السبت، 4 أغسطس 2018


اغتراب زهرة البانسيه
قراءة في رواية عبير العطار
بقلم: أحمد إبراهيم أحمد
الجنس الأدبي لرواية بانسيه
حققت نظريات السرد تطوراً كبيراً حين أنجز الشكلانيون الروس[1] عملهم بدايات القرن العشرين بعد تأصل قواعد كتابة الرواية في القرن الثامن عشر، ويذهب والاس مارتن[2] في كتابه (نظريات السرد الحديثة) إلى أن التبدل الذي طرأ على دراسات نقد الرواية تمثل في تطور نظريات الرواية إلى نظريات السرد[3].
ويعد الأستاذ الجامعي الكندي نورثروب فراي[4] من أهم المؤثرين في تطور نقد الأدب، فساهم في انتقال نظريات الرواية إلى نظريات السرد، وتوسيع حدود التخييل حين جعل الرواية واحدة من مجالاته، وهدم الحواجز بين الشعري، والنثري، والشفهي، والكتابي، والسرد القصير، والطويل، وربط بين متغيرات التخييل، ومسار التاريخ في تصنيفه الأدبي على أساس العوالم والشخصيات والموضوعات، وذهب إلى اعتبار الواقعية الاجتماعية صفة مميزة للرواية، واستبعد من قائمة التخييل كتابة التاريخ والسير، وحدّد هوية الرواية على أنها نوع من التخييل النثري الذي قد لا يكون بعضه سرداً.
يُسهلْ ذلك تصنيف رواية (بانسيه) باعتبارها رواية قصيرة Novella من روايات الواقعية الاجتماعية، تضم عدد (ثلاثين!) فصلاً في 155 صفحة (أي أن متوسط حجم الفصل الواحد حوالي خمس صفحات) هي بالترتيب (في غرفة الإنعاش-الاستفاقة-الخروج-الحياة من جديد مع عائشة-الغزو-الحرية-الذهاب لطبيب نفسي-من جلسات العلاج-السفر-الحب-في جوف العشق-الضياع- احتضان أمومة-الأم البديلة-حمل فاشل-الحياة الزائفة-العودة لفيلا الزوجية-حوار عبر رسالة إلكترونية-الصديقة-المولد-المقهى والذكريات-الاختيار-الذهول-الإعياء بعد موت نبيل-الدفنة-العزاء-الانتحار-حياة جديدة وحالة عشق-بارقة أمل-النهاية) تحكي -ما يشبه- السيرة الذاتية للبطلة بانسيه، يتصدرها غلاف رومانسي لراقصة باليه، استبُدل ثوبها بزهرة بانسيه بنفسجية على خلفية من اللون الأخضر المصفر على درجتين، ويعتبر اسم البطلة/الرواية دلالة سيميائية ومدخلاً مفيداً في فهم شخصية البطلة، يستدعي معرفة خصائص زهرة البانسيه Pansy.
شوف الزهور واتعلم... دلالات العنوان
البانسيه Pansy زهرة من فصيلة البنفسجيات اسمها العلمي Viola tricolor أي زهرة الثالوث، لوجود ثلاثة ألوان في الزهرة الواحدة، ويقال خطأً أن الاسم لوجود ثلاث بتلات فقط وهذا غير صحيح حيث يوجد خمس بتلات بالزهرة على شكل قلب، وتمثل زهرة البانسيه النقاء والرزانة، وتخاطب في دلالاتها الثقافية المرأة الخجولة، وترمز لنقاء الحب الصامت المتأجج، وتشير للمرأة المتواضعة، وتسمى زهرة التواضع لأنها تختفي بين الأوراق، ولكل لون من ألوانها تفسيراً خاصاً، فيدل البانسيه الأزرق على الاستمرار ويقول على لسان مهديه: "سأكون صادقاً دوماً." ويشير الأبيض إلى الرغبة والبساطة كما لو كان من يقدمه يطلب: "أعطني فرصة للسعادة." بينما يعبر الزهري عن الاهتمام فيقول: "أنت شغلت أفكاري." ويقول لسان حال الأصفر المعبر عن التواضع والاحترام "أنت أول فاتنة لقلبي، سأبادل حبك دوماً بالوفاء.".
منهج القراءة
تستخدم هذه القراءة منهج التفكيك Deconstruction النقدي الذي أسسه الفرنسي جاك دريدا لدراسة النصوص التي تستند على أفكار المحكيات الكبرى، والقيم المطلقة والمثالية، ولا يعطي اعتباراً للمفارق، ولا نصوص المحكيات الكبرى استناداً على القطيعة التي أعلنها نيتشه مع الميتافيزيقيا، حيث يقوض التفكيك مفهوم الحقيقة بمعناه الميتافيزيقي، والواقع بمعناه الوضعي التجريبي، ويحول سؤال الفكر إلى مجالات تفسير اللغة Interpretation من خلال علم التأويلHermeneutics [5] للدلالة على نمط من قراءة النصوص، ينسف ادعاء هذه النصوص بامتلاك أساس كافِ في النظام اللغوي الذي تستخدمه كي تُثبت بنيتها، ووحدتها، ومعانيها المحددة، ويعتبر منهج التفكيك الأكثر إثارة للجدل في النقد الأدبي، وأهم ما جاء بعد البنيوية.
السرد الروائي
نمطٌ من أنماط النصوص اللغوية، يحتوي سلسلٍة من الأحداث المرتبة زمنياً، أو منطقياً، ويحتوي السرد البسيط على أحداث على هيئة حبكة، وعقدة، وحل، ويهتم بتوضيح شخصيات السرد، وأفعالها، وعلاقاتها التفاعلية في الزمان، والمكان، ويُقسم السرد إلى سرد متسلسل يَعتمد نظاماً زمنياً ثابتاً في ترتيبٍ الأحداث، ثم السرد المتقطع الذي لا يَعتمد على تسلسلٍ منطقي للأحداث؛ فقد يبدأ السارد برواية الحكاية من نهايتها، ثم يعود لبدايتها، فالسرد المتناوب الذي يدمج عدداً من القصص، فيبدأ بحدثٍ ما، ثم ينتقل لحدثٍ آخر، ليعود إلى حدثٍ جديد؛ حتى ترتبط القصص معاً في النهاية من خلال الشخصيات، أو الأحداث.
ويتم السرد في رواية بانسيه بالأسلوب السردي المتناوب لصنع حبكة سردية بسيطة لحكاية إنسانية، تتناوبها الأوجاع أكثر من الأفراح، حيث تنتقل أحداث السرد زمنياً في خط كرونولوجي ما عدا مقاطع، تعود فيها ذاكرة البطلة إلى أحداث ماضية كتقنية السينما بالعودة بالأحداث لزمن مضى Flashback أو لمكان، يتحدد معظمه في الفيلا التي تقيم فيها، أو مرافق الخدمات الصحية والعيادات، والمقهى، ومولد الحسين، ودار العجزة حيث أودعت الأخت والأخ القساة أمهم فيها.
لغة الخطاب... أنوثة السرد
يقوم سارد عليم بالسرد الذي يتضمن مساحات بوح، تصل في عمقها أن تكون مونولوجاً، تتداخل عناصره السردية بعناصر تيار الوعي، تقول في فصل (الانتحار):
" وعادت تذكر نفسها:
الآن لم يعد للحياة معنى بلا أبوين ولا رابطة دم حقيقية ولا حتى الأيتام الذين كنت أرعاهم، صارت كل الأشياء متساوية وحيدة كما جئت إلى الحياة بصراخ مكتوم أسأل نفسي ماذا عساي أن أفعل وهذه الضغوط من حولي؟ لا ولد لي ولا سند،أشحذ الأفكار التفاؤلية فأجدها شحيحة في جعبتي،وتتمسح دمعاتي بخدٍ هرم من البكاء،وأنا لا زلت في أوائل الأربعينات لا كنت أما لأحد ولا عملتُ بشهادتي التي تعبت من أجل الحصول عليها وتغربت غربة سحقت بداخلي كل شيء إلا الحنين إلى أبي وأمي، ولا تمتعت بثروة زوجي التي يتصارع عليها الآن كل من حولي  بعد غياب نبيل عن المشهد."
وتستخدم الكاتبة قاموس ثري المفردات، وتميل في بناء الجملة للتصوير، متأثرة بقواعد المجاز اللغوي الذي يقترب في بعض المواضع من الشعر، رغم بعض الأخطاء في البنية اللغوية، والنحوية، والإملائية؛ كما تتميز لغة المجموعة بلغة فصحى راقية، إضافة لقدرة على التواصل مع القارئ، وتستند على المحكيات الكبرى في صياغة السرد، فتقتبس في فصل (العزاء) من سورة الحديد: (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ.
ويعد السرد في هذه الرواية نموذجاً لأدب المرأة غير المنحازة الذي يعبر عن هوية أنثوية إنسانية، تُدرك أهمية الانتماء لنوعها الاجتماعي كأنثى؛ في العلاقة الاجتماعية الطبيعية بلا أي انتماء مسيس Feministic يمكن تفسيره كانحياز سياسي، أو ثقافي غير سوي أو مرضي؛ مما انعكس على بنية اللغة في الرواية حيث اللغة أنثوية مسحورة بالتفاصيل، تنسج منها المؤلفة دانتيلا مشهد بصري، يتميز باسترسال في الوصف يميز لغة المرأة (كنوع اجتماعي) وليس (النسوي Feminism/Feminist) بالمدلول السياسي: كما وصف ذلك الكاتب الإيطالي لويجي براندللو[6]Luigi Pirandello .
زمن السرد
تأخذ بنية زمن السرد الشكل الكرونولوجي التصاعدي الذي يلتزم بتوالي الأحداث من البداية حتى النهاية؛ لكن تستخدم الكاتبة تقنية (تقطيع الزمن) حيث تمارس استرجاع أحدات وقعت في زمن الماضي " ماذا عن ظهرنا الذي كسر بعد رحيله، واستنادنا على جدارٍ منحنٍ؟ ماذا عن اليتم الذي يأبى أن يأتي بعده سلة من فرح؟ "
 كذلك استشراف أحداث متوقعة، أو تتمنى حدوثها مستقبلاً؛ كما في فصل (الإعياء بعد موت نبيل):
" لو كنت حرة، لسافرتُ إلى كوكبٍ غير ذي زرع بشياطين بشرية، لأعيش لحظة فرح، لا يقتص منها الواقع، ولا يمهل الحاقدين مثلك فرصة الإنابة.".
أماكن السرد
تؤثر بنية الزمن الكرونولوجي التصاعدي على طبيعة المكان السردي؛ حيث يتغير المكان الذي تدور فيه الأحداث حسب زمن السرد، لكن تدور غالبية الأحداث في الفيلا/بيت الزوجية مع انتقالات لأماكن أخرى أبرزها المستشفى، وعيادات الأطباء، ودار الأيتام، ودار العجزة، والمقهى، وبيت الزميل القديم الممثل.
شخصيات السرد
تتمحور الأحداث حول شخصية رئيسية واضحة المعالم هي شخصية البطلة بانسيه التي يقدمها السرد ككيان فني مكتمل الوصف سواء من حيث البنية البدنية، أو التركيبة النفسية والعقلية والسلوكية، والشخصية الأخرى ذات الوضوح الوجودي في النص هي شخصية الأخت عائشة، وإن حظيت بقدر أقل من الاهتمام في توصيفها الذي بدا منحازاً ضدها، بينما يبدو وجود الشخصيات الأخرى أقل وضوحاً واكتمالاً مثل الزوج نبيل، والشقيق وجدي، وووالطفل المتبنى حسن، والصديقة ياسمين التي اختصرت الكاتبة صفاتها في الاسم بحيث يمكن الربط بين اسمي بانسيه، وياسمين كاسمين لنوعين من الزهور كدلالة على توافق الصديقتين، وزميل الدراسة الدون جوان وائل، وأخيراً وليس آخراً سامي الزوج الذي أنجبت منه قبل موتها، والأطباء الذين مرت عليهم مرور الكرام؛ هم والسائق وخادم المنزل.
البعد الثقافي
يتضح من أحداث الرواية تمزق روح البطلة بين السلفية الفكرية التي نشأت وتربت عليها؛ فتقفز من بين السطور تأثيرات التربية الدينية على سلوك البطلة، التي تتصارع مع مكتسبات الاحتكاك بالثقافة الغربية؛ وما توحي به من قيم التحرر وقبول المختلف، ويعتبر فصل (المولد) من الأدلة الهامة على تطور حالة الانغلاق الفكري النصوصي إلى انفتاح ثقافي متفهم حين تخرج البطلة من عزلتها الاجتماعية المبنية على وجهة نظر تعتبر زوار الأولياء (قبوريون) فتحتك خلال ترددها على مولد الحسين بتجربة ثقافية مختلفة، يستجيب لها وجدانها الإنساني، فتصبح أكثر تفهماً للدوافع الإنسانية لسلوك البسطاء مرتادي المزارات، فيختلف موقفها من الحكم عليهم للحكم معهم.
البعد السيكولوجي في النصوص
تتراوح مشاعر البطلة بين غريزتي الموت والحياة بالمفهوم الفرويدي، حيث تبدأ الرواية بيقظة البطلة من غيبوبة أعقبت محاولة للانتحار؛ أي أنها اتخذت القرار الجاد الوحيد لمواجهة عبث الواقع كما يرى فلاسفة العبث الذين يعتبرون قرار الانتحار هو القرار الوحيد غير العبثي الذي يمكن للإنسان اتخاذه؛ كما تتبنى الكاتبة في نصها السردي وجهة نظر ترى أن المرأة بحاجة لرجل -كما أن الرجل بحاجة للمرأة- بحكم قوانين الطبيعة، فالرجل قوّة تحتاجها الأنثى حتى لو تجاوز الذكر معها حدود الرحمة، وأن فشل الأنثى في تحقيق العلاقة المتوازنة، كذلك افتقادها للدور الأمومي، يجعلها ضحية للأمراض النفسية والإحساس بالنقص.
الحنين للماضي... النوستالجيا
تمتلئ المجموعة بمشاعر الحنين للماضي Nostalgia سواء كان هذا الحنين لأزمنة، أو بشر، وحتى الأماكن والأحداث؛ حيث تقول في فصل (الخروج):
" ياه... هذه صورتي وأنا في الخامسة، كنت من المتميزين في مدرستي، وكيف أنسى؟ هذه مُدرسة الحساب، كانت تُحبّني جداً لأنني دوما ما أُطيع أوامرها دون تردد، كنت مصدر سعادة للجميع فأنا دوماً ما أتفوق، وأجلب لمَدرستي الفخر والاعتزاز من الإدارة التعليمية... هذه صورتي مع أبي... كم كنت مدللة يا أبي رغم انشغالك عني، وهل أنسى كفاحك المستميت في غابة من عمل لا أراك إلا لدقائق معدودة قد تكون صباحا أو مساءً، وربما ينالنا الحظ لنحظى بوجبة عائلية جميلة كل ذلك لتوفر لنا طيب العيش وأنت المحاضر القدير في جامعة الكويت... ياااه لقطة منفردة لأمي التى كانت تدير حياتنا بالصمت والنظرات وكأن الكلمات اختنقت في حلقها منذ زمنٍ بعيد،تعرف واجباتها نحو الجميع كنحلةٍ دءوب لا تكف عن العمل تنام قليلاً وتصحو كثيراً، وأرى دوماً في عينيها ما يؤرقني فالحزن يزحف تدريجياً حتى امتلأ الرأس شيباً؛ ولكن ماذا عني أنا وهي؟"
1.    نوستالجيا الزمن
يشغل الحنين للزمن مساحة مؤثرة في الرواية حيث لا تكتفي البطلة بالتعبير عن الحنين لأزمنة مضت؛ بل يمتد بها الحنين لشعور قاس بالاغتراب والغربة سوياً حزناً على زمن عاشته في الكويت الذي اغتالته الحرب، واغتالت معه شعور الأمن، ويبدو ذلك أكثر ما يبدو في استرجاع أحداث الماضي في فصلي (الخروج/من جلسات العلاج).
2.    نوستالجيا البشر
يصنع البشر جزءاً رئيسياً من وعي البطلة، فتطاردها شخصية الأب التقدمي بما مثله من احتواء لها، فتتذكره بحنين مشتعل الذكرى في فصل (من جلسات العلاج):
"كنت أرى في والدي نموذجا لا يتكرر في ملاطفته الدائمة لأمي مهما أخطأت وأتعبته، لكنه دوما ما يتحمل صابرا ويرى أن ابتسامة منها تحيل الكون الصارخ هدوءا.أبى هو الحنان كله،وهب نفسه للجميع في محاولة منه لأن يتجاوز عن طموحاته المختلفة.لا أراه إلا وهو يعمل ويكتب،وينام في نهاية اليوم متعبا من كثرة ما قام به من مهام لكنه لم يئن أو يشتكِ، فكنت ملاذه حين يدللني ونخرج سويا في نهاية الأسبوع لنتنزه في الحدائق، أو نجلس على شاطئ البحر أدور حوله كلاعبة باليه،وهو يبتسم ضاحكا ويصور بكاميرته السينمائية تحركاتي المتتالية."
كذلك شخصية الأم التي تلقي بها ابنتها الأخرى عائشة في دار للمسنين مستغلة غياب البطلة، هذا غير الأصدقاء والزملاء الذين يتناوبون على ذاكرة البطلة على امتداد العمل السردي.
3.    نوستالجيا الأماكن
تشكل الأماكن جزءاً حميماً من ذاكرة البطلة التي تتذكر (البيت في الكويت كرمز) وما يمثله من إشباع لغريزة الأمن والاستقرار، وتطاردها ذكريات بيت الأسرة في الكويت، ولا تني تتذكر تفاصيل الفيلا حجرية المظهر وتاريخ علاقتها بالمكان (بيت الزوجية مع نبيل) حتى وهي تعيش فيها، ولا تنسى تفاصيل الأماكن التي مرت بحياتها مثل لندن والمشهد الحسيني بالقاهرة.
4.    نوستالجيا الأحداث
لا تنسى البطلة تفاصيل الحياة العادية المؤثرة في مسيرتها الإنسانية، فتتذكر منذ البداية أحداث غزو الكويت بما حملته من تفاصيل مأساوية، وتدمير لحياة هانئة مستقرة، وتفجير مشاعر غربة موجعة تقول في فصل (الغزو):
"اضطروا للعبور من منطقة كيفان  بعد هدوء المدافع قليلا وعلى سرعة منخفضة إلى منطقة ضاحية عبد الله السالم ليستعينوا ببعض أصدقاء الدكتور خير الله الشاهد القاطنين في إحدى الفلل الفخمة ليأكلوا معهم ويتقوتوا،وبعد مشاوراتٍ شملت أسرته وأصدقاءه اتخذ  قرارا بالرحيل قبل فوات الأوان."
وتستبطن الكاتبة من خلال سرد السارد العليم مرجعية آلام باقية في روح البطلة ما بقي بها نفس يتردد في أحداث علاقاتها مع أختها عائشة وأخيها وجدي، والإيذاء المادي والمعنوي الذي ألحقه بها الزوج نبيل، وتفاصيل علاقتها بالطفل حسن المتبنى في دار الأيتام، وذكريات الدراسة الجامعية التي تعود للواجهة بمجرد ظهور زميل دراسة قديم، وذكريات أوروبا اللندنية.
التشابه بين البطلة والكاتبة
لا تعني الاستفادة من الواقع النقل الحرفي له ولتفاصيله؛ فذلك يحول الكاتب من مبدع إلى آلة تصوير فوتوغرافي صماء؛ وليست تلك وظيفة المبدع الذي هو أشبه ما يكون بالفنان التشكيلي الذي يقدم لنا لوحة من الطبيعة لمشهد من الواقع ليس كما هو في الواقع، ويوحي تأمل السيرة الذاتية للكاتبة (عبير) وتفاصيل حياة البطلة (بانسيه) بتماهي شخصيتيهما، فكلتاهما نشأتا في الكويت، وكلتاهما عانتا تجربة الغربة والاغتراب، ولا نستطيع التعرف على مجمل تفاصيل حياة الكاتبة التي شاركت بطلتها فيها؛ لكن الجزء الظاهر من جبل ثلج السيرة الذاتية للكاتبة، وتفاصيل حياة البطلة في عملها السردي (بانسيه) يؤكد استفادة الكاتبة من سيرتها الذاتية في صياغة شخصية البطلة في روايتها القصيرة.
هذا وتثير العلاقة بين حياة الكاتب الخاصة وإبداعاته الفنية الكثير من التساؤلات الخاصة بمدي تأثير الحياة الخاصة في التطور الفني للكاتب؛ فبينما يرى بعض النقاد أن فصل الحياة الخاصة للكاتب عن إبداعاته مستحيل؛ كما يرون في الحياة الخاصة للكاتب المؤثر الحقيقي والفعال في إبداعاته، يرى - البعض الآخر- أن الحياة الخاصة لا تصلح أن تكون مفتاحاً لتفسير الإبداع الفني، ويفصلون تماماً بين الذات كحياة خاصة للفنان، وبين الشخصية الإبداعية التي ينتج عنها العمل الفني، ويقول جوته:
"عندما يصف شاعر مشاعره الذاتية؛ فذلك ليس بشعر؛ لكنه حين يعانق العالم، ويتعلم منه كيف يعبر عنه... هنا فقط يُصبح شاعراً."
والحقيقة أن الذات والشخصية الإبداعية ليستا متطابقتين، ولا حتى متوافقتين كما أنهما أيضا لا تنفصلان حيث هناك مجموعة من العلاقات المتبادلة بين الذات والشخصية الإبداعية هي ما يمكننا أن نطلق عليه (الخبرة الذاتية) وجدير بالملاحظة أن الإبداع عند الفنان لا يستفيد من كافة الخبرات الحياتية للفنان؛ كما أن السمات الإبداعية لا تنعكس دائماً علي سلوكه الحياتي؛ حيث العلاقة بين الإنسان والمبدع في شخصية الفنان معقدة بدرجة لا تسمح بوضع حدود فاصلة؛ إذ تفرز الخبرة الذاتية نفسها في إبداع الفنان، معبرة عن المعاني الفلسفية والجمالية والإنسانية.


[1] الشكلانيين الروس جمعية روسية تأسست عام 1916 م لدراسة اللغة الأدبية.
[2] Wallace Martin, died in 2010, was Professor Emeritus of English at the University of Toledo. He was author of The New Age under Orage and Recent Theories of Narrative. He also edited and contributed to books on literary and critical theory.
[3] والاس مارتن: نظريات السرد الحديث، ترجمة: د. حياة جاسم محمد، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة.
[4] نورثروب فراي: كاتب وأستاذ جامعي كندي (1912 ـ 1991) نحت مصطلح (المدوَّنة الكبرى) في كتابه (المدوَّنة الكبرى- الكتاب المقدَّس والأدب).
[5] علم التأويل/التفسيرية / الهرمنيوطيقاHermeneutics  هي المدرسة الفلسفية التي تشير لتطور نظريات تفسير وفن دراسة وفهم النصوص في فقه اللغة واللاهوت والنقد الأدبي.
[6] لويجي برانديلو :كاتب ومسرحي وشاعر إيطالي، حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1934 من أشهر أعماله المسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) التي قدم فيها تجربة تعدد الأصوات Polyphony.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق