السبت، 4 أغسطس 2018


الحور العين مكانهن المطبخ
قراءة في مجموعة "الحور العين تفصص البسلة" لصفاء النجار
بقلم: أحمد إبراهيم أحمد
وصف المطبوعة
مجموعة قصصية بعنوان (الحور العين تفصص البسلة) للكاتبة صفاء النجار من مطبوعات روافد للنشر والتوزيع بالقاهرة، طبعة أولى عام 2017 م في 111 صفحة مقاس A5 تتضمن خمس عشرة قصة قصيرة، ترصد تحولات إنسانية حقيقية ومتخيلة، وعنفاً مادياً ومعنوياً، وصراعاً بين الأجيال، وتعاطفاً مع النساء وما يصيبهن من إيذاء أو إقصاء بحسّ ينضح بالتأمل الساخر من عالمنا وأحداثه، وتتبنى الكاتبة حواراً غير مباشر مع المحكيات الكبرى بدءاً بعنوان مجموعتها القصصية.
المنهج
تحاول هذه القراءة استعراض قصص المجموعة للتعريف بها والإشارة لمحتواها من خلال التفكيك البسيط والمباشر للرموز الفنية، أو الإحالات الأدبية، لتوضيح المحتوى الثقافي والفكري للقصص ومن ثم تحليل مضمون هذا المحتوى من حيث الأبعاد السيكولوجية، والاجتماعية، والعاطفية باعتبارها المحور الرئيس للسرد، وتأثير فكر المحكيات الكبرى على هذا السرد.
المحكيات الكبرى
ظهر مصطلح المحكيات الكبرى narrative Meta /Master-narrative على يد الفيلسوف والأديب الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في كتابه الأكثر شهرة (حالة ما بعد الحداثة The Post modern Condition) عام 1979م واعتبرها في عام 1984 م:
"القراءة الإنسانية لنصوص كبرى، تُفسر التاريخ، وتستند إليها فئة من البشر في بناء مقولاتها، وتعتبرها مرجعها الأساسي النهائي الذي تقوم عليه فسيفساء فكرها."[1]
حيث تبنى ليوتار وجهة نظر ترى أن الحداثة -التي شكّلت جزءا لا يتجزأ من مفاهيم التطور، والتحرر، والتنوير، والماركسية- لا تثق بالمحكيات الكبرى، وأن السرد (الذي هو تشكيل متماسك لعالم متخيل) تحاك ضمنه المحكيات الكبرى، متضمنة صوراً للذات عن ماضيها، تمتزج فيه أهواء، وانحيازات، وافتراضات، ونزعات، وتكوينات عقائدية، يصوغها الماضي بتجلياته وخفاياه، ويساهم الحاضر بتعقيداته في صنعها، فتكتسب طبيعة البديهي، وتتسلل عبر تراكمات متسلسلة حتى تصبح أشبه بالمعرفة القبلية للوعي الثقافي الجمعي، فتوجه، وتقود الوعي الثقافي والحضاري لأمة ما.
أثر المحكيات الكبرى الثقافي على الحور العين تفصص البسلة
يتضح وعي الكاتبة بالتأثير الثقافي للمحكيات الكبرى منذ البداية بعنونة مجموعتها؛ حيث تستحضر (الحور العين) من التراث العقائدي في الفردوس، لتضعهن في البيوت ليمارسن الواجبات الحياتية التقليدية؛ في تباين صارخ بين عالم الآخرة صاخب الألوان والمتع، وواقع الحياة المليء بالمعاناة الذي تعيشه الأنثى؛ حيث تصوّر قصص المجموعة المتفاوت عمقها، حالة الاضطراب النفسي الذي يصيب النساء لأسباب متعددة أبرزها الإحباط الاجتماعي والعاطفي.
1.       الأميبا
تبدأ الكاتبة مجموعتها بقصة عنوانها (الأميبا) والأميبا كائن حي طفيلي وحيد الخلية لا جنس لها، تتكاثر بالانقسام، وتعيش متطفلةً داخل الجسم، وتتميز بقدرة تمديد جسدها وانكماشه، لتأخذ أشكالاً مختلفة؛ دون أن تقدم الكاتبة ما يشير مباشرة للعلاقة بين الأميبا وبطلة القصة، وتترك لذكاء القارئ عقد المقارنة، ولا تتناول في نفس الوقت أي من المحكيات الكبرى وهي تشير إلى قبح الملامح، وتكامل الجسد الأنثوي، وتستند في تبرير تناقض الخلقة لدور الإله الرحيم، والملاك المخطئ، فتستعير من المحكيات الكبرى تصور الخلق، لتفسر به تناقض الواقع بين قبح ملامح الوجه، وسطوة أنوثة الجسد كثنائية تناقض، لا يفارق الوجود الإنساني، تاركة للقارئ أن يستنبط من خلال تراثه المعرفي (أو العقائدي) علاقة السرد القصصي بالمحكيات الكبرى فتقول:
"وجهها المنتفخ كوحمة حمراء بعينين جاحظتين وأنف أفطس، فعاتب الملاك الذي كانت بين يديه ولمسها بيده المباركة، ومنحها ساقين رخاميتين، ومؤخرة مرمرية، وترك الصدر والبطن كما نحتهما الملاك."[2]
نحن أمام حكاية شخصية نحتها سرد الكاتبة بوضوح، لتقدم لنا نموذجاً متكيفاً مع وجوده المتناقض، ويتحقق هذا النموذج فقط من خلال الأنوثة الحقيقية التي تدرك ثراء الجسد، ولا تترك لملامح الوجه أن تهزمها، فتتحول من إنسان لكائن أحادي ذو بُعد واحد بلا عمق ولا اهتمام؛ إلا بجسد يحقق إحساسها بالكينونة، ويشبع المشاعر المحبة للذات بحثاً عن الرضا عن هذه الذات التي تريد الاكتفاء بنفسها حتى تستغني عن الآخر.
2.       في انتظار ما قد أتى!
تحدد الكاتبة زمن هذه الحكاية في شهر يونيو ولهذا التاريخ دلالة لارتباطه بحدث هام (هل تشير إلى أحداث ثورة يناير؟) فتضعنا أمام حالة تنظيم شمولية لا تقبل سوى الطاعة، وتصور لنا عذابات المختلف واغترابه حيث لا تقبل قوى التسلط منه إلا الطاعة التامة في إطار القطيع، والتزام نمط السلوك المحدد لهذا القطيع بلا أدنى تبديل:
" عرف التنظيميون ما مر بخاطر جاري، فانفتحت تحته دائرة جذبته لأسفل، وطواعية تزحزحنا عن أماكننا قليلا ً (بان يمين - بان لفت) وغطينا مكانه، ذهب الرجل إلى حيث يستحق - وترى الجماعة أنه يحتاج - ثم حدثت خلخلة طفيفة في سطح الأرض، وعاد الرجل في الصف بهياً وقد تم تشحيم خلايا عقله، وضبط انعكاسات وجهه."[3]
لكن هناك دائماً ما يخرق النظام الموضوع الذي يأتي هذه المرة من عجوز ليس بينها وبين السماء حجاب:
" ما أدى إلى انفلات الآمر هو أن غيمة كبيرة ظهرت في السماء وأظلتنا جميعا وكان مركزها السيدة العجوز، في البداية لم ننتبه، ثم أدركنا، وأيقنا، فإذا بالانتظار يذوب،يتلاشى، ومن شيء عميق في اللاوعي خررنا للسيدة سجداً وزهورنا جاثية نحوها."[4]
نتيجة لذلك يأتي المنتظر في لحظة لا يجد فيها أحد ممن يجب أن ينتظروه ونتيجة لتواصل البعض مع السماء حين تحررت أرواحهم بالصلة بها، فتفشل ترتيبات النظام الذي يرتب استقبالاً آخراً لكن يعلن صوت طفل بريء أن "الملك لمنتظر عار" في صوت أكبر من الفضيحة ومن السمع والطاعة، فتفشل ترتيبات النظام مرة أخرى، فيعد استقبالاً ثالثاً لا تستطيع (الساردة العليمة) أن تتحمل إجراءاته، فتتحول إلى طير يتحرر من إنسانيته المحبوسة في قواعد (النظام) وتطير:
"حزينة كنت، ينخر البرد عظمي، لكني حلقت بعيدا، فيما أخذ غراب أسود، ينعق منذراً بقية الطير مما قد أتى."[5]
نبوءة كفاكاوية وتوقع قاس للواقع؛ لكنه موضوعي للأسف حيث يتداخل الواقع بالهلاوس، وتلتبس علاقات المُنظم، بالمنتظم في عوالم غريبة مفككة، ويتواصل استكشاف الانفعالات المتناقضة من صبر وانتظار وقبول يغلفه الإيمان بواقع غير منطقي.
3.       في انتظار من قد يأتي
يذكرنا مفتتح هذه الأقصوصة بقصيدة صلاح عبد الصبور "يوميات نبي مهزوم يحمل قلماً، ينتظر نبياً يحمل سيفاً" في مسرحيته (ليلى والمجنون) حيث تقول الكاتبة:
" استدعوه، صلوا من أجل أن يأتي، استجمعوه من يقظة  الأمهات المصلوبات على الكراسي ليلة امتحان الأولاد، من لقمة تخرجها أم من فمها قبل أن يكمل طفل عبارته وهو ينظر للطبق الفارغ إلا من آثار ملح وزيت: هي البطاطس خلصت؟ من قبلة يطبعها عامل على ظاهر كفه وباطنه بعد تناوله ثلاثة أرغفة وبجنيهين طعمية، من طقطقة عظام الشيالين في محطة مصر.... استدعوه من غار حراء، من جبل الجليل، من البرية، من غياهب الجب، من بطن الحوت، رتلوا صلوات، وأدعية المطر."[6]
لكن المنُتَظَر جاء أخيراً.:
" عندما لم يعد هناك صراع بين النور والظلمة، أو الخير والشر، وأضحى الصراع بين الباطل والباطل"[7]
فهل حقق ما ينتظره المنتظرون؟
"انتظر منهم " امض لما أُمرت به فنحن معك"  قالوها في الميادين وعلى المقاهي، وعند الفعل جلس الكل على صفحات الفيس بوك وأمام كاميرات السي. بي. سي والنهار!"
لقد خذلوا أنفسهم حين خذلوا المنتظر، ومن ثم:
"لما لم تتغير الدنيا، أنكروه، تهكموا عليه، غامت الدلالات، حملوه كل الأوزار، أبلغوا عنه، صلبوه، واتخذوه هدفاً كي يعلموا أولادهم الرماية.في المساء عادوا وأحرقوا البخور وأضاءوا الشموع كي لا تتوه روحه عنهم، وجلسوا يتسامرون في انتظار من قد يأتي." [8]
تدين الكاتبة الجموع التي تخون أحلامها، وتظل تحلم بالمخلص الذي لا يجيء، وإن جاء فهم على استعداد لخيانته وخيانة أنفسهم بالتواكل... قراءة أخرى كفكاوية للواقع لكنها للأسف صادقة رغم كونها صادمة.
4.       الأيام التي لا تطيب
تعاود الكاتبة بدء قصتها بتحديد زمن للفعل السردي مما يشير إلى أهمية الزمن بالنسبة لها حيث تبدأ قصتها بشهر سبتمبر الخريفي المنذر بالموت:
"مضى سبتمبر[9]، مضت الأيام التي تأمن في أوقاتها من قيظ الصيف وبرودة الشتاء، وهي امرأة وحيدة تلتحف بظل "كافورة" عتيقة دائمة الخضرة. من شرفتها تتابع العمال الذين يقلمون الأشجار المغروسة في جزيرة الطريق أمام بيتها."[10]
 ورغم ذلك تتحسر عليه كونه شهراً محايداً، تأمن فيه من قيظ الصيف وبرودة الشتاء، لتأخذ في سرد يشبه المونولوج الداخلي؛ حيث يقوم السارد العليم بسرد مشاعر بطلة القصة نيابة عنها:
" يتصاعد الإيقاع الحزين، يعيد لها صدى ذكريات نسيتها، أو تناستها، لكنها تطاردها كل ليلة، تذكرها بنفسها في أحلام غير مكتملة، شيء ناقص، مبتور، غائم، موعد دواء، شعلة بوتاجاز تركتها مشتعلة، طعام يجب وضعه في الثلاجة، يتردد صدى الحلم في نفسها ما الذي كان عليها فعله ونسيته؟"[11]
وتظل البطلة في شجن ممتزج بالحلم والأمل في عالم أفضل رغم السرد الذي يجسد عدم التحقق الإنساني، والتوحد مع شجرة، وتبادل لمشاعر الذاتية معها عن حب لم يكتمل، ورحلة قطار لم تتم؛ حتى تصل لختام قصتها حيث:
"يأتي أكتوبر، فيطيب البلح، لكنها الأيام لا تطيب."[12]
5.       العطية
تسرد لنا الكاتبة حكاية أسرة صغيرة من الغجر الرحل بين الموالد تسحر صورة السيدة العذراء النورانية الابنة فتترك أسرتها تاركة حرقة الفقد في قلب الأم، وشعوراً مرتبكاً لدى الأب الذي لم يشعر تجاهها بالحب منذ مولدها، وتستغرق الكاتبة في سرد مشاعر الأم لتنهي القصة بتوضيح لجوء الابنة للإقامة جوار رهبان كنيسة حيث تحاول القصة الربط بين مشاعر الإيمان في العقائد المختلفة، ثم موت الأب في سرد يحاول أن يبدو واقعياً أو ربما يستند لحكاية حقيقية لكنه لم يكن بالفنية التي تحقق الهدف.
6.       ومن أَحْياها
تتناص الكاتبة في هذه القصة مع الخليل بن أحمد الذي قال:
"الرجال أربعة رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه."[13]
"فتقول: "النساء أربع امرأة تدري وتدري أنها تدري فتلك عالمة فاتبعوها، وامرأة تدري ولا تدري أنها تدري فتلك نائمة فأيقظوها، وامرأة لا تدري وتدري أنها لا تدري فتلك مسترشدة فأرشدوها، وامرأة لا تدري أنها لا تدري فتلك جاهلة فارفضوها."[14]
وهي بذلك تنطلق من موقف نسوي تناقض به التراث الشعبي، وترفضه حين يقول: " النــــساء أربع فامرأة تدري وتدري أنها تدري فهذه مصيبة فاجتنبوها، وامرأة تدري ولا تدري أنها تدري فهذه حلوة بلهاء فطاردوها، وامرأة لا تدري وتدري أنها لا تدري فهذه غبية وقبيحة فاطردوها، وامرأة لا تدري ولا تدري أنها لا تدري فهذه لقطة العمر فتزوجوها."
وتقتبس من الحديث النبوي، والقدسي في مناجاة الذات والذات اللتان تتحاوران حول قضايا وجودية وما ورائية بحثاً عن التحقق فيما يشبه الديالوج الذي يحول السرد من صيغة القص إلى ما يشبه نصوص الحكمة والتأمل مما يُفقد النص نوعه الأدبي.
7.       اكتشاف
تقول لنا هذه الأقصوصة المحبوكة بأناقة أن حور عين الدنيا لن يكن سوى خادمات في بيوت الأثرياء وإماء جنسيات لهم في الدنيا كما الآخرة، وأن الفقر وصمة لا يمحوها جمال، وأن ميراث عبودية المنتج الثري لجسد الأم سترثه الابنة؛ حيث أسرة مكونة من أب مقعد، وأم وابنة يعيشون في كوخ على هامش شركة إنتاج فني يستغل المنتج الأم جنسياً رغم عنته، ويرفض أن يمنحها فرصة عمل شريف، تُدر عليها ولو مائة جنيه، تُساعدها على مواجهة أعباء الحياة، بينما يتصيد الابنة شاب سلفي، يبدل حياتها، وتنتهي القصة نهاية مفتوحة فلا نعرف من سينتصر... الشاب؟ أم رغبة الأم في تحويل ابنتها لنجمة؟ أو في الحقيقة خادمة منزلية وجنسية أخرى للمنتج.
8.       الشبكة العنكبوتية
تمزج الكاتبة في هذه القصة بين عالم الإنترنت الافتراضي والواقع؛ ممثلاً في المنتزه المائي (أكوا بارك) والمنزل الذي يحتمل وجود عنكبوت فيه حيث تحكي حكاية كاتبة صحفية تستعد للسفر إلى فرنسا، وتعد رسالة دكتوراه، وتناقش أساليب الرجيم والتخلص من الوزن الزائد، وتفاصيل الحياة الأخرى لتقول لنا أن الشبكة العنكبوتية ليست الإنترنت ولكنها الحياة التي نعيشها.
9.       اللعنة
تنحو هذه القصة منحى المونولوج حيث تتناول الكاتبة في تناقض غريب حياة زوجة أب وابنة زوج يعيشون في سيرك متنقل، حيث تشعر زوجة الأب بالذنب كونها لم تهتم بابنة الزوج، وتستخدم حادثة عابرة هي تنظيف رأس الابنة من القمل لتعبر عن مشاعر مكبوتة وغير معتادة عند زوجات الآباء في مونولوج مع الذات يتناول تفاصيل الحياة العادية.
10.   الحور العين تفصص البسلة
تحمل المجموعة عنوان هذه القصة (وهو عنوان إشكالي يعيد تذكيرنا بالخلاف بين الدكتور طه حسين ويوسف إدريس حول عنوان مجموعة الأخير أهو أرخص ليال؛ أم أرخص ليالي؟)
حيث ترسم الكاتبة في مجموعتها هذه عالماً غرائبياً، يستند على مفردات المحكيات الكبرى تقود أحداث هذا العالم امرأة تعاني من ازدواج الشخصية، تحاول أحد الشخصيتين أن تكون منضبطة السلوك، بينما  تنطلق الأخرى مهومة في عوالم  جامحة من الخيالات، متمردة على الواقع الذي لا يرى في الإناث سوى أدوات جنسية كخادمات فراش أو خادمات بيوت، وتحاول كل شخصية من هاتين الشخصيتين أن تسيطر على الواقع بمنطق مغاير للأخرى، وتخضع هذا الواقع لقوانينها التي تقع بين الحقيقة والتوهم؛ لكن ينتصر الواقع الصلب على رغبات التحرر بكل غرائبيتها، فبعد أن تحول كل الإناث لحوريات عين، يعدن زوجات تقليديات حين يعدن للواقع، مطالبات بكل المهام التقليدية التي يفرضها المجتمع على المرأة:
" تحول لون الحوريات، وفقدن بهاءهن السلفي وكلما حاولن إفهام أزواجهن، كانوا لا يستمعون إليهن، وكان كل ما يرغبون فيه هو الغنج الجنائي أيام الأحد والخميس."[15]
11.   فيلم لأمي
يعتبر هذا النص السردي من أكثر نصوص المجموعة تركيباً وغوصاً في مجاهل النفس الإنسانية حيث يتناول العلاقة بين المرأة والشاب بما في هذه العلاقة من مساحات أوديبية مسكوت عنها في هذا النوع من العلاقات:
"تقبلني في فمي، تلحس بلسانها الدافئ طرف حافة شاربي النابت، يزحف لساني.... فجأة تبعدني عنها"[16]
"عند طرف السرير كان أصبع قدمها الكبير ظاهرا، لونه أصفر وظفره مطلي بلون أرجواني، انحنيت على قدمها لمسته بأصابعي كان جافا متخشبا، قربت وجهي تشممته، رائحة عرق وعطن، بلساني تحسسته، باطنه خشن، وظاهره ناعم، بارد، أدخلته في فمي ولم أستطع أن أفلته وبقيت أمصه."[17]
وتتداخل عوالم السرد بين الواقع والخيال، وتهويمات عوالم السينما، وتتكون الشخصيات من تركيبة معقدة حيث هناك زوجة أب تخضع لسلطة الزوجة وابنها، وابن صغير تضحي به زوجة الأب (استحضار لأسطورة ميديا) وتطعمه للزوج، وتدور أحداث القصة في مكانين أحدهما مستشفى القصر العيني الجديد، والآخر غير محدد الملامح فهو أحياناً البيت الذي يتحول لاستوديو سينمائي، وتتمدد الأحداث في الزمن من خلال استحضار الكاتبة نجوم سينما الستينات العالميين، فنجد مارلين ديتريش، وجيمس دين، ومارلون براندو، وكلارك جيبل، يشاركون في أحداث هذه القصة ويتداخل سرد حكايات من الذاكرة مع عوالم مستمدة من بعض الأفلام في محاولة لاستكشاف عوالم وأحلام أولئك الذين يعيشون مستغرقين في مقاومة رغباتهم لتحقيق الحد الأدنى من احتياجات وجودهم، ويحتفظون بهذه الأحلام المولعة بالجمال والتي لا تكف عن الحلم بالخلود من خلال الإبداع الفني وسحره.
12.   فيديو كليب
تستغرق هذه القصة أيضاً في محاولة استكشاف عوالم الحالمين بالخلود المستغرقون في أحلام الإبداع حيث فتاة تعشق الغناء، وتفشل أن تتعلم شيئاً غيرها فتتحول لعاملة مطبعة، وتعمل على تسويق الفن من خلال رجل متقدم في السن تعرفه:
"تضع في الكاسيت شريط كوكتيل  يصعد صوت المطرب الأول يتشنج العجوز ويهتز رأسه بعنف تعتقد العاملة أن العجوز يتمايل انسجاما فترفع صوت الكاسيت، تتفسخ أعضا ؤه، يسقط ذراعه الأيمن، تصرخ البنت، تدور الأغنية الثانية، يتساقط جلد وجهه، عيناه، طاقم الأسنان، تضغط البنت زر الغلاق لكن الكاسيت المتداعي لا يستجيب لدموع البنت التي لم تمر في حياتها بمثل هذه التجربة، وقبل أن تغنى البنت "مضناك جفاه مرقده" كان الرجل قد تكوم تحت قدميها كومة من اللحم المتهرئ الأنسجة، ورائحة النشادر تملأ المكان."[18]
تتحول البنت لمتهمة، وتتعلم الرقص في السجن على أيدييديي يديالضباط لكن تثبت براءتها، وتخرج لدنيا الواقع لتجد نفسها وقد صارت نفسهاوقدنصبحت محوراً للاهتمام ولم يعد الواقع الذي اغتال حلمها في الغناء كما كان بليد:
"لم يعد الرجال المسنون يموتون على أسرتهم وحولهم أبناؤهم وأحفادهم، وابتسامة تكسو وجههم المتغضن، بل صارت وفاتهم انهيارات مفاجئة، وأصبحت رائحة النشادر تسيطر على جو المدينة، ولم يكن أحد يعرف السر، وحدها البنت ربما كانت تعرف. "[19]
13.   نبوءة
تعاني الفتاة سريعة الغضب من رجل "لم يفهم أبداً حبها له" كونه "منضبطاً جداً أكثر من توقيت غرينتش" فتتركه غاضبة بعد خلاف بينهما، وجلست على الرصيف المقابل للفندق توقعاً أن يخرج وراءها أو يتصل بها لكنه لا يهتم، فتتراكم داخلها مشاعر الوحدة والحزن: "ليخرج لها الحزن من مكمنه، فهطلت دموعها، وتعاطف معها المارة ومدوا أيديهم لها بمناديل "كلينكس" كي تجفف دموعها وتفلت من غرق مكتمل الأركان."[20]
لتعيش البطلة مشاعر تتقد بالوحدة والشعور بالفقد، فتعود للفندق لتجده غير مكترث، مندمجاً في التجول بين قنوات التلفزيون، فيزداد شعورها بالقهر "أريد أن تفهمني، أرجوك اشعر بي." وتأنسن الكاتبة الحزن والوحدة ليبدءا في التحاور عما يحدث لها وله، ثم يلتهما روحها، فبقية جسدها دون أن تبدر بادرة إحساس منه بها:
"في الصباح بينما كانت الوحدة تغسل أسنانها، وكان الحزن يتساءل أين القبلة للصلاة؟ كان هو يخرج الحقيبة من الدولاب.وكانت بقعة الدم واضحة على السرير الشاغر، لكنه وضع الحقيبة فوقها بما جعل الحزن والوحدة يقرران الهرب قبل أن يلتهمهما هو.."[21]
14.   سيجارة وأربعة أصابع
اعتمدت الكاتبة في هذه القصة أسلوب السرد التقليدي لحكايات أربعة عادية، يربط بينها تلك المتعة الزائفة للتدخين، وقدرتها على تهيئة المدخن لتجاوز توتره، والدخول لمساحة فعل يهابها كما لو كان لها تأثير المخدر أو المنوم المغناطيسي، فتبدأ القصة المقسمة لأجزاء جزءها الأول بحكاية فتاة تأخر عنها قطار الزواج، وتضطر للعمل في بيئة عمل لا تناسبها، وتستبطن أوجاعها من الحياة والعمل سواءً بسواء، ثم يحكي الجزء الثاني شهوة الموظف الصغير الذي يتطفل على عقب سيجار المدير الذي يضبطه، بينما يتناول الجزء الثالث علاقة شاب بكر ببغي، ومقارنة علاقته الجسدية بها بعلاقته الافتراضية بابنة الجيران، بينما يتناول الجزء الرابع والأخير الخطوات الأولى لداعية إسلامي في دنيا الإعلام التليفزيوني حيث لا يجد نفسه، ويخرج من حالة الارتباك التي تنتابه إلا مع أنفاس السيجارة المميزة من مخرج الحلقة.
15.   قوس قزح
يختفي قوس قزح من البلدة الرمزية اسبراريا في قصة رمزية تشبه حكايات ما قبل النوم، فتختفي كل الألوان من مظاهر الحياة حتى يخُشى على أهل المدينة من الانقراض كالديناصورات، ولا يعود قوس قزح ومن ثم الألوان إلا مع بكاء الطفلة مريم في إشارة بسيطة ومباشرة إلى أهمية التنوع، وأن قمع وجهات النظر يفقد الحياة ألوانها ومن ثم يفقدها الحياة نفسها.
اللغة، وبنية المطبوعة
تتميز المجموعة بلغة رشيقة يمتزج فيها العامي بالفصيح في لغة (بيضاء) سهلة الاستيعاب، وإن كان يعيبها بعض الأخطاء الإملائية والنحوية، وعدم إتقان استخدام علامات الترقيم، وتوجد في النسخة الرقمية أخطاء طباعيه منتشرة للأسف في الغالب الأعم من المنشورات المصرية مثل عدم ترتيب الفصول أو القصص، لتبدأ في صفحات فردية، ويميز السرد غرائبية الأحداث، واختلاط الواقعي بالخرافي والحلمي بشكل يقترب كثيراً من الواقعية الغرائبية السحرية.
البعد السيكولوجي
تجسد صفاء النجار المشاعر الإنسانية باعتبار هذه المشاعر منحازة لغريزة الموت لا لحب الحياة، بتحويلها لصور ممسوخة متوحشة لبشر، أو كائنات حية غير إنسانية، تتفاعل مع بعضها بقسوة، فتغيب العلاقات الإنسانية، وتحضر مشاعر القسوة بما فيها من تبلد وتجاهل وإهمال لمشاعر الآخر - وحتى وجود هذا الآخر - حيث يفقد البشر إنسانيتهم، ويصبحون (زومبي) أو كائنات مصطنعة فاقدة للشعور بالوجود الإنساني، ويؤدون أدواراً مرسومة لهم لا يستطيعون منها فراراً، ظناً منهم أنهم إن حادوا عن المسيرة المرسومة لهم سوف يتم طردهم من الجنة!
فتظل شخصيات السرد تتأرجح بين الأمل والحلم، والكوابيس اليائسة في انتظار متواصل مفعم بالأمل سواء في اليقظة أو النوم؛ فإذا تحققت الأحلام، تتحقق بعد فوات الأوان.
ويميز شخصيات مجموعة قصص (الحور العين تفصص البسلة) ازدواج الشخصية وهو ازدواج واع يختلف اختلافاً كلياً عن الفصام المرضي Schizophrenia حيث الفصام حالة مرضية عقلية ذات منشأ عضوي بينما ازدواج شخصيات المجموعة القصصية نتاج للصدام بالواقع، ومحاولة تجاوز المنطق المعيب لهذا الواقع بالقفز فوق تفاصيله.
البعد الاجتماعي
تتحرر صفاء النجار من الأخلاق الزائفة للطبقة المتوسطة المصرية، ولا تخجل من الحديث عن كثير من المسكوت عنه من سلوكيات وعلاقات مشوهة، فتقدم لنا البشر - النساء خاصة- كسلع قيد الاتجار، تباع وتشترى سواء في أماكن العمل وفي عوالم الفن والإعلام، أو في العلاقات الاجتماعية - الجنسية على وجه الخصوص - باسم الحب، ورغم أن الكاتبة لا تشير للبعد الاقتصادي الذي يتسبب في تسليع الإنسان إلا أنها تؤكد وقوع الإنسان ضحية العنف المؤدي للموت، أو القتل المعنوي، واغتيال الروح في أفضل الأحوال، وطغيان مظاهر القسوة والعنف كبديل للسلوك الإنساني كما لا تخجل من تناول العلاقات النفسية المعقدة وربما الشاذة، وتطرحها بشجاعة دون إخلال بقواعد الذوق المتعارف عليها.
البعد العاطفي
تطرح قصص المجموعة حالات توقع وانتظار لإنسان أو مشاعر أو لشيء ما - قد يأتي وقد لا يأتي -  كما تعكس جوعاً وافتقاداً لمشاعر الحب والألفة، وتتناول من خلال التفكير (في هذا المفقود أو المفتقد المادي أو المعنوي) انتقالات عاطفية تبلغ في حدتها وتناقضها، الانتقال من غريزة حب الحياة لغريزة الفناء والذوبان في الموت بحيث نجد تلك الانتقالات حاضرة في علاقات يفترض فيها أنها غريزية.
وتعتمد الكاتبة في سردها على إبراز العواطف في حدودها القصوى (سواءً كانت حباً، أو غضباً، أو كراهية) وتمزجها بأحلام وهواجس غرائبية، تعبر عن كوابيس أو أحلام تجتر مشاعر مكبوتة، وتعكس ما تخبئه النفوس الإنسانية من اضطرابات ومشاعر (الإيجابي منها والسلبي) دون ادعاء لفضيلة كاذبة، أو أخلاق زائفة حيث تعرى المشاعر بصدق دون خجل أو توار وراء أخلاق الطبقة المتوسطة المدعاة.
*****
ختاماً...
نحن أمام كاتبة ذات ثقافة عابرة للتخصص تعرف عن العلوم التطبيقية والإنسانية ما يمكنها من استثمار هذه المعرفة في التعبير السردي بمرونة وتلقائية، تجعل هذه المعارف جزءاً طبيعياً من نسيج السرد وغير دخيلة عليه... فقط عليها أن توكل عملها بعد الانتهاء منه لمراجع لغوي حتى تكتمل أناقة سرد لا تنقصه الأناقة.


[1] منقول عن ويكيبيديا الإنجليزية https://en.wikipedia.org/wiki/Metanarrative
[2] صفاء النجار: الحور العين تفصص البسلة، ص 5.
[3] المرجع السابق: ص 13.
[4] المرجع السابق.
[5] المرجع السابق: ص18.
[6] صفاء النجار: الحور العين تفصص البسلة: ص 19.
[7] المرجع السابق،  ص 21.
[8] المرجع السابق: ص 22.
[9] شهر سبتمبر المنذر بالموت هو شهر موت الزعيم جمال عبد الناصر الذي حدثنا عنه صلاح جاهين في ”أحزان سبتمبرية“.
[10] صفاء النجار: الحور العين تفصص البسلة: ص 24.
[11] المرجع السابق: ص24..
[12]أكتوبر هو شهر العبور والانتصار: المرجع السابق: ص 26.
[14] صفاء النجار: الحور العين تفصص البسلة، ص 42.
[15] صفاء النجار: الحور العين يفصصن البسلة، ص 85.
[16] المرجع السابق: ص 88.
[17] المرجع السابق: ص 94.
[18] المرجع السابق: ص 98.
[19] صفاء النجار: الحور العين يفصصن البسلة، ص 100.
[20] المرجع السابق: ص 102.
[21] المرجع السابق: ص 117.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق