآخر يراها منظومة المثل والقيم.

4.         التعريفات السيكولوجية:

وتنقسم أيضاً لقسمين الأول معني بالثقافة كأداة للتكيف لمواجهة ظروف الحياة، وأداة لحل المشاكل عبر نماذج سلوكية تورث، ويعاد توريثها بعد الإضافة لها أو الحذف منها، ويربط القسم الثاني بين الثقافة، وقدرة الإنسان على التعلم.

5.        التعريفات البنيوية:

ترتبط تعريفات الثقافة عند البنيويين بالنموذج Model، وتؤكد على العلاقات التنظيمية المتبادلة بين مظاهر الثقافة المختلفة، وتبرز الخصائص التجريدية للثقافة، فمثلاً يرى دولارد Dollard أن الثقافة " اسم يطلق على العادات المجردة، أو المرتبطة ببعضها البعض لمجموعة اجتماعية معينة بمعزل عن هذه المجموعة ".

6.       التعريفات التطورية:

تبحث هذه التعريفات في نشأة الثقافات وتطورها، فيرى بعض الدارسين أن الثقافة منتج Product للتفاعل الإنساني في البيئة، ويرى آخرون أن الثقافة أفكار Ideas تنتقل من فرد لآخر في المجتمع باللغة، والمحاكاة، وأشكال الرموز، والسلوك.

7.        التعريفات الشمولية:

تتميز بتناول الثقافة من جوانب متعددة تشمل الوصفي، والتاريخي، والمعياري، والتطويري، وتحاول تحليل الثقافة، والتعرف على ما هيتها، ومكوناتها، وتفسير نشأتها، ومن أبرز هذه الاتجاهات الماركسية التي ترى أن الثقافة ظاهرة تاريخية يتحدد تطورها بتطور النظم الاقتصادية، والاجتماعية، وتأخذ بالتالي طابعاً طبقياً فيما يتعلق بمضمونها الفكري، وأهدافها القريبة والبعيدة، والعلاقات السلوكية المحكومة بها.

الحضارة Civilization:

يشرح لسان العرب الجذر حضر بالحضور نقيض الغياب، والغيبة، والحضَرُ خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، والحضارة الإقامة في الحضر، والحاضرةُ والحاضرُ الحي العظيم أو القوم، وحُضِرَ المريض واحتُضِرَ إذا نزل به الموت، والمُحْتَضِرُ الذي يأتي الحضر، والحضْرُ شحمة في العانة وفوقها، والحُضْرِ هو العدو بينما يعرف قاموس ميكرو سوفت الإلكتروني Civilization بـ: حضارة – شعوب متحضرة – رفعة في الذوق، وفي قاموس المورد: الحضارة المدنية – التمدن – صيرورة الأمة المتمدنة – الشعوب المتحضرة – رفعة في الذوق و التفكير أو التصرف، وفي دائرة المعارف الإلكترونية إنكارتا تعرف الحضارة بأنها حالة متقدمة من حالات المجتمع تعكس وحدته التاريخية والثقافية، وتعبر عن هوية المجتمعات من خلال إنجازاتها المميزة التي تساعد المؤرخين على التمييز بين الثقافات، وطبقاً لمناهج التاريخ الغربي الحديث تشير كلمة حضارة لعدد من المجتمعات القديمة، والحديثة للدلالة على طرز ثقافية، وتاريخية معينة مثل الحضارة المصرية القديمة، والحضارة الإسلامية الأموية، أو العباسية، والحضارات السامية، والحضارة البيزنطية.. الخ.. أي أن الحضارة تعبير عن منجزات ثقافة مجتمع ما خلال فترة زمنية.

العقل Mind - Reason:

يعرف قاموس لسان العرب عقل بالحِجْر والنهي ضد الحمق ( فعل سالب )، ورجل عاقل وهو الجامع لرأيه وأمره ؛ مأخوذ من عَقَلْتُ البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، وأخذ من قولهم اعتقل اللسان إذا حُبِسَ ومُنِعَ الكلام، وقيل العقل هو التمييز الذي به يتميز من سائر الحيوان، ويقال اعطني عَقُلاً فيعطيه ما يمسك بطنه بعد استطلاقه، وفي قاموس ميكرو سوفت الإلكتروني نجد تعريف Reason بـ: سبب – يفكر – يقنع وفي قاموس المورد: سبب – داع – مبرر – تفسير – عقل – صواب – رشد – يفكر – يجادل – يقنع بالحجة والمنطق – يستنبط أو يكتشف منطقياً - معقول - يعيد إلى جادة الصواب، وبعرف قاموس ميكرو سوفت الإلكتروني Mind ذاكرة - عقل – ينصاع، وفي قاموس المورد: ذاكرة – عقل – نية – رغبة – رأي – وجهة نظر – مزاج – طبع – المقدرة العقلية – يذكر – يتذكر – ينصرف إلى – يلاحظ – يعتزم – يطيع – يتدبر – يتبصر – يحذر.. يوضح كل ما سبق من تعريفات وجود تباين يصل لحد التناقض بين المفاهيم المطروحة ودلالاتها تختلف في الثقافة العربية عن نظيرتها الغربية.

الحضارة الغربية، والتحديث:

تضمن كتاب المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي دراسة للتاريخ A study of History الصادر على عدة أجزاء ما بين 1939-1945م إشارات للتغييرات التي حدثت في الحضارة الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، ويصف ظهور الطبقة العاملة الصناعية كطبقة متوسطة تشير إليها كلمة Modern  ويرى أن الثقافة الغربية الحديثة مرحلة من التطور تتميز بصعود هذه الطبقة ( التي تتآكل بشدة الآن في المجتمعات العربية نتيجة الفرز الاقتصادي الجائر الذي يكدس الثروات في أيدي قلة محدودة في مجتمعات تسود فيها قيم السوق، والسمسرة، ويغيب المشروع المنتج ).

وقد دفعت الحضارة الغربية ثمن التحديث كاملاً لأنها كانت مضطرة للتجريب حتى تُكتشف القواعد المؤسسة للتطوير من خلال الممارسة والتجريب، فكان الفعل بالضرورة سابقاً على التنظير، فبعد أن حققت تجربة التحديث الأوروبية الثورة الصناعية، وأخذ المجتمع الحضري المدني في التشكل لعب الفكر الديني المتفلسف دوراً إيجابياً – آنئذ – فكانت البروتستانتية هي التي سعت لفصل الدين عن الدولة، وطرحت قيماً جديدة تناسب العصر فبلورت نمط إنساني يثمن العمل الجاد المخلص، وشجعت على تقنين الإنفاق ( منظومة أخلاقيات العمل ) التي ساعدت على تطوير الرأسمالية الصناعية جنباً إلى جنب العوامل المؤسسة للحداثة مثل:

1.         الإقرار بالتمايز بين عالمين.. قديم، وحديث، وتميز الحديث.

2.        إعلاء شأن التفكير والتفلسف والثقافة العقلانية.

3.        اعتبار العلم أساس للحياة، وتجاوز ما وراء الطبيعي.

4.         تقنين المناهج العلمية في التفكير، والبحث العلمي.

5.         الاعتماد على المناهج العملية العقلانية في العمل والحياة.

أدى ذلك إلى ما سماه ماكس فيبر " التحرر من الوهم " ويقصد به التحرر من وهم القوى الخارقة المنسوبة لما وراء الطبيعة، أو للإنسان الساحر والخارق، وإحلال القوانين العلمية الضابطة للظواهر محلها، وقد نتج عن التحديث العديد من التحولات في بنية المجتمع الغربي من أبرزها:

1.        تراجع دور المجتمع الزراعي، وتغير بنيته الاقتصادية، والاجتماعية، ونوع الأنشطة.

2.       تنامي دور المجتمع المدني، وتغير بنيته الاقتصادية، والاجتماعية، ونوع الأنشطة.

3.     تعاظم دور الكيان الفردي في مواجهة السلطة الثقافية بأبعادها المختلفة، ونمو مفهوم الحرية الشخصية في مواجهة الضوابط، والموانع ، وتحرر الفرد الحديث من عقد الذنب التراثية ليصبح قادراً على الجمع بين متع الروح والجسد، وتحرير انفعالات النفس، وتحقيق السعادة الفردية.

4.        ازدياد دور نظرية التحدي والاستجابة لمواجهة الأزمات الفكرية والموضوعية بأساليب مادية ؛ بما في ذلك المشكلات الثقافية المختلفة الناشئة عن التحديث. 

السياق التاريخي للتحديث في الثقافات الغربية:

كان التحديث الغربي إيذاناً بميلاد الفرد الحر، وعنوانه الأساسي في الفكر (التنوير)، وفي السياسة ( فصل الدولة عن الكنيسة )، والسلطة المرجعية ( العقل )، والحلم هو (التغيير الشامل)، وسبق القول أن الانتقال من القديم للحديث في الغرب حدث قبل التقنين النظري للتحديث، فقد كانت ثقافة العصور الوسطى ما زالت مزدهرة في شمال أوروبا حتى القرن الخامس عشر، وبدايات القرن السادس عشر حين بدأ في إيطاليا تدريجياً عصر النهضة Renaissance  أو Rebirth ويعني الميلاد الجديد منذ نهايات القرن الرابع عشر بإعادة إحياء الثقافة الرومانية الكلاسيكية التي هي في الأصل إعادة إنتاج للثقافة اليونانية القديمة، وكانت أبرز خصائص التفكير الحديث في عصر النهضة إعادة اكتشاف الآداب والفنون القديمة بمناهج عقلية علمية متحررة يحركها الفضول المعرفي، والموضوعية في التفكير والبحث، واعتماد مبدأ الإنسانية الذي يعلي قيمة الفرد، ويرى أن التعليم، والفنون، والآداب ترتقي بقيمة الفرد الذي هو وحدة بناء المجتمع فترتقي المجتمعات، وانتشرت الفلسفات الأخلاقية، وكان للفلسفة دور هام في مراجعة القيم الإنسانية السائدة، واستنكار الأفكار التقليدية ( مثل الحق الإلهي في التملك لإقطاعي أوروبا وملوكها ) وطرح القيم السائدة محل تساؤل من حيث قدرتها على تطوير وتحديث الحياة بشكل عقلاني، ولاقى ذلك اهتماماً وتشجيعاً من العائلات الأرستقراطية كعائلة   ميديتشي Medici الذين رأوا أن دعم المفكرين، والمبدعين يمكن أن يضيف لهم مزيداً من العظمة، وانتقلت  أفكار النهضة إلى ألمانيا،، وفرنسا، وإنجلترا ثم بقية أنحاء أوروبا وفي هذه المرحلة، وحتى القرن الثامن عشر صنع الأوروبيون التغيير، وعاشوا الزمن الحديث دون تنظير أو إدراك واع لما يصنعونه، ومع بلوغ القرن الثامن عشر نهايته، وانفجار الثورة الفرنسية اتضح لأوروبا كلها أن الزمن تغير تماماً عن الأزمنة السابقة، وأنهم يعيشون زمناً مختلفاً، فأخذت الأفكار الحديثة تقتحم مختلف مجالات الحياة مصحوبة بانفجار علمي، ومعرفي ساعد على التنظير للتغيير، وقيادة العقل المتفلسف لهذا التغيير، ولم يكن التغيير للأحدث طفرة بل كان نتاج تغيرات بنيوية عميقة في الثقافة الغربية، فحدث التغيير بشكل منطقي متسلسل، وصاحب التغيير الفكري تغيرات أساسية في البني الاقتصادية، والاجتماعية للمجتمعات الأوروبية كان أبرزها النمو الحضري للمدن، وانعكاس ذلك على الأنشطة الاقتصادية التجارية، والنمو الصناعي ؛ وقد تأثرت بالتالي المجتمعات الريفية التي تحولت من مجتمعات تنتج للاكتفاء الذاتي إلى سوق يبيع المنتج الزراعي مما انعكس أيضاً على بنيتها الاقتصادية والاجتماعية لتتحول من مجتمع إقطاعي تقليدي إلى مجتمع تبيع فيه قوى العمل جهدها البدني كمثيلتها قوى العمل الحضرية في المصانع، وساعد النشاط التجاري والصناعي على جعل أجزاء كبيرة من أوروبا وحدات اقتصادية مكتملة من الناحية العملية، وتراجع الغزو الخارجي، وساعد على ظهور الدولة القومية فيما بعد، وتراجع دور الكنيسة كسلطة دنيوية تستأثر بجزء كبير من دور الدولة وكان لأفكار عصر النهضة دور كبير في تغيير سياسات هذه الفترة التي كانت فيها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية هي القوة العظمى بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، وظهرت أفكار سياسية جديدة تماماً على الساحة الفكرية الأوروبية تركز على النمو المادي المعتمد على أحداث واقعية لا علاقة لها بالدين أو بالأخلاق، وواجهت الكنيسة التحدي تلو الآخر لنزع السلطات الهائلة التي اكتسبتها وأكسبتها الثروة على مر السنين، وبذلت الكنيسة قصارى جهدها لكسب تلك التحديات محاولة إعادة صياغة هويتها، وبنيتها  إلا أن الأمر انتهى بفصل الكنيسة عن الدولة، وكان للعلم دور بارز في عصر النهضة حيث كان الفضول العلمي، والتجريب لمعرفة هذا الوجود، واستجلاء خباياه بأدوات عقلية بديلاً للمعارف الوصفية القديمة المعتمدة على نصوص مقدسة، أو تراثية غير مبنية على أسس عقلية.

ولأن التحديث يعمق حركة المجتمعات رأسياً في الزمن إلى الأمام، ويزيد التباعد مع الماضي لحد القطيعة في بعض الأحيان باعتبار الماضي قوة جذب للخلف، ولأن التحديث يزيد من الامتداد والتلاحم الأفقي مع التجارب الموازية والمعاصرة للأخذ منها، ومنحها، فقد واجهت الحداثة ردود فعل معارضة سواء من التيار الديني، أو العلماني على حد سواء بسبب الخوف من مواجهة الأزمات الثقافية التي لابد وأن تتولد عن التحديث، وقد ساهمت أفكار نيتشة، وفرويد، وكارل ماركس بقوة في هذه المساحة، وفي ذات الوقت رفضوا اختزال الحداثة في مجرد ( انتصار العقل ) حتى لا يصبح العقل سلطة مستبدة بديلة عن السلطات التي يسقطها التحديث يقمع العناصر الثقافية الأخرى، ويعزلها عن دورها في بناء الثقافة، والحضارة الحديثتين ؛ إلا أن التحديث لم يتوقف رغم كل شيء.

 

حقيقة:

متوسط إجمالي الناتج القومي العربي خلال السنوات الأخيرة يعادل 650 مليار دولار سنوياً بما فيه دخل البترول، وهذا الرقم أقل من إجمالي الناتج القومي لدول مثل إيطاليا، وأسبانيا، والميزانية السنوية لشركة واحدة من بعض الشركات الأمريكية تفوق هذا المبلغ.

التحديث رؤية ثقافية كلية تشمل كافة العناصر الثقافية، ولا تستثني شيئاً، ليس المطلوب مماهاة هوية الثقافة العربية بالثقافة الغربية، فهذا مرفوض تماماً، المطلوب هو إنتاج ثقافة عربية الهوية مستفيدة من الإنجاز الفكري، والثقافي، والحضاري الغربي، ولا يمكن إنجاز ذلك إلا من النقطة التي انتهى إليها الفكر الإنساني في ذات لحظة بدء مشروع التحديث العربي المستهدف لتحقيق انطلاق مواز للإبداع الإنساني المتكافئ، وليس المتطفل من منطلقات عدة أهمها أن التحديث نموذج قابل لإعادة الصياغة، والصهر، والصب في قوالب جديدة، وتجربة اليابان، ونمور جنوب شرق آسيا نماذج للاستفادة من التحديث، وتطويعه لبنية المجتمع، وتطويع بنية المجتمع لبنية التحديث دون تلفيق، فالنماذج غير الغربية التي أنجزت التحديث قَبَلَت بالتحديث كمفهوم كامل بلا انتقائية، وصاغت نمطاً جديداً لثقافتها في إطار نموذج التحديث الغربي، وخلال الممارسة أضافت، وعدلت ما يثري التجربة لا ما ينتقص منها أو يضع عملية التحديث بأكملها خارج السياق المفترض فكرياً لها.

وللأسف لم تنجز الثقافة العربية حتى هذه اللحظة مشروع الفطام عن الماضي رغم أن فرصة ذهبية قد أُتيحت لها لتستفيد من خلاصة النتاج العقلي الغربي بعد إنجاز تجربة التحديث الأوروبية، وأن تُمَارس التجربة العملية على أسس فكرية مقننة واضحة، وأن يتم التحديث دون التكاليف الباهظة التي دفعتها الحضارة الغربية من حروب أنتجت ملايين القتلى، والجرحى والمشوهين، وثورات أصابت أحياناً، وأخطأت أحياناً أخرى ودفع ثمن أخطائها أفضل بعض العقول الأوروبية من حياتهم.. كانت فرصة الثقافة العربية الثمينة أن تمارس الفعل تالياً للفكر المُجَرَب ؛ إلا أن العرب، والمسلمين اختاروا أن يعيدوا اختراع العجلة، وحتى الآن لم يستطع معظمهم التوصل لذلك، ففي مصر في القرن التاسع عشر طرح المبصر الوحيد طه حسين تصوره عن تبني مشروع التحديث من الحضارة الغربية بالكامل ورُفضت فكرة طه حسين، وكان البديل سيادة فكر التوفيق – التلفيق الذي تزعمه الأفغاني والشيخ محمد عبده، ولأن العمل لا يمكن إلا أن يكون نتاجاً للدلالات الثقافية خاصة الاجتماعية والعقائدية منها، فقد خضع العمل في المجتمعات العربية لأفكار مطلقة، وهو النسبي في التكوين، فكانت النتيجة سلسلة أفكار القرن العشرين التي دعمت مجتمع استهلاك السلع المجلوبة من بعيد حين أفتى بعض عباقرة المشايخ بأن الله Uخلق لنا اليابان، وأمريكا، وأوروبا لينتجوا لنا وسائل الرفاهية التي نعيش بها!؟

و تواجه الثقافة العربية دون مواربة أزمات تكوين، فعلى المستوى الفردي أزمة إنسانية خانقة، ففي الوقت الذي دعمت فيه الثقافات الحديثة نزعات إنسانية تعلي قيمة الإنسان ككائن فرد يحقق وجوده من خلال علاقات تتسم بالمساواة، والشراكة بين الأفراد حولت ثقافة.. الخوف.. الإلغاء.. الدمج.. الترهيب.. الفرد العربي إلى كائن شديد التعقيد والأنانية حتى تحول كل فرد إلى جزيرة منعزلة.. كلهم غير قادر على التلاقي أو العمل مع بعضهم البعض حتى على المستوى الفكري كحد أدنى، ويستلزم تحقيق هوية هذا الإنسان إعادة أنسنته بعدما تشيء، وذلك بتحريره من الخوف أولاً، وبعدما تتحقق أنسنة الإنسان العربي يصبح الكلام وارداً عندئذ عن صنع ثقافة ينتجها أفراد أسوياء متشاركين في صيغ مجتمعية صحية، وفي سياق الأزمة العامة تواجه الثقافة العربية على المستوى الجمعي فوضى مجتمعية تتضارب فيها الرغبات، والهويات، والتقنيات، والأنظمة، والقوانين، والعادات، والتقاليد، والمعتقدات، ومنظومات قيم متعددة تساهم كلها في ترسيخ وتجذير التخلف.. إنها ثقافة التشظي، والتشيوء تواجه مشكلات ما بعد الحداثة دون أن تمر بالتحديث.

ما بعد الحداتة:

السؤال المطروح: هل ندخل عالم التحديث، والغرب قد غادره لعالم ما بعد الحداثة ؟ هذا العالم الذي يقر بأن الحداثة أهملت عناصر كثيرة هامة كالفطري، والريفي، والروحاني ؟

الإجابة أبسط بكثير من السؤال، فالتحديث ليس الحداثة التي هي مرحلة من مراحله دائمة الصيرورة إذا ما نظرنا لتحديث الثقافة كحالة استمرار بنائية، فالتحديث يتسع للحداثة، وما بعد الحداثة، وما سيأتي بعدهما من أفكار ومذاهب طالما بقيت النظرة للجديد، والحديث، والمتغير نظرة حيوية فعالة ترى في القديم، والمرجعي، والثابت قضية متحولة قابلة دوماً للنقاش في إطار التحول الزمكاني ؛ إن النقد الصارم الموجه لسوء تطبيق العلوم الإنسانية والطبيعية الحديثة صحيح بلا شك ؛ إلا أنه لا ينفي ما حققته هذه العلوم من انتصارات، وما قدمته للبشرية من إنجازات على طريق التقدم، وكون هذه العلوم بحاجة لضوابط جديدة لا يدين المنهج العلمي بقدر ما يدين القائمين علبه من بشر، وما يحملونه من ضوابط قيمية، وقيم إنسانية.

ولا يتوقف التحديث إلا عندما تتوقف الثقافة عن تعريف ومناقشة قضايا البنى الاجتماعية، ووظائفها، والسلوكيات الناشئة عن هذه البنى والوظائف على المستويات الفردية والجماعية، وتحليل موقع النظام الاجتماعي باعتباره نتيجة للبنى الاجتماعية، ووظائفها، والممارسات الحادثة داخل النظام، والتعامل مع كل ذلك على محور القديم – الجديد، أو السلفي – المحدث، أو التخلف – التنمية.. إن التناقض بين مقدمات الحداثة ونتائجها ليس عيباً في المنهج، ولكنه واقع نشأ من حقيقة أن المفكرين والفلاسفة والحكماء والفنانين يبدعون، وأصحاب رؤوس الأموال يحركون السياسيين لصنع الواقع على الأرض في إطار مصالحهم.

ويجب علينا أن نقر أن التحديث لا يعني الانتقال من مجتمع إلى مجتمع آخر، فالتحديث لا يجعل المجتمع الجديد يلغي القديم، ويجب أن نتذكر أن انتقال الفكر العالمي لمرحلة ما بعد الحداثة لا يعني انتهاء التحديث، فقد قادت ظواهر عديدة لما بعد الحداثة إلى تطرف متعدد المستويات، التطرف الديني أحد أوجهه، مما يستلزم تبني ثقافة مواجهة لكل أشكال الانحياز اللا عقلاني كالنازية الجديدة، والصهيونية، ومعاداة السامية، ومعاداة العرب.

وحيث يعيش العالم الآن مرحلة ما بعد الصناعي الذي تمثل فيه المعرفة العلمية مصدر القوة الجديد بعد أن تراجعت التكنولوجيا خطوة للخلف، وأصبح العمل الذهني، والإنتاج الفكري في مختلف المجالات السمة الأساسية للإنتاج المتقدم ( كما في إنتاج برامج الكومبيوتر، ونظم التصنيع شبه الكاملة أو الكاملة الأتمتة ) فإن المبدأ المحوري في هذه المرحلة أن المعرفة النظرية مصدر الابتكار وصياغة السياسات في المجتمع باعتبارها محور الإنتاج الجديد، ومن ثم فإن الخطوة القريب إنجازها هي إبداع تكنولوجيا جديدة تساعد على اتخاذ القرارات ؛ إلا أن مرحلة ما بعد الحداثة التي نشأت موازية لهذا التحول تمارس ردة فعل على إخفاقات العلم الحديث، وتجاوز القيمي، والتعالي المطلق للحديث على القديم، وتحقير الفطري وغير الحضري مقابل إعلاء شأن المدني، وتحاول تيارات ما بعد الحداثة ( وهي عملية تحديث الحداثة ) إعادة الاعتبار لما أهُدر أثناء التحديث لأسباب غير موضوعية أو عقلانية، ووضع معايير قيمية جديدة لأنسنة العلم، وروحنة العقل.

الحضارة العربية، وواجب إنتاج الثقافة:

تواجه الثقافة العربية أعمق أزماتها في هذه الفترة في إطار ما يطرح عن صراع الحضارات الذي نَظَر له صمويل هنتنجتون، وتبنته المؤسسات السياسية في بعض الدول الغربية، أو حوار الحضارات الذي طرحه الرئيس الإيراني علي خامئني، وتبنته منظمة الأمم المتحدة للعلوم، والثقافة.. اليونسكو.. تحت مسمى ( التنوع الخلاق ) وفي تصورنا أن هذه الأزمة نابعة من التركيبة الثقافية العربية المعاصرة التي تتسم بالتلفيق تحت مسمى التوفيق، وغياب المفاهيم المؤسِسة لمدلولات الثقافة بشكل علمي مستقر وواضح يساهم في تحديد حجم، ودور كل مكون من مكونات هذه الثقافة الهجين، وطبيعة الأداء الذي يجب أن يتصف به كل عنصر بما يضمن عدم تجاوزه لحدود دوره في إطار ذات الثقافة ( كما يحدث الآن من نمو سرطاني لبعض عناصر الثقافة العربية، والإسلامية حيث يسعى عنصر واحد من عناصر الثقافة لاحتلال الثقافة بأسرها ) وحتى يمكن لهذه الثقافة أن تنتج نتاجاً طبيعياً غير مشوه، وقابل للنمو في موازاة الثقافات الأخرى، وقد سبق أن أشرنا إلى تنبؤ بعض المثقفين مع بدايات حركة التحديث العربية بالوصول للنتيجة التي نعاني منها الآن وكيف أن التيار الديني تبنى وقتها فكرة التوفيق ؛ بينما نادى التيار العلمي العقلاني بفهم وقبول التحديث الغربي كعملية متكاملة تُقبل، أو ترفض كلها One Package Deal  في هذا الإطار حاولنا مناقشة الأطر العامة لعملية التحديث في سياقها الغربي، والتعرف على القواعد العامة المؤسِسة للتحديث للتعرف على بنية التحديث العربي، واستقراء واقع إنتاج الثقافة العربية، وقدرتها الراهنة على المثاقفة انطلاقاً من حقيقة واقعة مفادها أن البشر علي نقيض الكائنات الاجتماعية الأخرى لا يعيشون مجرد حياة في مجتمع ما، ولكنهم ينتجون هذا المجتمع ليعيشوا فيه، وهم لا ينتجون حالة واحدة من المجتمع بل ينتجون أشكالاً عديدة قابلة للتغير الدائم معقدة التفاصيل ذات بني محكمة تتضمن وسائل متنوعة للعمل والكلام، وتنسيق العلاقات البينية في المستويين الأفقي (فيما بينهم بعضهم البعض ) والرأسي (إيجاد قيادات والاستجابة للتفاعل معها) كذلك توجيه النسق العام للحياة المشتركة والاهتمام بالقضايا المادية (الفيزيقية)، والقضايا فيما وراء الطبيعة ( الميتا فيزيقية).والثقافة هي الناتج النهائي لهذا النشاط، وتشكل مجمل التفاصيل والتعقيدات التي تحقق ترابط أفراد مجتمع ما - بعضهم ببعض - وإنتاج الثقافة يعني إنتاج علاقات بينية ناضجة ومتطورة للمجتمع بذاته وبقياداته كما بالمجتمعات الأخرى، ولأن الثقافة تعبير مباشر عن شخصية المجتمع، والمؤسسة الثقافية يجب أن تكون الوعاء الذي يستوعب المثقفين ويستقطبهم، وفي إطار التطور الفكري الذي شهدته البشرية في القرن الماضي، والنمو المطرد لمختلف العلوم الإنسانية نضجت فكرة ( إنتاج الثقافة ) باعتبارها نشاطاً إنسانياً يخضع لذات القواعد المنهجية للإنتاج.. والاستثمار في الثقافة ذو عائد إيجابي على بنية المجتمع -مباشر وغير مباشر- حيث يحقق النمو الثقافي فهماً أفضل للأفراد عن ذواتهم، وعن مجتمعاتهم كما يحقق للمجتمع فهماً افضل لإمكانياته واحتياجاته - خاصة المعرفي منها - ومن ثم تساهم الثقافة في إحداث تطورات إيجابية في نمو المجتمعات، وتُنتج الثقافة بأشكال متنوعة ومستويات مختلفة تتراوح من البساطة للتعقيد ؛ لكن يظل إنتاج الثقافة بأهداف واضحة ومحددة، وعبر مؤسسات وهيئات تشكل طليعة وصفوة للمجتمع هو النمط المستهدف تحقيقه كونه الأكثر فاعلية ومطلوب شيوعه في ذات الوقت.

إنتاج الثقافة.. البنى الأساسية:

نقر بادئ ذي بدء أن المؤسسات التي تنتج الثقافة موجود معظم أشكالها فعلياً في معظم البلاد العربية – لكن – ليست القضية وجود هذه المؤسسات في حد ذاته بل تكمن المعضلة في المنهج الذي أُنشئت به هذا المؤسسات، وأساليب عملها، والنظرة المجتمعية لطبيعة الإنتاج المطلوب منها إنتاجه، وعلينا أن نقر أيضاً أن المجتمعات الأكثر نمواً اقتصادياً هي المجتمعات الأقدر على إنتاج فكر أكثر تقدماً إذ يحتاج إنتاج الثقافة إلى مؤسسة أو هيئة من نوع المؤسسات القادرة اقتصادياً ولا تستهدف الربح   NON PROFIT ORGANIZATIONSذات مكونات مادية أساسية يمكن عبرها ممارسة نشاط يفرزالمنتج الثقافي المستهدف إنتاجه بشكل مقصود ومخطط له دون أن يكون تحت ضغوط اقتصادية أو سياسية أو مجتمعية، والمقصود بالتخطيط هنا التخطيط العلمي الذي يدعم الأنشطة المستهدفة دون أن يضع عليها قيوداً، أو يمارس حجراً، ويكفي هنا أن نذكر إخفاق السلطات السوفيتية في فرض مفاهيم الواقعية الاشتراكية على المبدعين والنتيجة الكارثية التي أدت إلى انقراض المبدع الروسي، وفي النهاية كان الانهيار من الداخل نتيجة للفساد والاستبداد، والخواء العقلي والروحي، وتوقف روح الإبداع والعطاء الإنساني المتحرر نتيجة قمع الفردية الإنسانية.

وأبرز المكونات التي تساعد على إنتاج الثقافة:

  1. استراتيجية علمية لإنتاج الثقافة.
  2. تخطيط علمي في إطار نفس الاستراتيجية لمراحل التطبيق.
  3. دعم، وتطوير  العناصر المكونة للثقافة، وتحقيق التوازن بين هذه العناصر.
  4. رصد النتائج ونقدها وتطويرها، وإعادة إنتاجها.

المكونات الأساسية، والأنشطة اللازمة لإنتاج الثقافة:

الأمكنة:

وتختلف خصائص المكان تبعاً للوظيفة المنوطة بالمكان والأنشطة المفترض فيه أداءها حيث يختلف المكان المخصص لمطبعة عن ذلك المخصص لدار نشر صحفية عن النادي الأدبي عن المسرح عن المدرسة أو المعهد العلمي.. الخ، ومن أبرز الأمكنة المعنية بإنتاج ثقافات المجتمعات المدارس والجامعات والمعاهد والمؤسسات الأكاديمية.. الأندية المختلفة، وقصور وبيوت الثقافة، والمعارض، والورش الثقافية والفنية، والجمعيات الأهلية مختلفة الأنشطة، ودور النشر، والأوبرا، والمعاهد الفنية، والاستوديوهات، والمتاحف، ودور العرض، والمسارح، ومعاهد الدراسات العلمية والثقافية المتخصصة غير الأكاديمية..الخ.

الأجهزة والتجهيزات:

تحتاج مختلف المؤسسات المنتجة للثقافة إلى تجهيزات أساسية مشتركة، وأخرى نوعية تختلف حسب النشاط المتخصص الذي تمارسه، وفي كل الأحوال يجب تأمين:

·      أجهزة معلومات.
·      وسائل تعليمية.
·      أثاث وأدوات مكتبية.

·      وسائل متخصصة (مطابع وأجهزة فنية لأعمال التجهيز لمؤسسات النشر، والمطابع- نظم معلومات -أجهزة تصوير إلكتروني وصوتي وأجهزة التقاط وبث للمؤسسات الإعلامية.. الخ).

مصادر التمويل:

·      مصادر تمويل تؤمن مصدر ثابت للدخل  ( هبات، أو وقف،  أو رأس مال عامل موقوف على المشروع الثقافي يتم به تشغيل مشروع اقتصادي ينفق على المشروع الثقافي ).

·      تبرعات أهلية.

·      تمويل حكومي.

القوى البشرية: قوى عاملة قيادية:

ويمثلها مجالس الإدارات، ورؤساء الأقسام واللجان على سبيل المثال لا الحصر، وهؤلاء يجب أن يكونوا من المثقفين الحقيقيين، وليسوا من الانتهازيين الآكلين على كل الموائد ليقوموا بدور همزة الوصل الصادقة في علاقات المستوي الرأسي مع الأجهزة الرئاسية، وفي المستوي الأفقي البيني مع المؤسسات الشبيهة، ومسئوليتها تنفيذ السياسات العليا، وتخطيط وإقرار وتنفيذ السياسات المحلية، والمشكلة الحقيقية في المواقع القيادية هذه أن أصحاب الخبرات التسلقية بغض النظر عن ثقافتهم وتوجهاتهم الفكرية هم الأقرب لحيازتها بما يملكونه من خبرات في مجالات صنع العلاقات مع أصحاب السلطان، فيتم بوجودهم إقصاء المثقف العضوي المنتج الحقيقي، ويصبح الانتهازي في موقع الصدارة.

قوى عاملة منتجة للثقافة:

وهم الأعضاء العاملين والمنتسبين ذوي الميول الثقافية، والقدرات الإبداعية من المثقفين والمفكرين والفنانين وأصحاب الاهتمامات العامة ذوي الرؤى الموسوعية الذين يملكون القدرة على الرؤية عبر التخصصات المختلفة وقراءة القوانين العامة التي تربط فيما بينها ؛ إلا أن أنصاف، وأرباع، وأعشار الموهوبين، والأفاقين يملكون من القدرة على الانتشار والادعاء ما يجعلهم في الواجهة وذلك لغياب معايير موضوعية تتيح للمبدعين والموهوبين الحقيقيين التواجد، وتُقصي المتسلقين، والمدعين.

قوى عاملة إدارية وحرفية:

وتتكون من الإداريين والفنيين الموكلة بهم الأعمال التنفيذية لمختلف اللجان والأقسام مثل: أمين المكتبة - مقرري وسكرتارية اللجان - موظفي الشئون الإدارية - المستخدمين والسائقين.. الخ، والمشكلة الحقيقية في هذه الفئة عدم توفر الخبرات الحرفية، وسيادة غير المحترفين، وبالتالي غياب الحرفية Professionalism.

الأنشطة الثقافية المستهدف إنتاجها:

أنشطة متخصصة أو فردية:

·      الدراسات والبحوث.
·      الندوات العلمية والمتخصصة.
·      المحاضرات المتخصصة.
·      نشر الكتب والدوريات.
·      حلقات النقاش، وعصف الذهن.
·      التأليف في مجالات الإبداع والنقد.

أنشطة عامة:

·      المكتبات.
·      الندوات العامة.
·      المحاضرات العامة.
·      البرامج التدريبية والدورات.
·      الإنتاج الفني.
·      الإنتاج الإعلامي.
·      النشر العام، والمتخصص.
·      المعارض والمتاحف والعروض التوضيحية.
·      البرامج التطبيقية لتنفيذ المخططات الثقافية.

 العائد: ( الأهمية النفعية للثقافة، والمؤسسة الثقافية ):

ناتج مباشر وملموس:

!   اكتشاف الإمكانيات العقلية والفكرية والإبداعية الفردية بين أبناء المجتمع.

!   تطوير وتنمية هذه الإمكانيات وإبرازها.

!   العمل على إنتاج إبداعي قصدي في كافة أشكال الفنون والعلوم والآداب.

!   إقامة وتنمية وتفعيل كافة الأنشطة الثقافية الجماعية.

!   إقامة العلاقات مع المؤسسات الثقافية الرديفة داخل وخارج المجتمع، والمشاركة في الدراسات المجتمعية لتنمية الذات الثقافية.

!   ناتج غير مباشر وبعيد الأثر:

!   تحريك الواقع الفكري للمجتمع، وكسر الجمود وطرح أفكار جديدة متطورة من خلال تجاوز المنهجية الفكرية التقليدية، وإحداث حالة فعالة من الحراك الفكري.

!   ربط الفكر المحلي بالفكر الإنساني في حلقاته المتداخلة ( العربي - الإسلامي -الإنساني ).

!  حماية المجتمع من التخلف بالتنمية العلمية والثقافية المخططة عبر التأثير المباشر وغير المباشر في مجمل القيم والقواعد السلبية السائدة في المجتمع والمؤثرة في نموه، ودعم وإرساء القيم الإيجابية كقيم بديلة.

!   تنمية ثقافات الأفراد وتمكينهم من تطوير إمكاناتهم الذاتية الشخصية والوظيفية بشكل مباشر وغير مباشر.

!   تفعيل المؤسسات الأكاديمية، وتطوير منهجيات البحث.

!   الترويج لثقافة المجتمع بإنتاج هذا الثقافة ونشرها.

يبقى بعد ذلك التزام مؤسسات الدولة بتبني المنتج الثقافي بعد نقده من مختلف الجهات ذات العلاقة.. نقداَ علمياً أميناً وصارماً.. ليس من أجل تفكيكه وهدمه بل لتجاوز كافة نقاط الضعف التي يمكن للتطبيق أن يكتشفها، وتصحيحها، وطرحها للنقاش في حالة جدلية لا تتوقف.

المؤسسات الأكاديمية وإنتاج الثقافة:

سقطت المؤسسات الأكاديمية العربية تاريخياً.. للأسف.. في فخ اقتصادي سياسي يوم منحت عصمتها للسلطات السياسية، وتنازلت طوعاً عن حريتها الفكرية، والمنهجية، ففقدت مع الحرية الروح الناقدة للذات وللمجتمع، ولم يصبح لديها التزام مجتمعي يتجاوز الالتزام بالنجاح الوظيفي الشخصي للأفراد الأكاديميين الجُذُر ؛ يضاف إلى ذلك انهزام عقلية الأكاديميين المفترض فيها العلمية أمام المفاهيم والقيم السلفية التي أعاقت حتى العاملين في العلوم الطبيعية، والتطبيقية عن القيام بالدور الفكري، والعلمي الذي يمارسه أي نظير لهم في أي مكان من العالم الحديث.

وتحتاج المؤسسة الأكاديمية العربية لأكثر من الكثير لتعيد لنفسها الهيبة، وتحظى بموقع محترم بين نظرائها في العالم، ولن يتحقق ذلك إلا بمشروع عام يستطيع مواجهة أنانية الفرد الأكاديمي وتعاليه غير المبرر على المجتمع، وتهافته في نفس الوقت على الواقع الاجتماعي والسياسي، وعدم التزامه المنهجي على المستويات الشخصية، والأكاديمية، والمجتمعية، وإعادة بناء المؤسسة بناءً كاملاً جديداً على قواعد صارمة ملزمة، وذلك بربط المؤسسات الأكاديمية العربية كما كانت في بدايتها بالمؤسسات العالمية المحترمة، ومنح هذه الجهات سلطات رقابية على الأكاديميات العربية التي ثبت لنا عبر السنوات الخمسين الماضية أنها لم تشب عن الطوق، ولم تنضج بعد، والدليل على ذلك يتراوح ما بين الفضائح الشخصية، واستغلال السلطات، والسرقات العلمية، وتدني مستوى البحث العلمي الذي لم يقدم للبشرية في القرن الماضي شيئاً يذكر، وحجة وجود باحثين عرب على قمة المنتجين في العالم مبالغة ممقوتة لأن هؤلاء عملوا وأنتجوا خارج سياق الثقافة العربية المعاصرة حتى وإن كانت بدايات تكوينهم فيها إلا أن نتاجهم العقلي نتاج سياق ثقافي مغاير.
إن الدور الأكاديمي المطلوب لتحديث الثقافة العربية دور هائل وعظيم ويحتاج لتضحيات جسيمة على المستوى الفردي، والجماعي.
إن ما تعانيه الثقافة العربية وتعيشه الآن لا يمكن وصفه – إذا التزمنا بالأمانة – سوى بالتخلف ويشكل مؤشراً هاماً على انحسار هذه الثقافة وتراجعها، وعليها إن أرادت أن تتجاوز هذه المحنة أن تواجه بشجاعة آلام ميلاد جديد لتعيد بعث نفسها بالتلاقح مع ثقافات أخرى أكثر حيوية وصحة حتى تستعيد ثقافتنا شبه المحنطة بعضاً من العافية، وتكون قادرة على إعادة إنتاج ذاتها بشكل أكثر اتساقاً وتناسقاً، وتشارك مرة أخرى في صنع التاريخ الإنساني.

ولنتذكر الحقيقة البيولوجية أن من لا يتطور ينقرض، وأن العضو الذي لا يستعمل يضمر  والعضو المرشح للضمور في الثقافة العربية للأسف هو.. العقل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق