الجمعة، 15 نوفمبر 2013

الواقعية الجديدة ومثلث العلاقة بين الحياة الخاصة والخبرة الذاتية والإبداع


الواقعية الجديدة ومثلث العلاقة

بين الحياة الخاصة والخبرة الذاتية والإبداع

 

تثير العلاقة بين حياة الكاتب الخاصة وإبداعاته الفنية الكثير من التساؤلات الخاصة بمدي تأثير الحياة الخاصة في التطور الفني للكاتب فبينما يرى البعض من النقاد أن فصل الحياة الخامة للكاتب عن إبداعاته مستحيل كما يرون في الحياة الخاصة للكاتب المؤثر الحقيقي والفعال في إبداعاته .. يرى - البعض الآخر - أن الحياة الخاصة لا تصلح أن تكون مفتاحاً لتفسير الإبداع الفني ، ويفصلون تماماً بين الذات كحياة خاصة للفنان ، وبين الشخصية الإبداعية التي ينتج عنها العمل الفني .

والحقيقة أن الذات والشخصية الإبداعية ليستا متطابقتين ، ولا حتى متوافقتين كما أنهما أيضا لا تنفصلان حيث هناك مجموعة من العلاقات المتبادلة بين الذات والشخصية الإبداعية هي ما يمكننا أن نطلق عليه ( الخبرة الذاتية ) ؛ وجدير بالملاحظة أن الإبداع عند الفنان لا يستفيد من كافة الخبرات الحياتية للفنان .. كما أن السمات الإبداعية لا تنعكس دائماً علي سلوكه الحياتي ؛ حيث العلاقة بين الإنسان والمبدع في شخصية الفنان معقدة بدرجة لا تسمح بوضع حدود فاصلة

ويمكن تلمس خطوط عريضة لعلاقة الإنسان بالمبدع في شخصية الفنان ، وعلينا أن نتذكر أن ( الحياة الخاصة ) شئ مختلف عن ( الخبرة الذاتية ) فعلى سبيل المثال نستطيع أن نرصد أنماطاً تتماثل فيها الحياة الخاصة للفنان مع أنماط الإبداع الفني التي خلفها مثل بترارك وهوفمان وبايرون وفولتير وعنترة والشريف الرضي ومحي الدين بن عربي وطه حسين والعقاد ، إذ يبدو التوافق بين حياة كل منهم الخاصة ، ونمط الإبداع لدرجة يتطابقا فيها عند بعض الشخصيات حتى أن تفاصيل من حياتهم الخاصة انعكست في كتاباتهم بشكل واضح .

من ناحية أخرى نجد أنماطاً تتعارض فيها الحياة الخاصة مع الإبداع الفني مثال على ذلك
( فت ) الشاعر الغنائي الرقيق الذي كان في حياته الخاصة إقطاعياً متعجرفاً من سادة الأرض غلاظ القلوب – كذلك جوجول وتشيكوف عاشا حياة عادية لا تحتوي حدثاً واحداً مما تصديا للكتابة عنه مثلهما نجيب محفوظ ، وصلاح عبد الصبور اللذان عاشا حياة وظيفية هادئة بعيدة عن المصادمات .

هذه النماذج توضح أن الحياة الخاصة للفنان شئ مختلف تماماً عن الخبرة الذاتية حيث تستفيد الحياة الشخصية ، والذات الإبداعية من الخبرة الذاتية بأقدار متفاوتة مع ملاحظة أن الخبرة الذاتية هي نتاج للحياة الخاصة والذات الإبداعية معاً حيث تقوم بين الثلاثة علاقة جدلية متشابكة لا تنتهي .

وينتج عن التفاعل بين الخبرة الذاتية ، والشخصية الإبداعية بعض النتائج من أبرزها توضيح طبيعة العصر الذي يعيشه الفنان من خلال :

-         الظاهرة التاريخية ، وطابع الحياة الاجتماعية .

-         الأيديولوجيات النشطة في ذات المرحلة .

-         الحاجات الجمالية والروحية لذات المرحلة .

-         القيم الفنية السائدة .

-         التطلعات الروحية والجمالية والأيديولوجية .

ولعل رواية الكاتب المصري فتحي غانم ( الأفيال ) وثلاثية نجيب محفوظ نماذج مثالية علي ذلك حيث استطاع الكاتب في كلتا الحالتين أن يقترب من روح العصر ، وأن يعبر عنه بحكم عقله المتميز وتركيبته النفسية الماصة عبر معادل إبداعي يعبر عن تطلعات المجتمع وظواهره المختلفة في ظرف تحول تاريخي متميز .

وهنا تلعب ثقافة الفنان دوراً بارزاً في تحديد العلاقة بين الخبرة الذاتية والإبداع حيث يقوم استيعاب الفنان لقواعد الإبداع الأساسية ( القيم الفنية الحرفية ) بدور هام في تحديد شكل وطبيعة الإبداع – بمعنى آخر- أن المذهب الفني الذي يختار المبدع أن يعبر من خلاله يؤثر في شكل الإبداع فيساهم في تحديد العلاقة بين ذات المبدع والإبداع ويمكن اكتشاف ذلك من خلال النماذج التالية إضافة لتطور العلاقة الدائم بين الخبرة الذاتية ، والإبداع .

الكلاسيكية :

في علم الجمال الكلاسيكي صنف ( الذاتي ) على أساس القيم المطلقة _ الحق – الخير - الجمال – الشرف – القوة ..الخ ) لذلك نجد شخصية الكاتب الكلاسيكي الخاصة ( الذات ) تتراجع إلى الخلف حتى نجد أن الخبرة الذاتية للكاتب لا علاقة لها إطلاقاً بالعمل الأدبي ، ويقاس على ذلك المسرح اليوناني القديم ، ومسرح شكسبير ، وراسين ، وغير ذلك من الأعمال الكلاسيكية .

الرومانسية :

يتضح في كتابات الرومانسيين رفض السمات الأساسية للواقع ، وللعلاقات الحياتية اليومية – هذا الرفض يوضح تضخم الذات الإبداعية التي ترى في نفسها تعبيراً عن العالم وتجاوزاً للواقع فيؤدي ذلك إلى ضخم الحس الإبداعي في مواجهة الخبرة الذاتية التي تظهر في كتابات الرومانسيين على استحياء كما في كتابات الكسندر توماس الابن  ومحمد عبد الحليم عبد الله ، وغيرهم .

ويعتبر ظهور الخبرة الذاتية في أعمال الرومانسيين ؛ ولو على استحياء ؛ خطوة للأمام نحو استفادة الكاتب من خبراته الذاتية في دنيا إبداعاته .

الرمزية :

يميل الكاتب الرمزي بطبيعته للدوران حول العواطف والرغبات والانفعالات الشخصية التي يحبها ويستحضرها دوماً – لكن ليس في صورتها الواقعية – بل في سلسلة ثرية من الأنماط الشخصية ، والسلوكية ، والمشاعر المتنوعة بحيث يصبح بإمكانه التباين مع الطبيعي والمعتاد ، وطرح عالم جديد قد يصل في غرابته حدود اللا معقول (مثال علي ذك مسرحية موريس ميترلنك الطائر الأزرق .. أحدوثة في عالم السحر ) وهنا يتقدم الفنان إلى مدى أرحب نحو الاستفادة من خبرته الذاتية لكن بشكل شديد الالتواء والتعقيد .

الواقعية :

تتضح هنا القيمة الحقيقية والمتوازنة للعلاقة بين الذات الإبداعية والخبرة الذاتية للفنان حيث يستحضر - عبر خبرته الذاتية الخاصة - مظاهر حياتية قد تبدو ضئيلة وتافهة غير مثيرة يلتقطها الحس الإبداعي من مخزون الخبرة الذاتية ويعيد صياغتها فيتحول ما يبدو في الحياة عادياً ومألوفاً ، وأحياناً أخرى منافياً للمنطق إلى قيم جمالية جديدة تخضع لمنطق الفن .

أي أن الخبرة الذاتية والحياتية للفنان يعاد تشكيلها جمالياً ومن ثم تقدم كمعادل فني لحدث بمنحه الواقع هيكله العظمي بينما يقوم الحس الإبداعي بكسوته باللحم وإضافة كل أسباب الحياة له ... لذلك ترتبط الذات الإبداعية عند الكاتب الواقعي بالخبرة الذاتية بشكل متزن بحيث يمكن من خلال العمل الفني إلقاء الضوء على جوانب إنسانية في حياة الفنان .

وتفرز الخبرة الذاتية للفنان نفسها معبرة عن المعاني الاجتماعية والفلسفية والجمالية والإنسانية في صور الإبداع الفني الواقعي مع ملاحظة أن الاستفادة من الواقع لا تعني النقل الحرفي له ولتفاصيله ؛ فهذا محظور تماماً لأنه يحول الكاتب من مبدع إلى آلة تصوير فوتوغرافي صماء ؛ وتلك بالتأكيد ليست وظيفة الفنان المبدع الذي هو في حقيقته أشبه ما يكون بالفنان التشكيلي الذي يقدم لنا لوحة من الطبيعة الصامتة لمشهد من الواقع ليس كما هو في الواقع ؛ ولكن كما يراه هو وعبر باليتة ألوانه الخاصة ، وليس بألوان الطبيعة ، ونستطيع أن نقارن ذلك بآلة التصوير التي لا تستطيع أن تعطينا أكثر من منظور مسطح لنفس المشهد .

هذا هو الفارق الأساسي بين الفنان الواقعي ( أحادي النظرة ) الذي تحكمه أيديولوجية ما ، وبين الفنان الواقعي ( الشمولي ) الذي يتحرك عبر قواعد الإبداع الفني ، فيري في الحياة وحدة متكاملة ثرية مليئة بالمتناقضات كما ير أن التعبير عن هذه الحياة يستلزم وسائل فنية شديدة التنوع والنضج .

يقول جوته :

" عندما يصف شاعر ما مشاعره الذاتية ؛ فذلك ليس بشعر ؛ لكنه حين يعانق العالم ويتعلم منه كيف يعبر عنه هنا فقط صبح شاعراً ."

 

ينطبق هذا القول تمام المطابقة على النماذج التي طرحها الفيلسوف وعالم الجمال والناقد الفرنسي روجيه – رجاء جارودي في كتابه التحليلي الرائع ( واقعية بلا ضفاف ) حيث يقدم لنا مفهوماً راقياً لمعنى الواقعية التي أصبحت أقرب للتعبيرية منها إلى أي شئ آخر ، وذلك عبر تطورها الهائل من مرحلة الواقعية الاشتراكية بمفهومها البدائي المتخلف الذي طرحت به في أدبيات الماركسيين الستالينين حتى حلقت في فضاءات وآفاق النضج التعبيري فيما بعد ، ففي إطار رؤية نقدية تقليدية أو عبر نقد واقعي اشتراكي محدود الرؤية مؤدلج لا يمكن لأحد أن يري في أعمال كافكا أو سان جون بيرس وبيكاسو أية علاقة بين الإبداع والواقع ، بينما تستطيع الرؤية الناقدة العلمية والرصينة المنصفة  أن تكتشف بمنتهى الوضوح العلاقة الديناميكية بين جذور الواقع في هذه الأعمال وبين الإمكانيات والخبرات الإبداعية لمبدعيها ، ومما يؤكد ذلك قول مكسيم جوركي :

 " إن العملية الفنية تصبح شيئاً مستحيلاً في غياب الخيال الإبداعي " .

إن الفهم الناضج للواقعية يؤكد أنها غير معنية مطلقاً بنقل الواقع ، أو التجميع الساذج للمعلومات ؛ فهذا يخص التوثيق ؛ كما يؤكد هذا الفهم أن القاعدة في العمل الأدبي الواقعي هي الخيال الإبداعي المتدفق في إطار تصميم معماري يقيم التناسق والتناسب بين مكونات العمل الفني دون النظر إلى مدي علاقاتها بالحدث الواقعي .. إطار يحد من التزيد في تأصيل الواقع ، ويعني دوماً بالعمل الفني باعتباره وليداً جديداً يحمل صفات الكائن الحي متكاملة .. مستقل رغم انتسابه الشرعي لجذور أخرى مستقلة أدت لميلاده ، وبغير ذلك يستحيل أن تتحول المشاعر والخبرات إلى عمل فني إبداعي ، وبهذا الشكل يمكن أن تساهم الفنتازيا – باعتبارها إطاراً فنياً – في الحد من التزيد في تأصيل الواقع .

إن العلاقة بين الإنسان والفنان بداخله علاقة شديدة التعقيد والتفاعل ، ولا يمكن الحكم على أي منهما دون وضع الآخر في الاعتبار .

 

أحمد إبراهيم أحمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق