السبت، 4 أغسطس 2018


ريم أبو الفضل
الحيرة بين المرأة والرجل

تأمل هذه الدراسة استكناه تفاصيل النص السردي في مجموعة الكاتبة ريم أبو الفضل السردية (تاء وأخواتها) التي تحاول أن تستخدم فيها تقنيات كتابة متنوعة، تشي بإدراك الكاتبة لتفاصيل الواقع الاجتماعي في المرحلة التي يعيشها جيلها، وتحاول التعبير عن هذا الواقع، ووصفه بدرجة عالية من الدقة التي تشي بخبرات حياتية متعددة تملكها الكاتبة، ومعرفة كبيرة بتفاصيل الواقع المادي بتعقيداته الاقتصادية والاجتماعية والعاطفية وحتى السيكولوجية.
ولا تنسى الكاتبة في خضم عرضها لهذا الواقع أن تسخر منه، وتطرح في محاولتها السردية الكثير من الأسئلة التي يشوب وصفها لهذا الواقع الانحياز النسوي في بعض أجزاء هذا الوصف رغم محاولتها الجادة أن تكون موضوعية.
جاءت المجموعة التي اصدرتها دار روافد للنشر والتوزيع في مائة وأربعين صفحة من مقاس A5 المعدل لمقاس 14x20 سم مراعاة لاقتصاديات الطباعة، مُقسمة إلى ثمانية عشر قصة متفاوتة الطول هي (تحت الصفر – كامل الأوصاف – سلحفتان – مطلوب شراء بضع سنوات – ذاكرة سيئة السمعة – الرجل ذو الأزرار – ودارت الأيام – كرسي هزاز – صراع – شهد الفقراء – شفاه ملونة – تاء واخواتها – ناقل سرعات – نصف لعنة – جثمان نملة – الموت من أجل الحياة – ورقة زرقاء – علبة ثقاب) مغلفة برسم في بعدين لثلاث نسوة، تغلب عليه الألوان الساخنة التي يسود فيها اللون الأحمر الذي يعبر عن اشتعال العواطف الأنثوية، وتتصدر رأس امرأة أكبر حجماً مثلث وجوه النساء الدائرية، وعيون هذه المرأة هي الأخرى دائرية، ويتدلى من أذنها اليمنى حلق عبارة عن هلال يصنع دائرتين، واستخدام الدائرة في التشكيل يصنع دلالة سيميائية واضحة حيث الدائرة رمز للأنثى.
وينتشر خلف النسوة الثلاث شعر المرأة المتصدرة في شكل زخرفي يوحي بتيار يتحرك، ويعلو اسم المجموعة رأس المرأة بخط إعلاني قوي، وعلى امتداد ثدييها يأتي واضحاً اسم الكاتبة.
افسد التصميم القوي رسم نصف وجه الأنثى المتصدرة للمشهد بنصف شارب، وهو تصميم مستوحى من القصة الأخيرة في المجموعة (عود ثقاب) ص 133 حيث جاءت هذه الإضافة كتعبير أدبي المقصود به وجود الذكر في الأنثى، والأنثى في الذكر؛ لكن أفسدت (هذه الإضافة) طبيعة التشكيل الفني المعبر في لوحة ذات بعدين لا بعد ثالث لهما.
وفسر العنوان الذي تحمله القصة الثانية عشر من المجموعة هوية المجموعة تفسيراً جيداً، وعبر عن هوية الكاتبة والكتابة باعتبارها كتابة نسوية؛ رغم محاولة الكاتبة الهروب من الانحياز الواضح للفكر المتطرف الانتماء للمسألة النسوية.
وكان التوزيع الطباعي للقصص في المجموعة موفقاً؛ حيث وضع عنوان لكل قصة على صفحة مستقلة ذات رقم فردي، يليها القصة التي تبدأ أيضاً على صفحة فردية.
وطُبعت المجموعة بخط واضح مقروء على ورق خشن ذو لون أبيض مشوب بالصفرة مريح لعين القاريء، لكن عاب المجموعة تنسيق الجمل والفقرات في كافة القصص؛ حيث لم يراع جمع المجموعة للطباعة هوية الفقرات وبداياتها ونهاياتها، ولم يهتم بارتباط الجمل في الفقرة الواحدة؛ كما لم يلتزم ببدء كل فقرة بفراغ في الجملة الأولى بأول كل فقرة.
جاءت لغة الخطاب السردي لغة سهلة متزنة في معظم أحوالها، مكونة من لغة فصيحة بيضاء مفهومة في أغلبها الأعم؛ وإن أصابها بعض الخلل في بعض الأحيان؛ كما في القصة الخامسة في المجموعة (ذاكرة سيئة السمعة) ص 45 والقصة السادسة (الرجل ذو الأزرار) ص 51، ويعيبها العديد من الأخطاء الإملائية والنحوية السائدة، كما تستخدم الكاتبة غالباً لهجة عامية في الحوارات.
وتعتمد غالبية القصص على سارد/ساردة... عليم/عليمة يقوم/تقوم بالسرد، وتضع النهايات التي هي نهايات ميلو درامية في غالبها، تشي بالحيرة، وعدم رؤية ضوء واضح في نهاية نفق العلاقات النسائية الذكورية؛ وربما توحي بهزيمة الأنثى في العديد من القصص أبرزها القصة الأخيرة (علبة ثقاب) ص 133.
وتقع غالبية (إن لم يكن جميع) أحداث الفعل السردي في زمن طبيعي ممتد، وأحياناً في لا زمان مما يشي برؤية الحوادث السردية في الماضي والحاضر، وتوقع حدوثها مستقبلاً خاصة أن أماكن أحداث السرد كلها أماكن واقعية سواء كانت ثابتة أو متبدلة، ويمسي المكان خارج الوطن في قصة (كرسي هزاز) ص 65، ويصبح لا مكان غير محدد موقع الأحداث كما في قصتي (صراع ص 73 وتاء وأخواتها ص 93).
ووتقدم لنا الكاتبة عدداً محدوداً من الشخصيات في كل القصص؛ رغم تنوع الأشخاص المشاركة في تطور أحداث الفعل السردي التي تتصدرها شخصية السارد/الساردة - العليم/ العليمة.
وتتكون شخصيات السرد في الغالب من رجل وامرأة؛ إما زوج وزوجة، أو حبيب وحبيبة؛ ماعدا قصة (ذكر وأنثى) ص 27 التي تسقط فيها مشاعر الذكر والأنثى كما يشي اسم القصة المختصر بالرمزين اللذين يرمزان للذكر والأنثى على سلحفتين؛ حيث تكشف القصة عمق العلاقة بين الإناث، ووفاء الأنثى لرفيقتها التي يصل بها للموت حزناً على فراقها، وتتعرض الكاتبة بذكاء لظلم اتهام الذكور بالجور والأنانية، وتقول لنا من خلال هاتين السلحفتين أن المشاعر المركبة والقمعية تكون بين الأنثى والأنثى كما هي بين الذكر والأنثى، وهي تهرب بذكاء من الإشارة للعلاقة السحاقية التي يمكن تفسير علاقة الأنثى بالأنثى بجعلها بطلتي القصة من السلاحف.
 وتكتب الساردة قصتها (تاء وأخواتها) ص 93 من خلال استخدام حرف تاء التأنيث كرمز، تُقَيْم من خلال علاقته ببقية الحروف العلاقات بين ذكور وإناث البشر، مُختصة التمييز بين الحروف كأداة موازية لتمييز النوع الاجتماعي للذكر والأنثى، واستخدام هذا التمييز كمادة تعبيرية، لإيصال الرسالة السردية، بإضفاء صفات بشرية على الحروف، وإضفاء صفات الفبائية على البشر.
وتستخدم ريم أبو الفضل نفس التقنية الرمزية في قصة (جثمان نملة) ص 113 التي تتميز بلغة راقية، وتتماهى فيها الشخصية البشرية بالحشرة في صيغة كفكاوية بامتياز، تعبر بها الكاتبة عن فقدان قيمة الإنسان نتيجة الواقع الاقتصادي الذي يطحن القيم.
وتبني ريم أبو الفضل وقائع حكاياتها كلها في منشأ واقعي حتى وإن نحا للرمز، أو أشكال المجاز اللغوي في التعبير، فيتكون متن الحكاية (الوقائع) من علاقة ثنائية في الغالب فهي في قصة (تحت الصفر) علاقة زوجية تصل لقمة الفشل بعد سنوات من العشرة، بينما في قصة (صراع) نجد هذه العلاقة تنتهي بتنازل الزوجة حين أصاب الزوج المرض وأقعده عن ممارساته الفاسدة خارج علاقة الزواج، واستسلامها لقدرها بالوحدة بعد موته، وفي قصة (ناقل سرعات) تحدثنا الكاتبة عن فقد الزوجة كفاءتها البدنية نتيجة المعاناة اليومية في حياتها الزوجية التي تنتهي بكشف مؤلم عن زوج مقعد، وأن الزوجة طوال الوقت تحاول الاتزان في مواجهة قسوة الواقع المؤلم، وتستخدم الكاتبة تأثير الخوف الديني في صنع حلم كابوسي لزوجة زوجها غائب في قصتها (نصف لعنة) وتتعرض في قصة (كامل الأوصاف) لعلاقة شذوذ جنسي بين رجل ناضج وفتية، تؤدي إلى تدمير العلاقات بالحارة، وفي قصة (ودارت الأيام) توحي لنا الكاتبة بعلاقة سفاح محارم بين زوج الأم وبنتيها، وتطرح في قصة (كرسي هزاز) وجهتي نظر نقيض لثقافتين مختلفتين في الحرب والموت.
وتصنع الحبكة في قصص ريم أبو الفضل حوارات بين مواقف وليس بين أشخاص ففي قصة (صراع) نجد أن تمرد الزوجة لا يكفي كدافع للخيانة لأن مفهوم المسئولية الأخلاقية يمنعها من إتيان فعل الخيانة رغم رفضها للرجل الزوج، ونجد في قصتي (تحت الصفر- الرجل ذو الأزرار) أن نمط الحياة الذي يمارس فيه الزوج الاستبداد، وتقوم فيه الزوجة بالأعباء الأسرية يؤدي إلى موت العواطف بين الزوجين، حيث تشعر الزوجة المتضررة من هذا السلوك بهذا الموت الذي لا يلاحظه الزوج الذي تقدمه لنا ريم كشهريار عصري.
وتشير دلالات وأبعاد الحدث السردي في مجموعة (تاء وأخواتها) لأبعاد ثلاثة واضحة أولها (البعد السيكولوجي) حيث يمكن رؤية مشكلات سلوكية واضحة يعالجها السرد؛ كالتمرد على القمع الذكوري، واستخدام الثلاجة للتبريد كناية عن البرود الجنسي للأنثى كنتيجة مباشرة لنمط الحياة القمعي في قصة (تحت الصفر) وعقدة الذنب التي تكونت لدى الشباب نتيجة علاقتهم الآثمة بالرجل البالغ في قصة (كامل الأوصاف) وحزن الفقد الناتج عن عقدة إلكترا في قصة (شفاه ملونة) وعقدة نقص عضو الذكورة في قصة (تاء وأخواتها) وفوبيا الاعتقاد الديني في قصة (نصف لعنة) والهلوسة البصرية الناتجة عن قسوة الواقع في قصة (جثمان نملة) والنسيان القصدي في قصة (ذاكرة سيئة السمعة).
ويبدو البعد العاطفي واضحاً في غالبية القصص التي تعكس أحاسيساً مليئة بالحب والرغبة ففي قصة (تحت الصفر) نرى استخدام الكاتبة للتبريد، تعبيراً عن موت العواطف الذي تعبر به الزوجة عن التمرد على القمع الذكوري للزوج المؤدي لفقدان العواطف، وتتكرر نفس الثيمة في قصص (الرجل ذو الأزرار- كرسي هزاز – تاء وأخواتها) والملل من العلاقة العادية كما في قصة (مطلوب شراء بضع سنين) أو موت العواطف بسبب قسوة الوضع الاقتصادي كما في قصة (ودارت الأيام) وفقدان الأمل نتيجة الفقر وغدر الحبيب في قصة (جثمان نملة) وقوة عاطفة الأمومة التي تدفع الأم لبيع جسدها في قصة (الموت من أجل الحياة).
وتعتبر رؤية ريم أبو الفضل للواقع الاجتماعي والتاريخي ذات أبعاد متعددة يدعمها معرفة عميقة بتفاصيل الحياة وخبرات عملية واضحة مثل المعرفة بتفاصيل فنية لقيادة السيارات، ومعرفة لا بأس بها بالعالم الرقمي، تتضح من تفاصيل السرد؛ إذ تدرك الكاتبة تفاصيل الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي تصفه بدقة، وتسخر منه، وتتأمل واقع الأنثى بعمق لا يخلو من انحياز نسوي، يحاول أن يكون موضوعياً أحياناً فينجح، ويفشل أحياناً أخرى، فيتمحور السرد في قصتها (تحت الصفر) حول سلوك الزوج الأناني المبني على سلطة ذكورية يورثها لولديه باعتبارها حق ذكوري يُكتسب بالوراثة، وتبرر الكاتبة البرود الجنسي للزوجة بحيلة فنية فانتازية تبرر بها انتهاك إنسانية الزوجة نتيجة الظلم الاجتماعي الواقع عليها، وتترك نهاية القصة مفتوحة على احتمال من اثنين أولهما انتقال السلطة من الزوج للزوجة الجديدة، أو إعادة إنتاج الزوجة الجديدة للوقوع في فخ السيطرة الذكورية.
 وتنهزم الأنثى في قصة (عود ثقاب) أمام الذكر نتيجة ضعف في الذاكرة، لا يجعلها تتذكر رجل كان ضحية حيلتها في الماضي، وهو أمر غريب بالنسبة للنساء.
ويثير الانتباه في المجموعة رؤية وجودية للحياة تطرح أسئلة عدة من المسكوت عنه؛ سواء كانت تابوهات جنسية متعلقة بالمثلية الجنسية كما في قصتي (كامل الأوصاف – ذكر وأنثى) حيث تطرح القصة الأولى العلاقة غير الطبيعية بين الذكور، والثانية بين الإناث؛ إضافة لذلك تطرح الكاتبة أسئلة فلسفية عميقة متجاوزة للواقع كما في قصتها التي توحي من خلالها إما بجريمة مدبرة، أو موت عبثي (الرجل ذو الأزرار) "لماذا لم يخلق الله زراً لإنهاء حياتنا" ص 55.
ويتناول سرد ريم أبو الفضل قضايا إنسانية تحاول طرحها من خلال النماذج البسيطة التي تصنع بها بناءها السردي لكنها تقع في أخطاء التبسيط إما للرؤية الأخلاقية المجردة كما في قصة (كامل الأوصاف) أو فقدان الرؤية الواضحة مما ينتج عنه قراءة سودواية للعلاقات كما في قصة (ذاكرة سيئة السمعة) أو تقدم تبسيطاً مخلاً ساذجاً، تفسر به الصراع الطبقي في قصة (شهد الفقراء) بينما يصبح تناولها أرقى إنسانياً وفنياً حين تبتعد عن إصدار الأحكام وتكتفي بعرض حقائق الواقع كما في قصتها (جثمان نملة) التي تعيد فيها صياغة الواقع لتقدمه لنا في صورة كفكاوية مرعبة بلا تكلف، أو في قصتها (نصف لعنة) التي تصنع من خلالها عالماً شديد القسوة ليس إلا نتيجة لفكرة هاجس مسيطر على ذهن امرأة، يخلط ما هو فكر ديني بما هو دين ويجعله حاكماً على الحيوات.
إن التعامل مع نصوص ريم أبو الفضل يستلزم درجة عالية من الانتباه لأننا أمام عقل يعي حقائق الحياة، ويمتلك أدوات التعبير عن هذا الوعي الذي ما زال بحاجة لجهد ثقافي كبير حتى تستطيع الكاتبة أن تكون قادرة على الوفاء بالاحتياجات المعرفية لهذا الوعي، ولن يتحقق لها ذلك إلا بالتحرر من كثير من التابوهات، والإجابة على أسئلة ليس سهلاً التعامل معها، أو الإجابة عليها الإجابة الصحيحة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق