السبت، 4 أغسطس 2018


حازم عزت وحرية الكتابة بالوجع

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

"اخلعوا كل ما يقيد الإنسان... كل ما استحدث لينظم أموركم... اخلعوا السلطة... اخلعوا الضوابط الدنيوية والفوقية... انفضوا عن كاهلكم الدين... اتركوا السياسة وكفوا عن كونكم مسيسين... امسحوا الحدود الجغرافية... عيشوا الحياة بلا وصاية و خضوع لإرادة أحد."
*******************
تعتمد دراسة المجموعة القصصية (مزيد من كل شيء أو لا شيء على الإطلاق) على معايير تسمح بتفكيك تفاصيل الخطاب السردي، والسماح بقراءة موضوعية قدر الإمكان تتناول الأبعاد الأدبية من خلال قواعد النقد الأدبي، كما تتناول أيضاً بعض الأبعاد الثقافية في إطار نظرية النقد الثقافي، حيث تلتزم هذه الدراسة بالتعرف على:
وصف المطبوعة - الغلاف والعنوان كمفسر ومدخل للنص - تحليل الخطاب السردي (لغة الخطاب السردي- زمان السرد- مكان الأحداث -  الأشخاص المشاركة في تطور أحداث الفعل السردي - متن الحكاية {الوقائع} – الحبكة) - دلالات وأبعاد الحدث (البعد السيكولوجي - البعد العاطفي - البعد الاجتماعي والتاريخي).
جاءت المطبوعة في مقاس A5 وتحديداً 14x20 سم مكونة من لوحة تشكيلية مقسومة نصفين النصف الأسفل منها تدرجات اللون الأزرق اللبني يبدأ كثيفاً في الأسفل وتقل كثافته للأعلى، ويتكون النصف العلوي من تشكيل عناصر زخرفية وفي منتصف الصفحة دائرة بمركزها عين زرقاء مؤطرة بزخارف ملونة بدرجات من البني والبرتقالي والأصفر والأزرق، يعلوها جسد أنثى في وضع الجنين لونها أزرق موشوم بزخارف بيضاء وله جناح شفاف، ويخرج من بين كتفيها جسد آخر مشوه، يحيط بعنقها ورأسها وخلفية النصف الأعلى عبارة عن تموجات لونية من الألوان الساخنة والباردة مختلطة بعضها ببعض، ويحيط بالغلاف إطار أبيض به خطوط زرقاء رفيعة وعنوان المطبوعة مكتوب بخط حر في النصف الأسفل كتفريغ في اللون وتحته اسم المؤلف باللون الأصفر.
يربك الغلاف بهذا الشكل المتلقي رغم القيم التشكيلية والرموز التي يتضمنها حيث يحتاج المتلقي لوقت طويل نسبياً لإدراك تفاصيل اللوحة والتعاطف معها، ويشكل بألوانه الكثيرة حالة طرد بصرية، يساعد الإطار الأبيض المحيط بالتشكيل على ذلك إذ يضيف عامل عزل إضافي بين المتلقي والغلاف.
وجاء العنوان الطويل نسبياً (مزيد من كل شيء أو لا شيء على الإطلاق) كاشفاً لرؤية الكاتب بوضوح حيث هو رسالة واضحة من الكاتب، فساهم في إحداث فجوة بين العمل السردي والقارئ العادي الذي يجذبه العنوان الموحي، ويدفعه للبحث فيما وراءه أكثر من العنوان الكاشف.
كما كانت طباعة المطبوعة بخط واضح على ورق خشن الملمس داكن اللون نسبياً يمتص الضوء ولا يسمح بانعكاسه أثناء القراءة مُريحاً للعين ، وإن كانت بداية كل قصة تبدأ من الصفحة اليمنى وهذا خطأ غير مقبول وغير مبرر في قواعد طباعة الكتب.
وتتضمن المجموعة أحد عشر قصة هي (فراشات ضالة – الشجرة – مزيد من كل شيء – مقايضة – لا شيء على الإطلاق – ومضات نابضة بالحياة – الخرس – عجلة الأقدار – صغير الدب والفهد الصياد – الضياع جرياً على شريط الزمن – استسقاء).
تشير لغة السرد إلى تمكن الكاتب من اللغة العربية ومفرداتها، وجودة المراجعة اللغوية سواءً الإملائية أو النحوية للنصوص، ويستخدم الكاتب المجاز استخداماً من الأرقى؛ حيث يستخدم صوراً للتشبيه والاستعارة مُغرقة في الغرائبية فعلى سبيل المثال يقول في قصة (الخرس) ص63 "وأمه متشحة بتلك الواجبات المنزلية التي لا تنتهي." وتشبيه الابنة والأب بالدببة والأم بالفريسة والمدرس الخصوصي بالفهد الصياد في قصة (صغير الدب والفهد الصياد) ص74؛ كما يجيد الكاتب التناص مع النصوص المقدسة المسيحية والإسلامية على حد سواء فيقول في ذات القصة متناصاً مع الكتاب المقدس "تأجلت قيامتهم" ص64 ثم يليها بقوله في ص65 "ولست عليه بعزيز" متناصاً مع القرآن كما يتناص مع القرآن في ص 14 من قصة (الشجرة) بقوله "سوء مآب".
ورغم اللغة الراقية للكاتب إلا أن مستوى الأداء اللغوي يتفاوت من قصة لأخرى حيث يصل لذروة جمالية في بعض القصص مثل قصة (الخرس) ص65 ؛ بينما تصبح اللغة عادية -ومربكة أحياناً- حين يستهدف الكاتب صنع لغته الخاصة باستخدام أساليباً تقفز على قواعد الكتابة العربية التقليدية كبدء الجملة بداية غير فعلية كالمتعارف عليه لغوياً كما في قصة (فراشات ضالة) ص5، أو اسم المجموعة وبعض أسماء القصص الطويلة بحثاً عن خصوصية للصياغة لم تكن موفقة إلى حد بعيد؛ إضافة لبعض الهنات النحوية البسيطة كما في قصة (الخرس) ص65 في جملة "وبينما يفكر في بلواهم وسعيهن نحو البقاء" وصحتها "وبينما يفكر في بلواهن وسعيهن نحو البقاء" ؟أو أخطاء طباعية كما في قصة (مقايضة) ص39 في جملة "سألت عن القزم ؟ "قالت. قلت لها "نعم" قالت "ما عاد لك أن تراه للأسف"" حيث الجملة مرتبكة وغير واضحة إما لسقوط كلمات أو زيادرة كلمات سهواً.
وتدور غالبية القصص في زمن سرد غير محدد، هو زمن السرد في غالبية القصص (ما عدا قصتي الشجرة وومضات نابضة بالحياة) اللتان تمتد فيهما الأحداث لسنوات طويلة وهو أمر غير مرغوب فيه في السرد القصير والقصير جداً.
وتبدو الأمكنة واقعية مستقاة من الحياة العادية إلا أنها مصاغة بشكل غرائبي، تُضفي عليها الأحداث صبغة سوداوية حيث يقدم لنا الكاتب في غالبية القصص واقعاً فانتازياً في بيئة سرد كفكاوية بامتياز، ورغم تفاوت أمكنة السرد من قصة لأخرى إلا أن معظم أماكن السرد تكاد تخضع لقاعدة الانتقال في الأماكن فهي تدور بكل القصص في عدة أماكن ولا تتوقف أحداث السرد في كل أقصوصة عند مكان ثابت أو محدد.
ويميز سرد حازم عزت محدودية شخصيات كل قصة من قصصه، فشخصيات السرد أو أبطاله هم في الغالب سارد عليم راصد للأحداث، أو سارد ذاتي يصنع الحدث أو يشارك فيه والشخصيات ذات ملامح فنية محددة لكن أغلبها مشوه إنسانياً ومحمل بهموم ذاتية أو عامة فالشخصيات يعيشون عوالم هي الأخرى شائهة وسوداوية وتمر بأحداث غير منطقية؛ وقد تكون الشخصيات إنسانية وحيوانية في ذات الوقت مثل قصة (مقايضة) ص35 التي يستحضر الكاتب فيها مفهوم تناسخ الأرواح في بعض العقائد؛ حيث يتذكر بطل السرد البشري تاريخه السابق كفأر؛ ويعري الكاتب الماضي والحاضر بين الذكرى والواقع، ويدير الكاتب العلاقة بمهارة بين امرأة وجارتها وشاب مجهول وشيخ وجنين وقطة وتمساح وغزالة وخياط في القصة الأخيرة (استسقاء) ص94 رغم تنافر تكوينهم الطبيعي إلا أن الواقع الكفكاوي للسرد يجعل العلاقات غير الطبيعية بينهم منطقية في إطار الحكاية الغرائبية.
ويصنع الكاتب في كل قصصه متن حكاية أرسطية الوقائع في واقع سردي مليء بالرعب؛ ذات حبكة متقنة رغم غرابة الأحداث فالقصص كلها مبنية بناءً سردياً محكماً له بداية تتصاعد لذروة ثم يجيء الحل أو النهاية سواء كانت نهاية محددة أو مفتوحة تترك للقاريء حرية التوقع.
وتبين القراءة الثقافية لموضوعات السرد في المجموعة افتقاد اشخاص الحكايات للأمن، حيث يعبرون عن حاجات سيكولوجية ضاغطة تصنع الحبكة؛ مثل مشاعر الخوف الغريزية في أول قصص المجموعة (فراشات ضالة) ص4 التي تدور أحداثها بين أب وابنته والجدة، ونوستالجيا الحنين للماضي في قصة (مزيد من كل شيء) ص21 حيث تدور الحكاية بين أم وابنتها حول التغيير المتوقع نتيجة الظروف الصعبة، أو ذكريات الماضي ممثلة في سيرة الجدة، واحتمالات تغير الواقع بما تمثله من ثقل عاطفي، أو رصد التغير السلوكي بين الماضي والحاضر بعد التقدم في العمر في قصة (ومضات نابضة بالحياة) ص56، والإحساس بخديعة الزمن في قصة (عجلة الأقدار) ص 68.
ويرصد الكاتب بوعي واضح تأثير الدين على السلوك في قصة (الخرس) ص62 ويعبر عن عقدة الشعور بالذنب وأثرها على مشاعر وممارسات الفرد في قصة (الضياع جرياً على شاطيء الزمن) ص86 ويقدم لنا في قصته (صغير الدب والفهد الصياد) ص 74 مفهومه الخاص لعقدة إلكترا حين يضيف الابنة لمثلث الزوج والزوجة والعشيق.
وتشغل الكاتب قضايا وجدانية يعبر عنها عبر رصد مشاعر أبطاله وعواطفهم في أحداث السرد، فيقدم لنا قراءته الخاصة لنوازع الخير والشر في قصة (الشجرة) ص 12، وأهمية الأمل والإيمان به رغم المجهول في قصة (مزيد من كل شيء) ص20، ونزاع الحياة والموت في قصة (مقايضة) ص 34 أو رفض الموت المجاني كما في قصة (الخرس) ص 62، ويتناول في قصتيه (ومضات نابضة بالحياة / عجلة الأقدار) شجن مرور العمر والخواء العاطفي الذي تمر به امرأة في رحلة حياة لم تخترها وفُرضت عليها، ويقدم لنا في قصة (صغير الدب والفهد الصياد) ص 74 قراءة متميزة لعلاقة المثلث التقليدي للزوج والزوجة والعشيق وربط هذا المثلث بالابنة وعلاقتها المتميزة بالأب، وتأصيل سبب خيانة الزوجة، وربطه بفارق السن الكبير بينها وبين الزوج الذي يعجز عن إشباع حاجاتها الطبيعية، كما يتعرض لمأساة الوحدة الإنسانية في قصة (استسقاء) ص94.
ويبدو تفاعل حازم عزت مع الوقائع الاجتماعية والتاريخية في ثقافة المجتمع المصري واضحاً من خلال طرحه للقضايا بأسلوبه المتميز الذي يعكس رؤية قاتمة لهذا الواقع؛ ليس من منطلق التشاؤم ولكن من منطلق نقدي يطمح لإحداث تغيير للأفضل؛ وهي رؤية تُميز تطلع جيل جديد لصنع واقع أكثر ثراءً وتحضراً ففي قصته (الشجرة) يمارس عملية الإسقاط السلوكي Projection بين الكائنات البشرية وتلك غير الإنسانية، ولا يتعصب في تعامله مع عناصر الثقافة المختلفة لعقيدة أو ديانة معينة بل تبدو مشاعره الإنسانية محايدة في تبنيه لمفردات عقائدية مسيحية أو إسلامية أو بوذية بلا حساسية، وفي قراءته لثقافة المرحلة التي نعيشها يربطها بمسئولية الإنسان عن صنع هذا الواقع، ويقول لنا أن المستقبل يصنعه البشر، وأن هذا الواقع الكفكاوي الذي يعيشه أبطال قصصه إنما هو من صنعنا نحن، وأننا نحن بني البشر مسئولون عما وصل إليه واقعنا القاسي من تردٍ؛ وأننا إذا أردنا حياة أفضل فعلينا أن نكون بشراً أفضل، وذلك بقول واضح بَيّْنٌ (إذا ما اخلص لرسالة الكاتب المحفورة بداخله بوضوح) والتي يقول لنا عبرها في رسالة كاتب واعد، مُحملٌ بهموم الحياة والبشر، يكتب بحرية وبلا خوف  عن وجعه قائلاً...
"اخلعوا كل ما يقيد الإنسان... كل ما استحدث لينظم أموركم... اخلعوا السلطة... اخلعوا الضوابط الدنيوية والفوقية... انفضوا عن كاهلكم الدين... اتركوا السياسة وكفوا عن كونكم مسيسين... امسحوا الحدود الجغرافية... عيشوا الحياة بلا وصاية و خضوع لإرادة أحد."
*******************


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق