السبت، 4 أغسطس 2018


الكاتب والدولــة
قراءة في علاقة الكاتب المسرحي المصري بالدولة
دراسة بقلم: أحمد إبراهيم أحمد
M
العلاقة بين المثقف العربي والسلطة
بمكن تعريف السلطة Authority بأنها:
"التمكن والاستئثار بالقوة والقدرة على الإجبار نحو اتجاه معين من السلوك الاجتماعي، لإجبار الآخر على ممارسة أو الامتناع عن سلوك ما."
وتدل سياسياً على:
"الأمر والإخضاع اللذان يؤديان إلى علاقات غير متكافئة inequality بين الحاكم والمحكومين."
وللسلطة ثلاث مستويات:
·         أولها: القوة force.
·         ثانيها: القانون law.
·         ثالثها: الشرعية legitimate التي تعتمد مبدأ الرضا العام من معطيات السلطة[1].
والعلاقة بين المثقف العربي (سواء العضوي أو التقليدي) والسلطة علاقة إشكالية ملتبسة منذ قيام الدولة الأموية ودور فقهاء وأدباء وشعراء الدولة في تأسيس شرعية الخلافة الإسلامية، مروراً بالدولة العباسية وازدهار دور الفقهاء والأدباء والشعراء المبني على استرضاء الحاكم، وتأكيد سلطته، ونمو الفرق الدينية، ومحاولات القوميات الفارسية والتركية أداء دور سياسي لإحياء ثقافتها، وظهور المعتزلة والفكر الأشعري، وتطور نظم الحكم وصولاً للزمن الحالي وقد درس هذه الظاهرة مفكرون عرب مثل إدوارد سعيد، ومحمد عابد الجابري، وحليم بركات، ومحمد أركون، وخليل أحمد خليل، وآخرون كالإيراني داريوش شايجان، إضافة لرؤى غربية عن علاقة المثقف العربي بالسلطة والمجتمع، أو ثنائيات المثقف و(السلطة/الحزب/السياسة/الطبقة) وثلاثية المثقف والسلطة والحاكم.
 ولم يكن المثقفين كلهم موالين للسلطة، وقارع السلطة السياسية والدينية عدد من المفكرين، قدموا رؤى تنويرية وتعرضوا للاضطهاد ومصادرة رأيهم مثل سعيد بن المسيب (14-84 هـ) أحد أهم معارضي السلطة الأموية، وصولاً لنصر حامد أبو زيد (1943ـــ 2010 م) الذي حُكم بردّته والتفريق بينه وزوجه جراء مواقفه التنويرية؛ مما يشي ببؤس الواقع، وانفصال بعض المثقفين عن المجتمع، ويدفعنا للإقرار أن الجماهير تصنع التاريخ حيث لا تنتج أفكار النخبة التغيير وإن مهدت له[2].
m
انتشر في مصر قبل القرن التاسع عشر نوعان من الفنون المسرحية أولهما مسرح خيال الظل غير المعروف تاريخ دخوله لمصر، لكن المتفق عليه أنه عُرف في الدولة الفاطمية حيث كان فناً شعبياً بسيطاً رغم أنه نشأ في قصور الحكام والطبقة الارستقراطية لتسلية الصفوة، ثم عرفت مصر خلال القرن الثامن عشر التشخيص المرتجل القائم على نص شفهي يرتجله ممثلون محترفون، تقدمه فرق متجولة بخيام في أماكن مختلفة بالمدن والقرى في مناسبات عامة أو خاصة، ثم تعرفت مصر على المسرح بالمفهوم الغربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر عن طريق التفاعل مع أوروبا ورواد شوام، جاءوا مصر حاملين معهم مفاهيم فنية وثقافة جديدة، ساهمت في تطوير الأشكال المسرحية الشعبية التي عرفتها مصر، فتطور المسرح المصري مع نضج الحركة الوطنية المصرية بعد الحركة العرابية، ثم حصول مصر علي أول نظام دستوري في عهد الخديوي إسماعيل عام 1879 م فرعت السلطة السياسية الحاكمة التجارب المسرحية، ودعمتها وأبرز ما يذكر في هذا المجال علاقة يعقوب صنوع الإشكالية بخديوي مصر إسماعيل في ذلك الوقت.
ورغم تأثر المسرح المصري بانكسار الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي، انتعش النشاط المسرحي حين وفد أبو خليل القباني لمصر، وقدم مسرحاً قوامه التطريب والفكاهة، وحاول عبد الله النديم إنشاء مسرحه الخاص في الإسكندرية في عهد الخديوي توفيق، لكن لم تستمر عروض النديم إذ أغلق رياض باشا مسرحه بعد مشاهدته لثاني أو ثالث عروضه لخطورته علي سلطة الخديوي، ثم تطورت الحركة الوطنية المصرية الليبرالية على أيدي مصطفي كامل، ومحمد فريد، وواكب ذلك ازدهار الفنون ومن بينها المسرح الذي عبر عن الأوضاع والتطورات الاجتماعية، وتحول المسرح لكتيبة وطنية مواكبة للثورة، فاصطدم بالسلطة إذ كانت مفاهيم الحرية كفيلة بإغلاق المسرح الذي ظل تعبيراً سياسياً عن الروح الوطنية.
تفاعلت الحركة الوطنية المصرية خلال النصف الأول للقرن العشرين مع المتغيرات الثقافية، فشهدت مصر نشاطاً مسرحياً، حاول تجنب الاصطدام بالدولة وسلطة الاحتلال حتى عرفت ستينات القرن العشرين فورة مسرحية بعد تبني الدولة للنشاط المسرحي، وانتشرت العروض المسرحية انتشاراً كبيراً بعد إنشاء عدد كبير من المسارح، وتطوير مؤسسات التعليم الفني، وتشجيع التأليف المسرحي، ونقل العروض المسرحية خارج العاصمة ليشاهدها سكان الأقاليم، لنشر مفاهيم التلقي الفنية، وتأسيس وتنمية علاقة المتفرج والحالة المسرحية بمختلف توجهاتها في بقاع مصر.
المسرحيون الشوام في مصر
كتب محمد تيمور في مجلة (السفور):
"أتانا التمثيل من ايطاليا عن طريق سوريا، وأول من جاءنا به قوم من فضلاء السوريين أمثال النقاش، وأديب إسحاق، والخياط، والقباني، وفدوا إلى مصر مقر العلوم والآداب الشرقية، لينشروا فيها بذور ذلك الفن الجديد، وانشئوا بأيديهم فن التمثيل في مصر بعد أن كنا لا نعلم من أمره شيئاً يذكر."
وكما شهد حكم الخديوي إسماعيل إقرار أول نظام دستوري عام 1879 م شهد إلغاءه في 1883 م وتطبيق الأحكام العرفية، كما شهدت ذات الفترة الصدام بين الدولة والمسرحيين الشوام الرواد الذين كان لهم دور فاعل في النهضة المسرحية بمصر خاصة (النقاش–القباني) فقد كان أحمد أبو خليل القباني أحد أهم المؤثرين في الترويج للمسرح في مصر خلال هذه الفترة؛ لكن حين وفدت فرقة سليم النقاش لمصر مثلت عدة روايات في الإسكندرية لاقت نجاحاً، فانتقل إلي القاهرة وقدم مسرحية (الظلوم) عام 1878 م فغضب الخديوي إسماعيل الذي اعتقد أنها نقد لأساليب حكمه فطرد الجوقة من مصر.
أحمد أبو خليل القباني (1833-1903 م)[3]
تعتبر علاقة القباني بالسلطة علاقة مد وجزر من الأوضح فحين جاء الوالي مدحت باشا إلى دمشق، كلفّه بتمثيل رواية ليشاهدها بنفسه، وأمر بمنحه تسعمائة ليرة ذهبية لكن ثار عليه المشايخ لظهور هارون الرشيد على المسرح في شكل أبي حسن في مسرحية (أبو الحسن المغفّل) حتى وصل الأمر إلى إسطنبول (لإيقاف الفسق والفجور) فصدرت الإرادة السنية لحمدي باشا والي دمشق بمنع القباني من التمثيل وإغلاق مسرحه، فهاجر عام 1884 م لمصر بمساعدة أحد الأعيان السوريين في الإسكندرية، فقدم مسرحية (أنس الجليس) ثم (عفّة المحبين) عن الحب بين ولادّة بنت المستكفي وابن زيدون؛ ثم مسرحية (عنترة) فمسرحية الميلودراما سهلة الموضوع (ناكر الجميل) وكانت مسرحية (الأمير محمود نجل شاه العجم) أول مسرحية يؤلفها القباني في مصر، وعرضها في الإسكندرية بعد مرور أسبوعين من وصوله، ثم عرض مسرحية (الشيخ وضاح) انتقل بعدها للقاهرة واستأجر مسرح (البوليتياما) وقدم مسرحيتي (لباب الغرام، وحمزة المحتال) وكانت عروضاً ناجحة فتعاون مع عبده الحامولي الذي حاول الحصول على الترخيص بالتمثيل في دار الأوبرا من وزير الأشغال العمومية التي كانت حكراً على العروض الأجنبية، فرُفض الطلب، فأُحبط القباني لعدم تمثيل فرقته على دار الأوبرا المصرية، وعاد للإسكندرية عام 1885 م وقدم عروضاً ناجحة على مسرح (الدانوب).


سليم النقاش[4]
هو ابن شقيق مارون النقاش أحد رواد المسرح العربي الأوائل وصاحب أول فرقة مسرحية عربية تزور مصر أواخر عام ١٨٧٦ م وحاول بذكاء كسب عطف الخديوي إسماعيل ورجال الدولة، وكان قد زار القاهرة أوائل عام ١٨٧٥ م وشاهد أوبرا عايدة في دار الأوبرا، ولاحظ اهتمام الخديوي بالمسرح، فعاد إلى بيروت وقام بتعريب أوبرا عايدة وطبعها ببيروت في نفس العام، وأهداها للخديوي مع قصيدة مدح وإهداء نثري طويل، فكان للقصيدة والإهداء فضل حصول سليم على الترخيص اللازم له للعمل في مصر.
وليضمن النقاش تأييد الأعيان، طبع ببيروت عام ١٨٧٥ م رواية (مي) التي سبق له تأليفها عام ١٨٦٨ م وأهداها إلى مسيو أنطونياديس أحد أعيان الإسكندرية، ثم كون فرقته المسرحية في لبنان، وسافر بها لمصر بعد حصوله على تصريح الحكومة المصرية للفرقة بالتمثيل في الأوبرا الخديوية في شهر أكتوبر ١٨٧٥ م إلا أن الترخيص تم سحبه لتأخر الفرقة في الحجر الصحي لظهور وباء في لبنان، وعادت الفرقة لمصر في نهاية نوفمبر ١٨٧٦ م وقد تم الإعداد لاستقبال الفرقة، وتجهيز مسرح في الإسكندرية لتقدم عليه عروضها كأول فرقة مسرحية عربية تأتي إلى مصر، ويبدو إدراك سليم نقاش واضحاً لسطوة السلطة وقدراتها على المنع والمنح، وتعامله الحذر والمهادن لها ممثلاً في تملق الخديوي والأعيان، ورغم ذلك لم يستمر نشاط سليم النقاش المسرحي سوى ثلاثة أشهر فقط، ليتحول بعدها من النشاط المسرحي إلى النشاط الصحفي.
مسرح مصر في القرن التاسع عشر
تمرد المصريون على الاستعمار والسلطة التابعة له مع انتهاء الحرب الأولي، وحددوا مطالبهم في الجلاء والدستور، وواكب الحركة الوطنية ازدهار الفنون والآداب ومنها المسرح الذي ارتبط في منتصف القرن التاسع عشر بالنضال الوطني وحاول أن يعبر عن الأوضاع والتطورات الاجتماعية والسياسية في مصر، وكان لا بد من اصطدام المسرح بالسلطة في ظل هذه الظروف والأحكام إذ كان تناول مفاهيم الحرية، والعدل، والظلم، والاستقلال، كفيلاً أن تُغلق مسرحاً، أو تنفي كاتباً، أو تعرّض مسرحيته للمصادرة، فانتعش مسرح الهزل منذ بداية الاحتلال حتى سنوات القرن العشرين الأولي متلازماً مع حفلات الطرب التي شجعها الاحتلال خدمة وإمتاعاً لفلول الأرستقراطية التركية التابعة له.
المصريان... المسلم، واليهودي
المسلم عبد الله النديم[5]
عبد الله بن مصباح بن إبراهيم نديم الإدريسي الحسني خطيب الثورة العرابية وأشهر أدباء مصر وزجاليها، وأحد أشهر المتمردين الذين تحدوا سلطة الخديوي والمحتل البريطاني، وهرب سنيناً طويلة اختبأ خلالها بين جموع البسطاء الذين أحبوه واحتضنوه، وساهموا في إخفاءه عن عيون السلطة.
ويعد النديم من رواد المسرح المصري عامة والمدرسي خاصة رغم أن كثير من المؤرخين والدارسين يتجاهلون أو يتناسون دوره في التأسيس للمسرح المصري في القرن التاسع عشر؛ فقد بدأ نشاطه عندما كان مديراً لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالإسكندرية عام ١٨٧٩ م فكوَّن جماعة للخطابة والتمثيل من الطلاب لتدريبهم على الخطابة، وألف مسرحيتين هما (العرب، والوطن وطالع التوفيق) ومثَّل معهم مسرحية (الوطن وطالع التوفيق) على (تياترو زيزينيا) بالإسكندرية عام ١٨٨١ م والتي نجحت نجاحاً كبيراً، ووصفت ما كانت عليه مصر من فوضى واضطراب، ونبَّهت للعيوب الاجتماعية والسياسية، ثم حاول النديم إنشاء مسرحه الخاص بالإسكندرية في عهد الخديوي توفيق، لكن لم يدم نشاطه المسرحي طويلاً لما عُرف عنه من تمرد، وصلته بالحركة العرابية، ومواقفه النقدية للسلطات الحاكمة التي كانت تترصد المتغيرات التي تشير إلى كل ما يهدد وجودها؛ لذلك أغلق رئيس الوزراء رياض باشا مسرح النديم بعد مشاهدته لثاني أو ثالث حفلة من عروضه "لخطورته علي سلطة الخديوي.".
اليهودي يعقوب صنّوع[6]
ولد عام 1839 م بحي باب الشعرية الشعبي في القاهرة، وكان والده مستشاراً للأمير يَكَن حفيد محمد علي باشا، وكتب يعقوب في الثالثة عشرة من عمره قصيدة مدح فيها يكن فأعجب به، وبعثه لدراسة الفنون والآداب في إيطاليا على نفقته، فقضى ثلاث سنوات ثم عاد ليُعين عام 1868 م مُدرساً في مدرسة الفنون والصناعات بالقاهرة، وعضوا في لجنة امتحان المدارس الأميرية، وكان ملماً باللغات العربية والعبرانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية، والأسبانية واليونانية والروسية والبرتغالية!
فكر في تأسيس مسرح مصري متأثرا بما رآه في إيطاليا، واستفاد بمعرفته لطوائف المصريين في رسم شخصيات كوميدية في مسرحيات قصيرة، ألفها وعرضها في قصر الخديوي إسماعيل، وظهرت النساء لأول مرة على خشبة المسرح في فرقته، ثم أنشأ فرقة مسرحية عرض مسرحياتها في حديقة الأزبكية نجحت نجاحاً كبيراً.
شهدت بدايات يعقوب صنوع مسرحاً طابعه التسلية والترفيه، فلقي استحسان وتشجيع الخديوي إسماعيل الذي أطلق عليه لقب (موليير مصر) وسمح بعرض مسرحياته على مسرحه الخاص في قصر النيل، فعرض ثلاث مسرحيات كوميدية هي (آنسة على الموضة - غندورة مصر - الضرتان) أُعجب بهم الخديوي، فسمح له بعرض مسرحياته على عامة الشعب، فعرض أكثر من مائتي ليلة لاثنين وثلاثين مسرحية ألفها، حتى سقط سقطته الدرامية التي جلبت عليه غضب الخديوي بعرض مسرحية (الوطن والحرية) التي سخر فيها من فساد القصر، فاعتبرها الخديوي مساساً به وبحكمه وحاشيته، وانتقاداً لسلطته الفردية، وتعريضاً بالقهر الاجتماعي، والانهيار الاقتصادي للبلاد في عهده، فأغلق مسرحه، ونفاه إلى فرنسا فاستقر في باريس حتى آخر حياته.
مسرح مصر في القرن العشرين
أصر المسرحيون الجادون مع مطلع القرن العشرين أن يكون لهم مسرح يعبر عن الروح الوطنية، فأصبح المسرح من قوى التعبير عن ثورة 19 فبلغ عدد المسرحيات الوطنية من أوائل القرن حتى عام 1907 م ثلاثمائة مسرحية منها مسرحيات (دنشواي) لحسن رمزي، و(في سبيل الاستقلال) و(شهداء الوطنية) لفيكتور ساروديان، وتناولت مسرحيات عديدة سيرة الزعيم أحمد عرابي مما دفع السلطات عام 1909 م لحظر تمثيل شخصيته بعد أن استشعرت خطراً يتهددها من تقديم شخصيته على المسرح، وأخضع المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر المسارح لقانون المطبوعات الذي تخضع له الصحافة، وبلغت صرامة الرقابة حد مصادرة عشرات المسرحيات دفعة واحدة[7].
ونتيجة شعور الحكومة بخطورة المسرح وأثره في دفع الناس للثورة، قررت عام 1919 م مراقبة المسارح، وأخذت ترسل الخفراء والبوليس السري للمسارح تحت إمرة مأمور القسم الذي يقع المسرح في دائرته، لمنع الممثلين من تمثيل مسرحيات غير مُصرّح بها، أو إلقاء خطب يعاقب عليها القانون؛ ورغم ذلك تضمنت مسرحيات دعوات للمساواة والمطالبة بالدستور كمسرحية (أبطال الحرية) لأنطون يزبك و(فتاة الدستور) لنجيب كنعان و(الدستور العثماني) لمحمود زكي ومسرحيات أخرى مرت تحت عين الرقابة محدودة الثقافة وهي تجابه المد الوطني الذي أنتج ظاهرة مسرحية مرتبطة بثورة 19 ثم تولدت حركة سعت لتخليص المسرح من الهزل، ونقله لمجالات تعبير فني وفكري أنضج علي يد جيل من المسرحيين المثقفين أمثال جورج أبيض، ومحمود تيمور، وعبد الوارث عسر، وزكي طليمات، وفرقة أنصار التمثيل التي أسسها عبد الرحمن رشدي وغيرهم.
الستينيات والتغير النوعي في المسرح المصري
عاش المسرح المصري مد وجذر حتى عرفت ستينات القرن العشرين فورة مسرحية، شهدت انتشاراً كبيراً للعروض نتيجة تبني الدولة للنشاط المسرحي بإنشاء عدد كبير من المسارح، وتطوير مؤسسات التعليم الفني مثل معهد الفنون المسرحية، ومعهد السينما، وتشجيع التأليف المسرحي بين الكتاب المصريين، ونقل غالبية العروض المسرحية خارج العاصمة القاهرة ليشاهدها سكان الأقاليم دعماً لنشر مفاهيم التلقي الفنية، وتأسيس وتنمية العلاقة بين المتفرج والحالة المسرحية بمختلف توجهاتها ومدارسها الفنية، هذا ولم يحدث التغيير في المسرح إلا بعد ما يقارب العقد من قيام ثورة 23 يوليو باستعادة المواسم المسرحية شبه المنتظمة، والعمل على مشروع المسرح التجريبي، وإنشاء مسارح متخصصة كمسارح (الطليعة والجيب والحكيم) ومحاولات استعادة الكوميديا الراقية بإنشاء المسرح الكوميدي، ومسرح التليفزيون، وتشجيع جيل جديد من كتاب المسرح، يؤكد الهوية الوطنية، وابتعاث الدولة عدداً من المسرحيين الشباب لبعثات للدول المتقدمة مسرحياً حتى يستفيد الكتاب الجدد من التجارب الغربية الحديثة في تجديد المسرح المصري.
وينسب فضل إرساء قواعد التحديث في هذه الفترة لثروت عكاشة وزير الثقافة (العسكري المثقف)! الذي أنشأ أكاديمية الفنون عام 1959 م بمعاهدها الفنية المتخصصة المختلفة، وتعاون مع بعض الدول الأجنبية لاستقدام أساتذة للتدريس في أكاديمية الفنون، وشجع تمثيل مصر في المهرجانات العالمية، وهو من أرسل البعثات الخارجية لدراسة الفنون، وزود أكاديمية الفنون والمسارح بالمعدات المتطورة باهظة الثمن من أفضل الماركات العالمية.
وشهدت مصر في حقبة الستينات نهضة فنية ومسرحية، فرصد مسرح هذه الفترة الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر وعبر عنه في إطار حلم ثوري مشروع، فعرض في هذه الفترة مسرحيات ناضجة كمسرحية شهر زاد لتوفيق الحكيم، التي كانت نصا طليعياً سنة 1934 م ومسرحية النار والزيتون لألفريد فرج، وثورة الزنج لمعين بسيسو، ومسرحيات مأساة الحلاج، والأميرة تنتظر، ومسافر ليل، وليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور، والهلافيت، وليالي الحصاد، والغرباء لا يشربون القهوة، وأرض لا تنبت الزهور لمحمود دياب، وآه يا ليل يا قمر، وياسين وبهية لنجيب سرور، ومسرحية المخططين، والفرافير، والمسرحية الذهنية الجنس الثالث ليوسف إدريس، وكوبري الناموس لسعد الدين وهبة، والناس اللي فوق، والناس اللي تحت، وعيلة الدوغري لنعمان عاشور، والناس اللي في السماء الثامنة، وولا العفاريت الزرق، والرجل اللي ضحك على الملائكة، وأنت اللي قتلت الوحش -كوميديا أوديب- لعلي سالم، ومسرحية ليلة مصرع جيفارا لميخائيل رومان التي يتضح فيها استفادته من أعمال بيتر فايس والتي استطاع رومان فيها أن يتحرش بعقل الجمهور ونقله من حالة المتفرج المستهلك إلى شريك مسئول ومدان بصنع الواقع، وعبد الرحمن الشرقاوي ومسرحيتيه الرائعتين (الحسين ثائراً) و(الحسين شهيداً) اللتين حارب الأزهر لمنع عرضهما بحجة عدم جواز تجسيد شخصية سبط الرسول r وكل هذه الأعمال غيض من فيض مسرحي ثري ساد مصر في هذه الفترة[8].
أصبحت العلاقة بين الدولة والمسرح عبر مؤسسات الإنتاج المسرحي أملاً حقيقياً للمسرحيين وللدولة لاستعادة الوعي، وتأمل ملامح التغيير السياسي والاجتماعي التي تشهدها مصر من خلال تجارب مسرحية حاولت المزج بين الموروث والمعاصر في مرحلة شهدت تجديداً واضحاً في فكر وبنية المسرح المصري وشكلت ثورة مسرحية، وتعد سنة 1962 م بداية التجديد حين رحبت وزارة الثقافة بتقرير سعد أردش عن تجربته في بعثته بأوروبا والذي أوضح فيه تجارب المسرح الطليعية، فأُنشئ مسرح الجيب، ووضع هدف أساسي له ليتتبع الفكر المسرحي منذ بداية المسرح الإغريقي حتى التجارب المعاصرة في ضوء التزام اجتماعي للمبدع بالمناخ الاشتراكي للدولة وأن يظل مفهوم الفنان مصرياً وقومياً.
نماذج من كتاب الستينات
نعمان عاشور
رأت عيناه النور عام 1918 وغادر دنيانا سنة 1987 م وأكمل دراسته عام 1942م بكلية آداب جامعة فؤاد، واتصل بالحركة الأدبيـة التي اهتمت بمشكلات المجتمع أعقاب الحرب الثانية، وشارك في الحركة السياسية النشطة قبيل وبعد ثورة يوليو، فبرز اسمه بين كتيبةٍ من الأدباء والمثقفين الشباب في الخمسينات والستينات، وأصبح من أهم كتاب الدراما الواقعية على مدى ربع قرن وواحداً من أهم الذين أثروا الحركة المسرحية في هذه المرحلة، وعمل سكرتيراً صحفياً لوزارة الثقافة مع الوزير ثروت عكاشة، ومحرراً بدار أخبار اليوم، وانتخب عضواً في لجنتي القصة والمسرح بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب في عام 1968 م وتعتبر مسرحياته من أهم ما أنتجه المسرح المصري والتي من أبرزها مسرحيات (المغماطيس - الناس اللي تحت - الناس اللى فوق - حملة تفوت ولا شعب يموت - سيما أونطه - عيلـة الدوغرى - عطوة أفندي قطاع عام - ثلاث ليالي - الجيل الطالع - سر الكون - يا حلم يا مصر - صنف الحريم- وابور الطحين- بلاد بره- بشير التقدم– برج المدابغ) ويري نعمان عاشور أن المسرح المصري الجاد انهار في السبعينات وتحول لدار للمناسبات للإضحاك والتسلية، كما أن جيل الستينات توقف عن الإبداع في السبعينات، فلم يقدم يوسف إدريس ولا سعد الدين وهبه جديداً، ومات محمود دياب ونجيب سرور قهراً.
محمود دياب... العبقري الذي نسوه.
كاتب مسرحي كبير ونموذج للإخلاص المهني والإيمان بما يكتب وبدور الفنان في تغيير الواقع، وتطبيق قناعاته في حياته وفنه، مما أدى به لنهاية رافضة عنيفة، والانسحاب من واقع خان تطلعاته لصنع حياة أفضل، وُلد في الإسماعيلية، وانتقل للقاهرة، وحصل على ليسانس الحقوق عام 1955 م وعمل بالثقافة الجماهيرية بوزارة الثقافة وكان أحد أهم الفاعلين بها، وكان قد عُيِّن نائباً بهيئة قضايا الدولة، وتنقَّل بين الوظائف القضائية حتى وصل لدرجة مستشار، وتعتبر مسرحيته ليالي الحصاد أحد شواهد شاعريته وأصالته، فقد حققت جدلاً كبيراً، ونجحت نجاحاً مدوياً في مصر وخارجها مثلما حدث في الأردن حين أخرجها المخرج حاتم السيد، ولاشك أنها مسرحية واضحة غامضة، مزجت إبداعياً وتقنياً بين التراث الشعبي المصري، وتقنيات المسرح الغربي المبتكرة.
ويظل اقتراب محمود دياب من حالة التشخيص المسرحي الشعبي اقتراباً جمالياً مختلفاً لم يحقق المسرح المصري -حتى الآن- إنجازاً مقارباً له فقد حقق المزاوجة بين التراث والتجديد دون أن يغفل القيمة الفنية والتواصل مع الجمهور دون أن يدعي ذلك، وتبنى مسرحاً للفلاحين حقق التداخل بين الفن والحياة، وبين تأثير كلاهما على الآخر بحدث درامي يضع يده على نبض حياة قرية مصرية، ونقل هذا النبض على المسرح في قالب يستلهم السامر والتراث الغربي معاً في تجديد يستفيد من منهج بيراندللو، وكسر الحائط الرابع في تجربة متجاوزة للواقعية، تعتمد التراث الشعبي مدخلاً للتطوير خفف من غرابة التقنية المستوردة، ومفاجأة الجمهور بجماليات جديدة عليه.
وتعتبر سيرة محمود دياب نموذجاً لعلاقة الكاتب بالسلطة التي تدعمه حين يتواءم مع مطالبها، وتهجره وتقتل مشروعه الإبداعي حين تختلف معه؛ فقد توفي في 25 أكتوبر 1983 م بعدما عاش نهاية عمره منسياً في الإسماعيلية البلدة الصغيرة على شاطئ قناة السويس؛ مصاباً بالاكتئاب من حزنه على ما آل إليه المسرح المصري، وتجاهله من السلطة التي تنكرت لكل ما يمت بصلة لمرحلة من أزهى مراحل الثقافة العربية.
نجيب سرور... وعي جارح، وموت مؤجل.
عاش نجيب سرور حياة مناضل مليئة بالأحداث وهو الشاعر الصعلوك، والمؤلف الدرامي الفذ، والمخرج والمُنظر المسرحي، والممثل الفنان الإنسان، فظل صوته حاضراً وهو غائب خارج مصر، أو في معتقلاتها، وحتى بعد الموت، وفي يوم الحادث الشهير الذي استخلص فيه الكاتب فايز حلاوة والفنانة تحيه كاريوكا طفله شهدي من بين يديه وهو في حالة انفعال شديد أمام مسرحهما، كان جالساً قبلها بلحظات مع كاتب هذا المقال على مقهى ريش، يحكي كيف أن: "ولاد الكلب عطشوني في يوليو... والبني آدم بيفقد حواسه مع العطش... بعد شويه ما يشوفش، ويعدها ما يسمعش، وبعدين يفقد الإحساس بالطعم... بعد ما عطشوني أسبوع طلقوني على جردل... جريت عليه ونزلت شرب لما امتليت... بعد ما خلصت اكتشفت إن الجردل كان فيه جاز... مش ميه" وانخرط في بكاء مرير.
وُلِدَ أول يونيو 1932م ليموت في أكتوبر 1987م بمضاعفات مرض السكر والحياة عن عمر يبدأ فيه ناس حياتهم وهو من بدأت مواهبه صغيراً، وبرزت ميوله المسرحية في مطلع شبابه، ليترك دراسة الحقوق سنة تخرجه، ليلتحق بمعهد التمثيل، ويتخرج عام 1956م لينضم لفرقة المسرح الشعبي، وكان مديرها يحي حقي المثقف المرموق الذي شجعه فانغمس في المسرح الشعبي بحماس تأليفاً، وإخراجاً، وتمثيلاً، وكان مقاتلاً بطبعه، فاصطدم بالعديدين ممن أخرجوا مسرحياته؛ فقد كانت له وجهة نظر شديدة الخصوصية حيال هذه الأعمال، وبقى طوال عمره يقاتل عن وجهة النظر هذه.
عانى ظروفاً مأسوية في ستينات وسبعينات القرن العشرين لاصطدامه بالسلطة، فاعتُقِل، واضطهد، وطُورد، وفُصل من أكاديمية الفنون التي كان يعمل بها أستاذاً للإخراج والتمثيل، وتشرَد، واُدخل مستشفى الأمراض العقلية وهو ليس بمجنون؛ بعدما شهدت القاهرة نبوغه المسرحي والشعري والنقدي،  كان أحد أهم المسرحيين المتميزين المتمردين خلال فترة الازدهار المسرحي المدهش، فدفع ثمن هذا النبوغ والتمرد ومات منسياً بعدما أثرى المكتبة العربية والعالمية بعدد ضخم من المؤلفات من أهمها مسرحياته النثرية والشعرية ومن أبرزها الثلاثية الدرامية (يسين و بهية - آه يا ليل يا قمر - قولوا لعين الشمس) إضافة لكتاباته الشعرية والنقدية هذا غير أعماله كمخرج وممثل.
علي سالم... المغرد خارج السرب.
وُلد في مدينة دمياط عام 1936 وتوفي يوم 22 سبتمبر 2015 م ألف خمسة عشر كتاباً وسبع وعشرين مسرحية أغلبها كوميدية وهجائية، وبدأ نشاطه بالتمثيل في عروض الهواة بدمياط في خمسينات القرن العشرين، ثم انتقل للقاهرة ليعمل بعدة فرق صغيرة قبل أن يعين في مسرح العرائس، ثم مسئولاً بالمسرح المدرسي، ففرقة الفلاحين... كتب مسرحيته الأولى (الناس اللي في السماء الثامنة) في 1963 ولم تصدر إلا عام 1966 م وهي مسرحية شبه هجائية تروي حكاية كوكب يخضع لسيطرة ملك وطاقم من العلماء الذين يؤمنون بأن الحب مرض يجب علاجه بإزالة غدد الحب من أجسام الأطفال. وينظم الواقعون بالحب انقلابا برئاسة وزير الطب لتلك المملكة، ثم كانت أول مسرحياته التي قدمته ككاتب محترف مسرحية (ولا العفاريت الزرق) ثم عرضت له مسرحية (حدث في عزبة الورد) التي قدمتها فرقة ثلاثي أضواء المسرح، واستمر عرضها أربعة أشهر كانت مفاجئة سابقة من نوعها وقتها، وكانت مسرحياته اللاحقة معنية بالنقد السياسي كمسرحية (الراجل اللي ضحك على الملايكة) 1966 م ومسرحية (أنت اللي قتلت الوحش - كوميديا أوديب) 1968 م والتي رمز فيها لشخصية الرئيس جمال عبد الناصر بشخصية أوديب والتي لم تعرض إلا عام 1972 م على مسرح الحكيم من بطولة كرم مطاوع وفاروق نجيب ورغم أهمية أعماله فلم يشتهر في العالم العربي إلا بكوميديا (مدرسة المشاغبين) الهزلية التي قدمتها فرقة الفنانين المتحدين.
ما لا يعرفه الكثيرون عن علي سالم هو حصوله على منحة فولبرايت التي أثرت كثيراً في مواقفه بعد قضاء فترة مع مفكرين عالميين من بينهم إسرائيليين خلال المنحة، فبرز بدعمه للمبادرة التي قام بها الرئيس السادات، ثم زار إسرائيل سنة 1994 م بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو الأولى، وسرد تفاصيل رحلته ولقاءاته وعبر عن تأييده للتطبيع مع إسرائيل في كتاب (رحلة إلى إسرائيل) وتمت ترجمة الكتاب بعد صدوره في مصر إلى اللغتين العبرية والإنكليزية، ولم يتنازل عن موقفه رغم الإدانات التي نشرت ضده في مصر ودول عربية والتي انتهت بمحاولة فصله من اتحاد كتاب مصر والتي فشلت قضائياً، ولكن الأجواء العدائية تجاهه ظلت سائدة حتى وفاته.
ورغم تماهي موقف على سالم مع الموقف الرسمي للدولة إلا أنها التزمت الصمت حتى أنها منعته من الخروج من مصر عام 2005 م لحضور حفل جامعة بن جوريون بمنحه دكتوراه فخرية في بئر السبع دون أن تعلن سبب المنع، ثم فاز بجائزة الشجاعة المدنية من مؤسسة تراين الأمريكية وقيمتها 50 ألف دولار أمريكي وتسلمها 2008 م بمقر إقامة السفير الأمريكي في لندن.
ألفريد مرقص فرج... اليساري المتصالح.
رائد من كتاب المسرح المصري كانت علاقته بالدولة علاقة شد وجذب ومد وجذر من الاعتقال لسنوات طويلة حتى تقليده مناصب مؤثرة في ثقافة مصر!
ولد عام 1929 م وتخرج من كلية آداب الإسكندرية عام 1949 م وكان ارتباطه باليسار سبباً لاعتقاله أكثر من خمس سنوات من عام 1959 حتى عام 1964 م ومنحته وزارة ثقافة السلطة التي اعتقلته منحة تفرغ بعد خروجه من المعتقل! إضافة لتقديم بعض أعماله مثل مسرحيات (حلاق بغداد) 1963 م و(سليمان الحلبي) 1965 م والتي كانت صيحة غضب وتناوُلاً فلسفياً مباشراً لمفاهيم الحرية والعدالة، ومسرحية (عسكر وحرامية) و(على جناح التبريزي وتابعه قفة) 1969 م و(الزير سالم) 1967 م و(النار والزيتون)1970 م المسرحية الوثائقية شديدة الأهمية التي سجلت الغبن الذي وقع على الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور، ومسرحية (جواز على ورقة طلاق) 1971 والتي ناقش فيها تطور شخصية مناضل وطني، يتحول إلى سلطة رأسمالية، وتقلد بعض الوظائف من أهمها العمل كمستشار برامج لفرق الثقافة الجماهيرية المسرحية، ومستشار بالهيئة العامة للمسرح والموسيقى، ومديراً للمسرح الكوميدي؛ كما عمل بالجزائر من عام 1973 حتى 1979 م مستشاراً لإدارة الثقافة بمدينة وهران، ولإدارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم العالي، ثم محرراً ثقافياً في بعض الصحف العربية بلندن، ونال جائزة سلطان العويس سنة 1992 م وتوفي عام 2005 م عن عمر يناهز الستة وسبعين.
محمد سعد الدين وهبة... ابن الدولة وناقدها.
مؤلف مسرحي وكاتب سيناريو تخرج من كلية الشرطة عام 1949 ثم كلية آداب جامعة الإسكندرية عام 1956 م حيث استقال من عمله كضابط بوليس برتبة رائد، تقلد مناصب شديدة التأثير في ثقافة مصر فقد عمل سكرتيراً لتحرير الجمهورية جريدة الثورة، ثم مديراً لتحريرها، وترأس الاتحاد العام للفنانين العرب؛ كما عمل في وزارة الثقافة،وشغل منصب رئيس مجلس إدارة الشركة العامة للإنتاج السينمائي العربي، ورئيساً لمجلس إدارة دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ثم رئيساً لمجلس إدارة هيئة الفنون، ووكيلاً لوزارة الثقافة للعلاقات الخارجية، ووكيل أول وزارة الثقافة الجماهيرية، وسكرتير المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ونائبا للوزير، ورئيس مجلس إدارة صندوق رعاية الأدباء والفنانين؛ كما انتخب نقيباً للسينمائيين، ثم رئيساً لاتحاد النقابات الفنية، ورئيساً لاتحاد كتاب مصر، وعضواً بمجلس الشعب، ورئيساً لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ورئيساً لمهرجان القاهرة لسينما الأطفال!
ولعل أهم ما ميز مسرح سعد الدين وهبة قبل النكسة استمداد الفعل في مسرحياته من القرية، وتعرية الفساد الإداري والحكومي، ثم تحول بعد النكسة لنقد وتعرية أسباب الهزيمة، فلجأ للرمز بدءاً من مسرحية (المسامير) عام 1968 ثم مسرحية (يا سلام سلم الحيطة بتتكلم) عام 1971 حتى وصلت التعرية لذروتها في مسرحية (الأستاذ) عام 1969 والتي لم تعرض إلا سنة 1981 م.
ورغم كون سعد الدين وهبة  ابناً لثورة 52 لم يصل إلى منصب سياسي يوازي قيمته الإبداعية رغم توليه مناصب إدارية رفيعة ومؤثرة، وأصابه الفساد الذي ندد به في مسرحياته، وتأكد أن الفساد لا ينتمي للماضي بل يرتبط بالحاضر، وكان إخلاصه للنظام غاية أساسية من ذلك التنديد الفني، ومحاولة لإنقاذ النظام من أزماته الداخلية وانحرافه، وبهذا كان سعد الدين وهبة واحداً من الكتّاب الذين أمهلوا الدولة عقداً من الزمن قبل توجيه أسهم النقد إليها سواء كان هذا النقد علانية أو ضمنياً، ولم يلن سعد الدين وهبه أو يهادن حتى أيامه الأخيرة حين أصيب بالسرطان، ليتوفى في نوفمبر 1997 م فقدر له الشعب مواقفه، وكانت جنازته كما لو كان زعيماً شعبياً.
السبعينات وبداية السقوط.
شهدت السبعينات الميلادية - خاصة في نصفها الثاني - تراجع الدولة المصرية عن تبني دور ثقافي، وساد تحجيم دور المؤسسات الثقافية وتصفيتها بحجة هي أن هذه المرافق خاسرة اقتصادياً، فأغلقت مجلات ثقافية، وحُلت مؤسسة السينما، وهيئة المسرح، وبدأ تهميش دور المثقفين العضويين ومن بينهم كتاب المسرح الجاد، ودعم نماذج من أنصاف وأرباع الموهوبين، ينتمون للنظام السياسي الجديد، وظهر جيل الدكاترة كتاب المسرح الذين تخصصوا في تمجيد النظام والترويج لأفكاره، وكتابة مسرحيات للمناسبات، فاختفوا فيما بعد دون أن يتركوا أثراً حقيقياً في الحركة المسرحية أو الثقافة المصرية، وكان أبرزهم سمير سرحان، ومحمد عناني، وعبد العزيز حموده، ورشاد رشدي.
د. رشاد رشدي... الأكاديمي المتفنن.
أستاذ جامعي وكاتب مسرحي يميني تبنى مذهب (الفن للفن) وروج لنظرية (الشكل والمضمون) وكان يعتبر النزاعات التجديدية المتعددة دلالة علي عدم نضج الكاتب المسرحي لأنه غير قادر أن يزاوج بين الفكرة والتعبير أو (الموضوع للشكل) وأن أغلب النقاد حين يتحدثون عن الشكل والمضمون كشيئين منفصلين، يبحثون عن الفكرة التي تقوم عليها المسرحية وعندما يعثرون عليها يعتقدون أنهم عثروا علي كنز، ونفس الحال بالنسبة للقراء والمتفرجين تعجبهم المسرحية التي لها فكرة أما المسرحية التي ليس لها فكرة فهي في نظرهم مسرحية تافهة، وعاش متوارياً في الستينات رغم كثافة إنتاجه في هذه المرحلة من المسرحيات التي يمكن وصفها بأنها متقنة الصنع (الفراشة 1960- لعبة الحب 1960- خيال الظل 1965- بلدي يا بلدي 1968- نور الظلام 1968م) ثم انتشر في سبعينات القرن العشرين رغم أن إنتاجه لم يتجاوز ثلاث مسرحيات هي (محاكمة عم أحمد الفلاح 1974- رحلة البحث عن الله 1975- عيون بهية 1976 م) نتيجة نمو صلته بزوجة الرئيس السادات التي كانت طالبته الجامعية، فصعد نجمه، وعمل مستشاراً للأدب للرئيس! وعين عام 1975 م عميداً للمعهد العالي للفنون المسرحية، وعميداً للمعهد العالي للتذوق والنقد الفني، ورئيساً لأكاديمية الفنون، ومديراً لمسرح الحكيم، ونُفذت مسرحياته مثل (محاكمة عم أحمد الفلاح) على أكبر مسارح الدولة حتى اختفى تماماً من الساحة الثقافية بعد اغتيال السادات.
هو درس سبارتاكوس... تعلموه.
تتعامل مؤسسات السلطة مع المثقفين والكتاب منهم خاصة بمبدأ (الليمونة المعصورة) فهم معنيٌ بهم طالما كانوا قيد الفائدة، ويتم إلقائهم في سلال التجاهل والإهمال بمجرد انتهاء أدوارهم، ومن يتمرد سيتم قمعه، لذلك يُهزم الكثيرون، ويتحولون تحت تأثير الخوف والقمع السلطوي إلى خونة لمبادئ آمنوا بها يوماً  - كما جاء في كتاب المفكر الكبير إدوارد سعيد (خيانات المثقفين) - حيث يتحوّل كثير من المثقفين من اليأس وغياب الأمل، وانعدام الحقوق الديمقراطية، وبطش الدولة الأمنية لمتطرفين دينين أو دوجما عقائديين؛ مما أدّى إلى انهيار شرعية الفرد المبدع، وضياع حقه في المواطنة والعيش الحرّ، دون تهديد من السلطة؛ فأصبح العالم العربي يعيش الخزي من انتهاكات السلطة، وصمت المثقفين خوفاً من مصيرٍ غامض لا حل حقيقي لمواجهته إلا بالاحتجاج القوي عليه[9].

وليس العرب استثناءً
فقد عاش كثير من الكتاب والمثقفين العالميين مأساة العلاقة مع السلطة - لا يتسع المجال لذكرهم هنا - لكن ربما كان نموذج  الشاعر والكاتب المسرحي والروائي التركي الشهير ناظم حكمت معبراً عن العلاقة الملتبسة بين الكاتب والسلطة، فرغم ولادته لعائلة ثرية، عارض الإقطاع التركي، وشارك في حركة أتاتورك، ثم اختلف مع الدولة، فتمت محاكمته وسجنه ثمانية وعشرين عاماً بسبب كتاباته، واستُدعي للخدمة العسكرية وهو في الثامنة والأربعين من عمره؛ فهرب للإتحاد السوفييتي، فمنعت أشعاره في تركيا إلى أن أعيد الاعتبار له بعد موته! لذلك يقول لنا الواقع أنه رغم تبنى بعض المثقفين المزج الأوّل من قصيدة أمل دنقل (كلمات سبارتاكوس الأخيرة) الذي يقول:
المجد للشيطان... معبود الرياح
من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال "لا" فلم يمت
وظلّ روحا أبديّة الألم.
ينهزم -للأسف-أغلب المثقفين، ويتبنون خاتمة النص الشعري نفسه والتي تقول:
 قرطاجة كانت ضمير الشمس قد تعلّمت معنى الركوع
 والعنكبوت فوق أعناق الرجال
 والكلمات تختنق
 يا أخوتي قرطاجة العذراء تحترق
 فقبّلوا زوجاتكم
 إنّي تركت زوجتي بلا وداع
 و إن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها... بلا ذراع
 فعلّموه الانحناء...  علّموه الانحناء...  علّموه الانحناء.
فانحنوا.


[1] Anthony Giddens: Sociology, London, Polity Press, 1997.
[2] حسين العودات: المثقف العربي والحاكم، دار الساقي؛ بيروت-لبنان -الطبعة الأولى ٢٠١٢ م.
[3] سيد علي إسماعيل: جهود القباني المسرحية في مصر، مطابع وزارة الثقافة السورية.
[4] يعقوب لنداو: دراسات في المسرح والسينما عند العرب، ترجمة وتعليق: أحمد المغازي -الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1973 م.
[5] عبد العظيم رمضان: كان ويكون -عبد الله النديم، الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق المصرية-مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر.
[6] عامر صباح نوري المرزوك: يعقوب صنوع – سلسلة محاضرات، قسم الفنون المسرحية،كلية الفنون الجميلة، جامعة بابل، العراق.
[7] رمسيس عوض: اتجاهات سياسية في المسرح المصري (1900-1930م)، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1983م.
[8] صافي ناز كاظم: من ملف المسرح المصري في الستينات والسبعينات، الدار المصرية اللبنانية 2003 م.
[9] إدوارد سعيد: خيانات المثقفين، دار نينوى للدراسات والنشر، دمشق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق