السبت، 4 أغسطس 2018


قراءة في رواية الطريق إلى رأس العش

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

"الأدب آلة ضخمة لتفسير الذات، وإعادة الصياغة الشعرية للحياة، وهو قادر على تحويل المهمشين من العادي إلى وجود شعري، ودلالات قصصية، وغذت هذه القدرة الحلم بكتابات جديدة." جاك رانسير

تمنحنا رواية (الطريق إلى رأس العش) وصفاً دقيقاً انتظرناه طويلاً لحالة من حالات الوطنية المصرية النقية في حرب السادس من أكتوبر 1973 م حيث سادت مقولة تروج لحاجتنا لوقت لاستيعاب الحدث حتى يمكننا الحديث عنه، فمضت عقودٌ طويلة لم يتح خلالها لأعمال جيدة عديدة عن هذه الحرب التاريخ أن تأخذ مكانها الذي تستحق، وتعطينا هذه الرواية فرصة الاستماع لمحدث جدير بالإنصات إليه لديه الأداة الإبداعية التي تمكنه من القول عن هذه الحرب ولها، كونه أحد صناعها.
مورفولوجيا النص (الجنس الأدبي):
حدد الكاتب نوع عمله في غلاف الكتاب كـ(رواية تسجيلية) إلا أنه يمكن توصيف العمل بشكل أدق كـ(قصة تسجيلية طويلة/ رواية تسجيلية قصيرة) من حيث الحجم الورقي، ومساحة زمن السرد، والتزام المؤلف التزاماً مدهشاً بتوثيق الأماكن والأزمنة والأحداث بدقة؛ حتى يكاد السرد أن يحكي مذكرات شخصية لشاهد عيان على الحدث في أجزاء عدة من الرواية؛ حيث يحكي هذا العمل حكاية مجموعة من المقاتلين المصريين في وحدة عسكرية على شاطئ القناة الغربي قبل وأثناء وبعد العبور إلى الضفة الشرقية للقناة بتفصيل شاعري مدهش وغير ممل؛ حيث يقدم لنا النص السردي خلاصة تجربة حياتية، اختمرت في ذهن الكاتب فوثقها في صفحات عمل أدبي.
منهج قراءة النص
تستخدم قراءة هذا العمل معايير سبعة لتحليل للخطاب السردي ذكرتها الناقدة كريستين مالمكجاير Kirsten Malmkjaer للحكم على الخصائص الدلالية التي يقدمها النص والولوج إلى هذا العمل الإبداعي لقراءته قراءة تفكيكية.
1)      الحبكة Coherence (التلاحم الدلالي للأحداث).
اعتمد المؤلف على ذاكرة تستفيد من (دفتر أحوال وحدة عسكرية) في صياغة أحداث عمله الإبداعي، فحضر الكاتب حضوراً سردياً واضحاً غير خفي ولا متوار؛ و إن اكتفي بالقول وما يحتويه من دلالات إلا أن سلطة الكاتب تبدو حاضرة قوية مهيمنة على المقاطع الأدبية؛ متحكمة في المعاني حرصاً عليها من التشتيت والتشظي.
وتستمد الأحداث قوة تأثيرها في صنع الحبكة السردية من واقع تاريخي وليس من الخيال في بنية بسيطة صارمة تربط الأحداث ترابطاً منطقياً، يقود الحدث فيها للحدث التالي دون حاجة لتبرير؛ حيث تبرر الأحداث في تواليها المكاني والزمني (الكرونولوجي) فعل الشخصيات تبريراً منطقياً، ويقود الفعل في تسلسله لنهاية درامية بإسدال الستار بموت شخصية محورية من شخصيات العمل (عبد الستار) ليقول لنا الكاتب في تورية ذكية أن ما حدث لم يكن ليحدث بلا ثمن، وأن ثمنه كان حيوات إنسانية دفعت الثمن برضا دون تردد.
"كان قد نسي عبد الستار، فنظر في اتجاهه، شاهد عموداً من الطين يرتفع إلى أعلى، ويهوي ببطء إلى الملاحة الثانية، وعندما تلاشى الدخان، وهبطت ذرات الوحل، نظر فلم يجد عبد الستار كأنه ارتدى طاقية الإخفاء.
هل خدعه مثلما خدع العدو، واختفى فجأة مثلما ظهر فجأة؟
لم يصدق أنه من الممكن لرجل مثله أن يموت." (ص 137)
2)      الترابط المنطقي Cohesion (السبك النحوي).
يكمن جمال النص في (الطريق إلى رأس العش) في طبيعة الحدث وتلقيه لتأويله، حيث النص غير عصي على الفهم مسبوك في لغة شاعرية بسيطة، يستهدف الإنسان، ويستفز قدراته المعرفية؛ حيث تصنع كل فقرة من هذا النص الإبداعي نظاماً لغوياً يعبر عن ذاته، ويأخذ مصداقيته من محاكاته الدقيقة للواقع؛ ولا علاقة له بأي نسق فكري سابق عليه؛ وينسجم مع نفسه، وينمو وفق قوانينه الخاصة التي تشكل بها، والمبنية على ترابط الجمل؛ حيث تنسجم اللفظةPhoneme  مع مثيلتها لبناء الجملة، لبناء التركيب اللغوي للفقرة الذي يقود لصياغة التعبير المؤدي لاستواء النص، فيقود للمعنى، وهناك فقرات  خصها الكاتب بلغة شعرية، تُشكل نصاً موازياً للسرد في مونولوجات داخلية تعتمد أسلوب التداعي الحر، وتم طباعتها بخط مختلف عن الخط المستخدم في السرد.
"لم يكن يبحث عن الحقيقة، لكنه كان يبحث عن الخلاص مثل أبطال البير كامي الذين تنتهي حياتهم بالموت دائماً." (ص 17)
وتتصف لغة المؤلف بالنمو إذ هي متوازنة التكوين، تراعي البنية الصرفية وترتيب الفونيمات ضمن سياق تركيبي يحافظ على العلاقات النحوية الوظيفية لتقوم الأفعال بوظيفة تؤدي المعنى المناسب لها داخل الجملة، لتصبح اللغة مولدة، تؤدي المعنى الدلالي الذي يستفز القارئ، ويدفعه إلى التفاعل مع النص والفهم.
وتتشكل لغة الخطاب السردي في العمل على عدة مستويات خاصة في المقاطع الحوارية بما يتفق مع بنية تكوين الشخصيات وثقافتها التي تنعكس على سلوكها حيث لا تتفاصح اللغة ولا تتعالى أو تسف، ويتوارى الكاتب عندئذ، ليفسح المجال لشخصياته تعبر عن نفسها ومشاعرها بحرية، ويستحضر ما هو سافر ومضمر في وعي شخوصه، وأحلامهم الموءودة وتلك المحلقة في سماء الأمل.
ورغم رقي البناء اللغوي في العمل، يبقى وجود بعض الأخطاء في صياغة الجملة العربية التي هي (جملة فعلية) كما علمنا المثال التعليمي الرديء (ضرب زيدٌ عمراً) حيث تسقط من الكتاب في فورة الكتابة مثال على ذلك:
1.    تبدأ الفقرة الثانية  ص 11  بـ (على بعد أمتار قليلة يربض كوبري الرسوة) والتركيب الصحيح للجملة هو (يربض كوبري الرسوة على بعد أمتار قليلة).
2.    تبدأ الفقرة الثالثة  ص 11  بـ (من خلفه كانت ملاحات المنزلة) والتركيب الصحيح للجملة هو (كانت ملاحات المنزلة من خلفه).
3.    يقاس على ذلك الفقرة الثالثة  ص 12 والفقرة الأخيرة  ص 21... ومواقع أخرى.
كما ساهم الإخراج الطباعي في تفتيت عدة فقرات بدءاً من السطر (12) الذي ينتهي بـ"يبدو له بلا" واستكمال السطر في السطر (13) التالي له والسطر رقم (14) الذي ينتهي بـ"كي تصيح" واستكمال الجملة في السطر التالي، وهكذا في مواقع أخرى كما في صفحات (20-21-31-64) وبعض الأخطاء الطباعية البسيطة الأخرى مما يستلزم من كافة المبدعين الاهتمام بمراجعة (توضيب) نصوصهم، ويفضل أيضاً مراجعتها من مراجع لغوي.
3)      القصد (مغزى النص) Intentionality
يستهدف النص توثيق جزء محدد من تاريخ مصر الحديث في حرب السادس من أكتوبر، ويقدم النص السردي خلاصة تجربة حياتية، اختمرت في ذهن الكاتب فوثقها في صفحات هذا العمل الأدبي، مستفيداً من خبرة ذاتية تتضح من خلال السرد حيث يوثق الكاتب في صفحة 53 الهدف من عمله السردي بذكر ...
"سري للغاية
أمر قتال الكتيبة(  ) لاقتحام قناة السويس، وعمل رأس كوبري للواء (  ) والاستيلاء على نقطة العدو القوية في الكيلو 19 جنوبي بورسعيد"(ص 53)
هو إذن يستهدف توثيق تجربة جماعة من الجماعات العسكرية العديدة التي أنجزت انتصار مصر على إسرائيل في حرب أكتوبر 1973م
4)      قابلية الدخول للنص Acceptability
(إعادة تأليف النص- اختلاف استيعاب النص من شخصٍ لآخر):
تتحدد قوة النص في سرد الحدث بطريقة تمكن القارئ من تلقيه بسهولة لتأويله، كونه نصاً غير عصي على الفهم، يكتفي بالقول وما يحتويه من دلالات، يستهدف الإنسان، ويستفز قدراته المعرفية عبر حضور سردي واضح غير خفي للكاتب، وليس متوارياً حيث تبدو سلطة الكاتب الإبداعية حاضرة قوية مهيمنة على المقاطع الأدبية... متحكمة في المعاني خوفاً عليها من التشتت والتشظي.
ويضعنا الكاتب أمام جنس أدبي نقي غير إشكالي فنحن أمام سرد يأخذ شكل (القصة الطويلة/الرواية القصيرة) يلفت التكثيف فيه انتباهنا عند قراءته أول ما ننتبه له؛ فنحن أمام قصة طويلة تجمع بين اللغة الشعرية الوامضة، والنظرة الفلسفية التي يناقش الكاتب من خلالها قضايا الحياة والموت والحرب والسلام في تأمل عميق، يكسر فيه حاجز اللغة الفصحى في بعض الأحيان، مستخدماً لهجة عامية راقية تُمكنه من توصيل رسالته للقارئ البسيط حيث يقول في صفحة 68:
"اقترب سمير كتكوت من عبد الستار الذي كان مستغرقاً في التفكير، وهزه بيده.
-         خايف يا له؟
-         وحين لم يسمع جواباً أجاب على سؤاله هو:
-         أنا خايف.
-         من إيه؟
-         من إيه؟ من الموت طبعاً.
-         ومين قالك إنك ها تموت؟
-         ومين قال لي؟ دي حرب يا جدع.. حرب.
-         ما تخافش مش ها تموت.
-         وإيه اللي عرفك إني مش ها أموت؟
-         بكره الحرب تخلص وتعرف إنك ما متش.
-         وافرض مت يا حدق؟
-         يبقى ساعتها مش ها تحس إنك مت." (ص 68)
ونلاحظ أنه لا النصوص، ولا المعاني اللغوية ذات مستوى واحد؛ حيث تتعدد مستويات اللغة وقدراتها التعبيرية فحين يكتفي القارئ العادي بظاهر النص؛ يبحر القارئ المتخصص، والناقد، والمثقف عميقاً في باطن النص لكشف غموضه وإنارة عتمة معانيه، والانتقال من المرئي إلى الخفي، ومن المباح للمسكوت عنه، واكتشاف الغامض من المجاز، وفض أغلفة التورية، فيصبح الباطن جوهراً للكتابة حيث جماليتها في غموضها تظهر كوة في النفق منها يتسلل القارئ ويستل لب الموضوع ورحيقه لأن الإبداع الحقيقي ليس في ظاهر النص وإنما في جوهره وفي جوهر النص يكمن فائض المعنى، فيقول الكاتب في صفحة 28 من روايته (الطريق إلى رأس العش)...
"كيف يفهمون؟
إنهم مجموعة من الكائنات الأرضية التي لا ترى أبعد من باب الملجأ.
كأن شيئاً لا يعنيهم.
لقد خسرت حياتي، وهم أيضاً يخسرونها..
الفارق الوحيد بيني وبينهم انني اكتسبت وجودي قطعة قطعة، وقد فقدته كلاً واحداً، أما هم فقد اكتسبوه كلاً واحداً، وها هم يفقدونه قطعة قطعة.
الكل خاسر
ورغم ذلك فإنهم يقبلون على حياتهم في نهم أو لا مبالاة.
أنا مخرب، وهم فارغون، هذا كل ما في الأمر.
الإنسان لا يتعالى على خرابه إلا باللا مبالاة أو التصوف.
بالقطع هم ليسوا بلداء، وكذلك فإنهم ليسوا متصوفة، إنهم جنس ثالث ورابع.. أما أنا.." (ص 29)
حيث يرتقي مستوى اللغة مع مستوى التفكير، موازياً لحالة تأمل شخصية المتفلسف (صلاح) التي تعكس حالة من الشجن يعبر عنها الكاتب من خلال السرد.
5)      المعلومات التي يتضمنها النص (الإخبار) Information
(قدرة النص على الإخبار بمعلومات مبهرة أكثر إبداعاً ودلالة من العادي).
يخبرنا الكاتب عن لحظة تاريخية فارقة باستخدام معلومات وثائقية، يمزجها بتفاصيل حياتية عن شخوص عاشت هذه اللحظة، كاشفاً من خلالها عن المشاعر الإنسانية التي مر بها شخوص حكايته في هذه اللحظة بما فيها من خوف وشجاعة، فهو يمارس الكشف النفسي للإنسان مؤكداً واقعية السرد، وعدم تجريد الحدث من إنسانية أبطاله، وهو بذلك يحدثنا عن (بشر أبطال) وليس عن نماذج لآلهة أو أنصاف آلهة مما يصبغ المعلومات التي يتضمنها النص بنكهة إنسانية، يخبرنا الكاتب من خلالها عن تفاصيل دقيقة في تاريخ مصر الحديث في نصوص، جامعة تحاول مزج أشكال التعبير الأدبية؛ مما يجعلها رغم بساطتها اللغوية عميقة في رؤاها الفكرية وحقولها الدلالية في نصوص تفيض بالمعنى، وتبحث عن قارئ متمعن في ما تخفيه من مضمرات نصية ودلالية وخاطبية.
6)      مقام قول النصّ Situationality (علاقة زمن النص بالواقع، وتناسب علاقته مع هذا الواقع).
ينقسم مقام قول النص لعنصرين مرتبطين هما عنصر زمن الروي ومكانه.
زمن الروي: يتناول المؤلف عبد العزيز موافي الأيام القليلة السابقة على عبور القوات المسلحة المصرية قناة السويس والاستيلاء على خط بارليف (يومان فقط قبل العبور) وأيام أخرى قليلة تالية لهذا الحدث الضخم، فيحافظ بذلك على البنية الزمنية للفعل السردي، ولا يمارس الألاعيب الإبداعية بتشظية الزمان، ويحصر البنية الزمنية بصرامة تحسب له ولعمله حيث يوثق بوضوح للحالة السردية التي تقترب من أن تكون تأريخاً إنسانياً لحدث إن تم تناسيه إلا أنه باق في ضمير صناعه، وفي كتب الاستراتيجية العسكرية، وأعمال أدبية تناولته.
مكان الروي: حدد الكاتب مكان الحدث بدقة في الكيلو 19 جنوبي بورسعيد في موقع عسكري على الضفة الغربية لقناة السويس، والمواقع المواجهة له في الضفة الشرقية بعد العبور، فيصنع بذلك بيئة السرد بشكل واضح ومحدد، يساهم في التركيز على الشخصيات والحدث دون أن يربك القارئ بتشتت المكان.
7)    التناصّ Inter textuality
(استفادة النص من نصوص أخرى): استقل النص بسياق سردي شديد الخصوصية، ولم يتداخل مع سياقات نصية أو سردية أخرى للتناص معها إلا في أضيق الحدود، واعتمد في الروي على توثيق أحداث يبدو أن الكاتب عاشها شخصياً، وربما استعان بالقليل من دفتر أحوال الوحدة العسكرية التي خدم بها كضابط في بداية حياته العسكرية، ولم يستعن بأية نصوص مقدسة أو إبداعية على مدى الفعل السردي إلا بأقل القليل كقوله: "لم يستطع جنود المشاة صبراً" (ص74) تناصاً مع الآية: )قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (الكهف 78.
إن صفة السرد الواضحة في الطريق إلى رأس العش هي محاولة الانفتاح على أشكال لغوية تعبيرية مختلفة، تتراوح ما بين لغة صوفية شعرية، وعامية دارجة معبرة؛ مستفيدةً من قراءة الأديب عبد العزيز موافي الخبيرة بالحدث والتي اخترق بها عتمة التاريخ من خلال الحفر الشديد في عتمة مشاعر الجنود المحاربين في مرحلة ما قبل الحرب والحرب ذاتها؛ ليكشف لنا ما تحتويه الحياة العسكرية في انتظار فعل الحرب، ويضعها في النور، لتصبح دروساً وعبراً تُمهد الطريق للقارئ لفهم مغاليق الحياة، والتعرف على مرحلة تاريخية من الأكثر أهمية في تاريخ مصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق