السبت، 4 أغسطس 2018


بارا دوكس الحياة والموت
قراءة في  رواية "وداعاً صديقي المهرج"
بقلم : أحمد إبراهيم أحمد
وصف
جاءت رواية وداعاً صديقي المهرج في 193 صفحة من القطع المتوسط بمقاس 14x20 سم (مقاس A5 معدل) أي أنها رواية قصيرة  Short novelيزينها غلاف معبر مكون من الألوان الدافئة والساخنة في المركز، تحدها مساحتان من اللون الفيروزي والأزرق الباردين من الأعلى والأسفل وفي قلب الغلاف/اللوحة رسم لامرأة تذوب في عالم فانتازي، تعلوها طيور محلقة وفي الأسفل رسم لوجه مهرج ليس مبتهجاً في عيونه لمعة حزن، وعنوان الرواية في منتصف اللوحة تقريباً في ثلاثة أسطر منفصلة باللونين الأسود والأحمر بينما يأتي أسم المؤلفة في يسار أسفل الغلاف الذي نجح مصممه في التعبير التشكيلي عن المضمون الأدبي للعمل، وتوزيع مساحات الفراغات والكتل في نسب ودرجات لونية بحساسية وذكاء دون أن يهتم بعلاقات المنظور الهندسي، وللأسف لم يتضمن العمل اسم مصمم الغلاف في طبعته الأولي الصادرة عن دار النابغة ضمن سلسلة الإبداع العربي.
تحاول هذه القراءة...
التعرف على بنية السرد في رواية سهير شكري "وداعاً صديقي المهرج" باستخدام (النظرية البنيوية Structural theory) في علم النفس كما جاءت في دراسة سيجموند فرويد التحليلية للنفس الإنسانية عام 1932 م وابتكر فيها مصطلحات (الهو Id - الأنا Ego - الأنا العليا Super-ego) والتي اعتبرها أقساماً أو عناصر مكونة للنفس Psyche وميز بين العقل الواعي Conscious واللاوعي Unconscious وقدم وصفاً للعلاقة التفاعلية بين (الأنا) الواعية غالباً والتي تتعامل مع الواقع الخارجي؛ بينما تمارس (الأنا العليا/الضمير) الواعية جزئياً المحاكمة الأخلاقية داخلياً، ويمثل (الهو) اللاوعي مخزن الرغبات والغرائز اللاواعية والدوافع المكبوتة حيث تتكون الشخصية كمحصلة للتفاعل بين هذه الأقسام الثلاثة حيث يتضمن السرد في هذا العمل شخصيات وأحداث جعلت اكتشاف عناصر البنية النفسية كما جاءت في هذه النظرية أمراً سهلاً.
المثلث النفسي الفرويدي
1.     يفرض (الهو) على الإنسان إشباع احتياجاته ورغباته دون النظر لأي ضوابط بقوة غريزة البقاء.
2.     ترفض (الأنا العليا) هذا التصرف باعتباره غير منضبط.
3.     تقبل (الأنا) اشباع تلك الاحتياجات والرغبات شرط التوافق مع ضوابط (البيئة الاجتماعية... القانون... الأعراف... التقاليد... الخ.).
تمثل (الأنا) الإدراك والملائمة العقلية وتعمل كوسيط بين (الهو/الغريزي) و(الأنا العليا/الضمير) فتتحكم في إشباع مطالب (الهو) وفقاً للواقع والضوابط الاجتماعية، وتُشرف على الفعل الإرادي للفرد، وتعتبر مركزاً للوعي والإحساس بالكثير من الأفعال التي تتكون في مرحلة ما قبل الوعي والإحساس ثم تُصبح واعية عند الحاجة، فتوازن (الأنا) بين رغبات (الهو) وضوابط (الأنا العليا) والقواعد التي يفرضها العالم الخارجي (الواقع) وإذا فشلت في ذلك أصابها القلق ولجأت للحيل النفسية دفاعاً عن رغباتها.
الحكاية
تحكي الرواية قصة الأرملة هدى التي تستعيد ذكرياتها وهي تقرر مغادرة بيتها لمسكن أقرب للبحر، لتستعيد إحساسها بالحرية الوجودية المعادلة لتحررها بموت الزوج الذي مثل حجراً على قدراتها الإنسانية، وحصرها في دور التابع الذي يشبع احتياجاته الاجتماعية والخاصة دون اعتبار لكينونتها وهويتها الإنسانية عامة والأنثوية على وجه الخصوص.
"سأطلب من السمسار أن يبيع شقتي هذه ويبحث لي عن شقة اخرى أمام البحر، ليس أمامها هذه البنايات الشاهقة التي تحجب عني رؤية السماء والبحر باتساعه اللا نهائي لأتخلص من شعوري أني مسجونة هنا وهذا المهرج لن آخذه معي."[1]
تختار البطلة الانعتاق من الماضي لتنطلق وتشبع رغباتها في الحياة والحرية بلا عوائق تمثلها ضوابط (الضمير/المهرج) لكن تفاجئها تفاصيل الحياة الجديدة حين نتنقل للمسكن الجديد، ويربكها تفشي الفساد في الواقع، وتعقيد العلاقات التي لم تكن على وعي كاف بها حين عاشت عزلتها الاجتماعية فيما مضى، فتبدأ شخصيتها الجديدة في التفاعل مع الجديد من الواقع بكل احتمالاته من زيف، وفساد، وموت، ورغبة في الحب... لا تتحقق.
بنية السرد
صاغت الكاتبة عملها السردي في سبع لوحات ونهاية؛ مستفيدة من خبرتها التشكيلية... تحكي في أولي اللوحات تاريخ البطلة قبل ترملها وتصف هذه اللوحة بأنها "تُعطي إيحاءً بالاختناق والحزن... ظلالها السوداء تُعطي أشكالاً مخيفة كأنها أشباح وهيكل وحيد لامرأة وحيدة تطاردها عربة سوداء مجنحة كعربات الموت، بدا المنظر في مجمله كمسرح ضبابي محترق."[2]
ثم تُشكل لوحة/شخصية المهرج في اللوحة الثانية المرسومة "بألوان الأكريلك البهيجة الواضحة الملفتة في محاولة للهروب من الواقع الداكن."[3] حيث ستمثل لوحة/شخصية المهرج حالة تعبيرية ستبقى بعد تكونها في حوار وجدل مع البطلة بعد تحررها حيث تقول "أصبحت أقضي الساعات أحدث هذا المهرج الذي يسكنني لا تفارقني ابتسامته البلهاء.".[4]
وتعتبر لوحة المهرج الذي يعكس الأنا العليا للبطلة حالة تناص مع رائعة أوسكار وايلد (صورة دوريان جراي- أو صورة الفنان في شبابه) حيث تستمر البطلة والمهرج في جدل حتى نهايتهما كما حدث في عمل أوسكار وايلد.
وتنتقل سهير شكري إلى لوحتها الثالثة المرسومة بألوان شفافة رقيقة "يغلب عليها اللون الأزرق السماوي... فيها فضاء واسع ممتد مريح... بحر مترام يلتقي بالسماء وفي الركن الجنوبي من اللوحة الشمس ترمي بخيوطها الذهبية لتنير الكون وتدفئ البشر.".[5]  
لترسم لوحة رقيقة رومانسية تعبر عن رغبة البطلة الذوبان في الطبيعة، وتجدر هنا ملاحظة التفسير الفرويدي لعلاقة الشمس والبحر باكتشاف البطلة لطبيعة العلاقة الجنسية من سعيدة زوجة البواب الشخصية الأدنى اجتماعياً وطبقياً.
وترسم الكاتبة لوحتها الرابعة "بألوان فلو ماستر فسفورية ملفتة، رسمت بقعاً لونية رائعة زاهية متناسقة متناغمة في أحجام مختلفة وأشكال عديدة لكنها مبهجة تدعو للتأمل في جمال وغرابة ألوانها وبراعة تشكيلها، فشكلت عالماً مبهجاً من تشكيل حركي غني."[6]
ثم تصدر حكماً بالقيمة على هذه اللوحة "لوحة رائعة متميزة تنفرد بكل ما يميز الفن التشكيلي من تناسق وخيال وحركة وكتلة وفراغ متوازن وضوء وظلال.".[7]
لكن تغتال الطيور التي تسقطها أشعة الميكروويف الصادرة من برج تقوية إشارات الهواتف الجوالة هذه الرغبة في عالم جميل، وترى حلم غرائبي يتلاعب فيه (الموت/القدر) بها، ويمنحها حياة بلا سبب مفهوم، ثم يختفي لتبدأ مرحلة رؤية البطلة للواقع الفعلي بحوارها مع (المهرج/ الأنا العليا) والجار الدكتور عزمي.
يتفتح وعي مغاير للبطلة في لوحة سهير شكري الخامسة حيث الأجواء ممطرة فترسم "بألوان زيت من الصعب محوها وذلك يؤكد أن هذه اللوحة باقية محتفظة بألوانها وراسخة مهما طالها من عوامل الطبيعة."[8]
ينضج وعي البطلة بعدما حول المهرج إحساسها بالقهر لوعي متقد بطبائع الأشياء، فصارت ترى الموت جزءاً من حضور حقائق الحياة التي يزداد تمسكها بها "ارتديت ملابسي وخرجت إلى الشارع وأنا مصممة ألا أعود إلا بالفستان الوردي."[9]
ثم تُشكل المؤلفة اللوحة السادسة بألوان الباستيل الباهتة - السهل محوها إن لم يتم تثبيتها - حيث تلتقي هدى حياة جديدة ممثلة في (مراد/حلم الحب) الذي يجسد احتياجها كأنثى لرجل يُشبع جوعها للحياة والحب (من المهم معرفة الدلالة السيميائية لاسم (مراد) الذي يمثل التوق والرغبة) وتجسد تلك الرغبة بمشاركته قراءة قصيدة صلاح عبد الصبور أحلام الفارس القديم من ديوانه الذي يحمل نفس العنوان.[10]
يجسد حوارها في هذه اللوحة الرغبة في الحياة والتردد خوفاً كأنها تعيش الصلاة المسيحية "ربنا لا تُدخلنا في تجربة." حيث يبدو ترددها بين الرغبة والخوف في قولها "وقفت أمام المهرج وأنا كالتائهة... هل يأتيني الموت في هذه اللحظة الفارقة التي ستتبدل فيها حياتي كلها وتنهار الجدران المرتفعة التي كانت بيني وبين الحياة العالية كالجبل؟"[11]
لكن تنهي الكاتبة هذه اللوحة بحوار مربك بين البطلة والحاضر الغائب (الموت/القدر) لتأتي اللوحة السابعة والأخيرة مرسومة بالقلم الرصاص... لوحة شديدة التباين بين الأبيض والأسود تعكس صراع الحياة الأزلي بين الحياة والموت... النور والظلمة "فالضوء يحتج على الظلام فتنشأ المطاردة والصراع."[12]
ويبدأ التمهيد للنهاية في هذه اللوحة حيث يصدمها تطويع الداعية الديني الأفاق (الشيخ أيمن) أمور الدين والواقع لتصب كلها في مصلحته لا غير، فيطغى (الموت/القدر) المراوغ على عالمها.
"ظلام يتكدس فوق ظلام... تمرق عربة سوداء وسط عتمة جارفة... تقف العربة... تهتز الأرجاء ثم يظهر هو يمشي ملكاً في قوة وثبات لا يهزه ريح أو يخيفه رعد أو يثنيه مطر، فيختفي كل شيء ولا يبقى غيره."[13]
وتختم المؤلفة هذه اللوحة بخطوط سردية حادة تُطلق العنان فيها لمشاعر البطلة لتحاور (ضميرها/المهرج) وتبوح بما حرصت على كتمانه في انتظار الموت... موتها وموت المهرج، وتأتي النهاية حين تقرع الحياة أجراسها الأخيرة، وتشعر البطلة بنهاية المهرج وأنه "ارتعش بشدة ونهنه في عنف... انسلخ عني وتساقط على الأرض."[14]
تسمع هدى طيوراً تهمس لها "لا تهني ولا تحزني لقد صرت الآن حرة طليقة... ألقي بحقيبة أحزانك على الأرض الخراب وطيري خفيفة رشيقة لا تلقي بالاً لهذه الدنيا الفانية."[15]
وصلت البطلة (ربما الكاتبة) إلى حالة صوفية تشبه النيرفانا، فترفض كل ما مضى من حزن وفرح... بهجة ومعاناة... ترفض الحياة، وترحب بالحياة في الموت، وتعلن في آخر سطرين "تمت هجرتي بنجاح من الوحدة والاختناق والتهميش إلى حياة تمتعت فيها بحريتي وحب الكون كله أكثر رحابة وصفاء."[16]
(أنا) هدى البطلة
تمثل شخصية هدى (الأنا الفرويدية) التي تقع بين (الهو/الرغبات والغرائز) و(الأنا العليا/الضمير) والتي تقبل في أكثر حالاتها اعتدالاً بعض التصرفات وتربطها بقيم المجتمع وقواعده ومن ثم ترفض البعض الآخر من التصرفات حيث تشبع الأنا بعض غرائز/رغبات الهو إذا كانت في صورة يتقبلها المجتمع، ولا ترفضها (الأنا العليا) فقدمت لنا سهير شكري بطلتها التي تعيش حياة ملؤها الاضطراب والتحولات التي تنتقل بها من الاستسلام لواقع الزوجة المهمشة إلى الأرملة الحرة التي تعيد اكتشاف الحياة كما لو كانت لؤلؤة محفوظة في محارة، ثقبتها يد الحياة بمجرد خروجها من محارتها لتصفها واحدة بين غيرها في عقد الحياة المترامي، ولتعبر لنا عن تناقضات الحياة من خلال صراع (الأنا/هدى) مع (الأنا العليا/ المهرج) لإشباع احتياجات وغرائز (الهو).
الهو ID
يعمل الهو وفق مبدأ اللذة وتجنب الألم، ولا يراعي المنطق ولا الأخلاق أو الواقع فهو لا شعوري ويتكون من قسمين الأول فطري عبارة عن الغرائز التي تمد الشخصية بالطاقة بما فيها الأنا والأنا العليا، والجزء الثاني مكتسب عبارة عن العمليات المكبوتة الممنوعة من الظهور، ويتجسد (هو) البطلة هدى في رغباتها المكبوتة طوال زواجها رغم أنها رغبات مشروعة ومنطقية لكن الكبت الذي مارسه الزوج عليها سجن هذه الرغبات، وتسعى هدى لإشباع رغبات مشروعة مثل الانتقال لموقع إقامة يتيح لها إشباع رغبتها في الحرية حيث يسيطر الضمير والضوابط الاجتماعية على رغباتها لكن تربكها قسوة وشراسة الواقع، وتضعها أمام تحديات معقدة تكشف لها جوانب من ذاتها يعمقها حوارها مع (المهرج/الأنا العليا) لكن يترصد لها إحساسها بالموت.
المهرج ضمير هدى (الأنا العليا Super-ego)
تمثل (الأنا العليا Super-ego) نقيض (الهو Id) وتتبنى الأخلاق والمثل والخير، وتكتسب قيمها من الأسرة والمجتمع والدولة والدين، وتنشد الحرية بأن يتحرر صاحبها من غرائزه ونوازعه الحيوانية وقوى الشر، ليسمو بالمثل والمبادئ والأخلاق والقيم.
جسدت الكاتبة هوية (الهو/الضمير) برسم البطلة بورتريه لمهرج يتجاوز كونه مجرد لوحة لوجود يمثل ضمير البطلة (الأنا العليا) ويتحاور مع (هو/ غرائزها) في ديالكتيك يعكس خبرة الكاتبة بآليات الحوار الدرامي، وتستعرض في نفس الوقت الإشكاليات الناتجة عن الضوابط المستقرة في لا وعي البطلة حيث يبدأ وجود المهرج في اللوحة الثانية "رسمت له صورة كبيرة وعلقتها في الصالة أمامي، أجلس أمامها وأتأملها طويلاً... أصبحت مشدودة له بإحساس حميمي لا يقاوم."[17]
وتتجسد هوية المهرج كضمير في جدله الدائم مع (الأنا) التي تخضع أحياناً لرغبة (الهو) "هذا المهرج الذي لا يريد أن يفارقني، ويعتقد أني لا أقوى على فراقه... سأريه أني أقوي مما يتصور وسأنتصر عليه."[18].
لكن كون المهرج (أنا عليا) فهو مكون أصيل من مكونات شخصية البطلة الثلاثة مع (الأنا، والهو) لا تنفك بينهم العلاقة إلا بنهاية الحياة نفسها، وتدرك الكاتبة كيف تحاول الطبيعة الإنسانية، إعادة ترتيب الأولويات، مُستفيدة من الأحداث الحياتية التي يتقبلها الضمير، للانفكاك من قيود (الأنا العليا/الضمير) وعدم مواجهة الضوابط الصارمة التي تحكم الحياة سواء كانت مفتعلة أو حقيقية... يقول المهرج "أرى أنك نسيتني تماماً، وانشغلت بهذه الطيور... جميل منك أن تهتمين وتعطفين على هذه الطيور مع أنك امرأة نفرية رغم العشرة الطويلة بيني وبينك... ظننت أني أنا الذي تسلقت شرفتك، وأنت التي تركتني للصقيع ووجهي للحائط... أردت أن تجعلين مني شماعة لضعفك وخوفك."[19].
هي محاولة النفس البشرية الدائمة في الالتفاف حول القيود الأخلاقية والضوابط الاجتماعية لإشباع الرغبات والنزوات والانعتاق من أسر ما يعيقه عن ذلك.
بارادوكس الحياة والموت
يطرح فرويد في كتابه (الحب والحرب والحضارة والموت) آراء في الحرب والحضارة والموت، يحاول بها أن يسبر أغوار الحرب ويحللها للتعرف على ظاهرة الموت، ويرد ذلك لأصول فطرية في الإنسان وناموس طبيعي ومبادئ في الوجود لا يحيد عنها، وافترض فرويد وجود غريزة (الموت) في ثنايا النفس التي تعمل أحياناً على توجيه السلوك وجهة انتحارية تدفع الإنسان لإهلاك نفسه، وعبرت الثقافة الشعبية عن ذات الفكرة بالمثل القائل "ابن موت!" لوصف ذلك الشخص الذي يبادر إلى اقتراف ما هو كفيل بقصف عمره، ويستكمل فرويد رؤيته باقتراح نظرة للتعايش بين (الوجود والإنسان) تُحقق السعادة للإنسان.
وتتجسد ثنائية الحياة والموت بوضوح في سلوك هدى بطلة الرواية الممتلئة برغبة حياة يعيش الموت داخلها فهو الذي حررها من سطوة الزوج المستبد، وتبدو واضحة آثار النظرة الفرويدية للحياة والموت كنقيضين يتعايشان في الوجود الإنساني للتركيبة النفسية والسلوكية للبطلة هدى المملوءة برغبة الحياة والتوق للانفتاح على مباهجها بعد حرمان طويل حيث يدفعها (الضمير/الأنا العليا) للاستمتاع بالحياة...
"انظري حولك... أما ترين الجمال؟ أرأيت كيف تضفي الضحكات جمالاً على وجوه الناس؟ والطبيعة... أما لفت انتباهك تناسق الألوان وبراعة الخلق؟ يا لروعة الوجود... لما لا تتماهين مع هذه المظاهرة الجميلة؟ تبسمي."[20]
عندي شعور أن الآتي أفضل وأجمل."[21]
وتتكرر مشاعرها المحبة للحياة والمتمثلة في رغبتها القوية في اقتناء الثوب الوردي، والانفتاح على علاقتها بالجار مراد الذي يمثل بوابة على مستقبل حياة أكثر بهجة وامتاعاً؛ لكن يعيش الموت داخلها، يذكرها كل لحظة مفصلية بحضوره القوي الذي يلقي بظله عليها في كل موقف هام أو عابر في حياتها...
"لا أدري كيف ماتت تلك القطة؟"[22]
"وطائر غريب الشكل وحجمه ضئيل يهز رأسه كأنه في حلقة ذكر وبعضهم حاول مهاجمتي ومنهم من وقع صريعاً ولفظ آخر أنفاسه أمامي."[23]
ثم يتجسد لها الموت بهيئة وجود كامل حاضر وفاعل في حياتها وهو الذي صنع لها حياة في وقت سابق...
"فباغتتني سيارة ولم أنتبه لها إلا على صوت الفرملة المزعج وقد أوقفها رجل قوي مديد القامة يرتدي ملابس سوداء... شكله مهيب وشعره أبيض وقف أمام السيارة رافعاً ذراعيه ليحول بيني وبينها."[24]
"ظهر لي رجل مديد القامة لم أر في مثلها أحداً من قبل... شكله ملفت بلونه الأسمر وشعره الفضي اللامع، يرتدي ملابس سوداء خفيفة وبرغم هذا الجو قاسي البرودة يمشي الهوينى لا يعبأ بالمطر... نهضت واقفة أدقق وأحدق فيه وأخيراً صرخت: إنه هو ذلك الرجل الذي أنقذني من الموت تحت عجلات السيارة... نعم إنه هو."[25]
ينتصر الموت في النهاية لكن تضمن انتصاره انتصارها هي الأخرى حيث حررها الموت من قسوة الواقع وتهافته، وانتقل بها لعوالم طالما حلمت بها وتمنت أن تعيشها حيث كان الموت هو جواز عبورها من المعاناة لحالة نورانية سبق وتاقت لها...
"شعرت بالقوة تسري في شراييني وتقافزت فوق السماء التي اكتست كلها باللون الأخضر كأنها زُرعت كلها بالنجيل... نبتت فيه زهور بنفسج بري يانع بدا كالمروج بثلاثة ألوان وطيور بثلاثة ألوان لامعة والسماء يتغير لونها رويداً... رويداً وتكتسي بلون لازوردي رائق."[26]
ويعكس هذا الترتيب لفعل الموت الرؤية القدرية اليقينية التي تتبناها الكاتبة عن الحياة والموت الذي لا يأتي إلا في موعده، ويعكس أيضاً فهمها القدري لثنائية (الحياة/الموت) المتناقضة ورغم ذلك تتقبلها ببساطة.
المسألة النسوية
تعتبر رواية وداعاً صديقي المهرج من الأدب النسائي بامتياز لكن يتسم عرض الكاتبة للمسألة النسوية بقدر كبير من الموضوعية فهي لا تريد الانفكاك عن المنظومة الاجتماعية بل تريد القدر المنطقي من الحرية التي تُشعرها بإنسانيتها فهي تعيش أزمتها ومعاناتها دون أن تتخذ إجراءاً راديكالياً...
"استسلمت للواقع المؤلم، ومرت السنون تلو بعضها."[27]
وذلك بعد حوارها مع أمها التي كانت تمثل الضمير، وتشكل المرجعية السلوكية بالنسبة لها قبل موت الزوج والتي تقول لها "لقد استقلت من عملك وليس لك مورد رزق سواه يا ابنتي ونحن في مجتمع لا يرحم المرأة المطلقة ودائماً ينتصر للرجل... أرض بنصيبك طالما لا ترغبين في الزواج مرة أخرى."[28]
لكن تتشكل مرجعيتها الذاتية المتمثلة في (الأنا العليا) بمجرد تحررها من قيود الزوج المتسلط بموته والتي جسدتها الكاتبة في شخصية المهرج الذي أصبح ضميرها الذي يقبل ويرفض سلوكها، ويجادلها في مجمل أفكارها وينتقدها...
"حين عدت وجدته يخفي وجهه في الحائط... فهمت أنه يعاتبني، أو ربما غضب لأني لم أصحبه معي... هذا الذكي ألا يعلم أني لا أريده أن يعلم بما نويت!"[29]
فلا ترى الكاتبة عداءً للرجل من منطلق جنساني؛ لكن تحتج على ظلم وقهر واقع على المرأة من مفاهيم تتناسى حقوقها الإنسانية، وتجعلها أسيرة رغبات وأهواء الثقافة الذكورية المتسيدة بلا توازن في الحقوق والواجبات بين الجنسين.
لغة السرد
تكتب سهير شكري بلغة سلسة لا تخلو من جمال، تتميز بالفقرات القصيرة غير المرهقة للمتلقي، وتجيد كتابة الحوارات بأسلوب تلقائي، تتفاوت مستوياته اللغوية باختلاف الشخصيات التي تدير الحوار، وإن كان يعيب اللغة أخطاء شائعة لكنها مزعجة للمتلقي صاحب الحساسية اللغوية مثل كتابة الجملة الفعلية في صيغة الجملة الاسمية (الأصل في الكتابة العربية هي الجملة الفعلية كما في النموذج اللغوي التقليدي {"صاحب زيدٌ عمرواً" ولا نقول "زيدٌ صاحب عمرواً"}) يضاف لذلك عدم استخدام علامات الترقيم استعمالاً قياسياً مما يساهم أحياناً في إرباك القارئ؛ كذلك استخدام بعض التعبيرات العامية من الممكن استبدالها بسهولة ببديلها الفصيح وهي التي حرصت على امتداد عملها السردي على الفصحى حتى في الحوارات التي تحتمل العامية.
ختاماً...
نحن أمام (نوفيلا) سردية تستحق الوقوف أمامها لسلاسة وبساطة سرد لم يحاول ممارسة أية ألاعيب فنية أو لغوية مربكة، أو يدعي حداثة غير مبررة، ووضعنا أمام حكاية إنسانية بسيطة، تشكو وجع حياة تعانيه امرأة دون أن يغفل الحقوق المجتمعية، ويطرح تساؤلات بسيطة عن جدوى تحمل أعباء هذه الحياة وعلاقة الحياة بالموت.
تبدو أسئلة طفولية ساذجة... لكن هل أجمل من أن نستعيد الطفل في داخلنا؟



[1] ص 53-54.
[2] ص 5.
[3] ص 45.
[4] ص 47.
[5] ص 59.
[6] ص69.
[7] الصفحة السابقة.
[8] ص97.
[9] ص110.
[10] ص128.
[11] ص158
[12] ص163
[13] 174
[14] ص183
[15] ص190
[16] ص193
[17] ص47.
[18] ص64.
[19] ص76.
[20] ص50.
[21] ص60.
[22].ص50.
[23] ص72.
[24] ص75.
[25] ص93.
[26] ص192.
[27] ص39.

[29] ص55.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق