السبت، 4 أغسطس 2018


المرأة بين الذبيح والغريب...
قراءة في سرد عاطف عبد الرحمن ...

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

"الأدب آلة ضخمة لتفسير الذات، وإعادة الصياغة الشعرية للحياة، وهو قادر على تحويل المهمشين من العادي إلى وجود شعري، ودلالات قصصية، وغذت هذه القدرة الحلم بكتابات جديدة."
جاك رانسيير
لا توجد كتابة بريئة، ولا توجد أيضاً قراءة بريئة.
رولان بارت

تلتزم هذه الدراسة بتحذير باختين من التحليل التقليدي للرواية؛ أي الذي يكتفي أو يقوم بتحليل جانب واحد من جوانب السرد؛ مع ملاحظة أن الرواية والقصة الطويلة كلاهما جنس أدبي لا يكتمل؛ كونهما مليئان بإمكانيات التطور والتحول؛ فإذا أضفنا لذلك أن النص حمال أوجه، يفسره كل قارئ بما يملك من أدوات معرفية وثقافة، أدركنا أن لا قول فصل في قراءة الإبداع السردي.
وترى هذه الدراسة أن عاطف عبد الرحمن أضاف للسرد المصري والعربي أعمالاً ثلاثة هامة هي (أيام الإمام – زمن العشق والجنون – ليالي عزبة البوهي) قدم فيها وصفاً دقيقاً لعوالم المهمشين الذي يتضح اهتمامه الكبير بها وبتفاصيل الحياة فيها وبشخوصها، والتي عمدته كسارد من الكتاب المصريين المهمين في هذه المرحلة الحرجة من عمر الإبداع المصري.
الجنس الأدبي لسرد عاطف عبد الرحمن
كتابة عاطف عبد الرحمن كتابة سهلة لكنها مخاتلة إذ يكمن خلف سهولة التعبير ويسره عقل مراوغ يجيد لعبة السرد ويعي مفهوم الحكاية كحالة درامية اكتسبها الكاتب عبر تاريخ مسرحي طويل.
وهو لا يطنب ولا يسهب في كتاباته، ويختار حجماً من الكتابة يُيسر على القارئ مهمة التعامل مع النص ولا يرهقه بل يريد أن يشركه في متعة السرد، فالجمل عند عاطف قصيرة نسبياً... حميمية... تهرب فقراتها من الإطناب، ويصب العمل كله في شكل الرواية القصيرة أو القصة الطويلة Novelette وبذلك يستجيب استجابة واعية لمتغيرات العصر الذي لم يعد المتلقِ فيه قادراً على تقديم المزيد من الوقت للتلقي الإبداعي في أي شكل؛ بل أصبح إيقاع التلقى متسقاً مع أسلوب الوجبات الجاهزة أو السريعة.
ورغم وعي الكاتب بذلك لا يستسهل تقديم وجبة سريعة رخيصة بل يقدم لنا محتوى إبداعياً ذو قيمة فكرية ولا يجره اختياره لهذا الحجم السردي غير الملحمي للتبسيط أو نمذجة الشخصيات والأحداث بل يعمل بدأب لتقديم عمل إبداعي محمل بالقيم الجمالية والثقافية.

المكان في سرد عاطف عبد الرحمن
تدور أحداث رواية (أيام الإمام) في مقابر الإمام الشافعي بالقاهرة العاصمة، وتقع فعاليات رواية (زمن العشق والجنون) في هامش من هوامش مدينة بور سعيد، بينما تطوف بنا حوادث (ليالي عزبة البوهي) في (عزبة) على حدود واقع مبهم لا هو ريفي ولا حضري، يميزه ما يميز تلك الهوامش شبه الحضرية في دلتا النيل كما حول دمياط أو المنصورة؛ وكل أماكن هذه الأعمال الثلاث مجتمعات هامشية.
نحن إذاً أمام واقع مصري قح في تجليات ثلاث، تعكس بوضوح جزءاً كبيراً ومهماً من واقع مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فنحن في (أيام الإمام) نعيش واقع القاهرة العاصمة في منطقة موت مجاورة لتاريخ مجيد تشهد عليه القلعة الشامخة، وفي (زمن العشق والجنون) نعيش واقع بور سعيد الميناء الحيوي الذي توالت عليه الأزمات خلال حروب مصر من خلال أحداث ترتبط بهامش المدينة وشريانها الحيوي الميناء الواقع على مدخل قناة السويس، ويتجسد في (ليالي عزبة البوهي) واقع ريفي شبه حضري يتميز به المجتمع المصري في أغلب منطقه سواء في شمال مصر أو حتى صعيدها.
ويحصر عاطف عبد الرحمن أحداث سرده في الروايات الثلاث في واقع يشبه دائرة مغلقة يكاد الفكاك منها أن يكون مستحيلاً لولا تمرد أبطال رواياته... يقول عاطف عبد الرحمن في روايته (ليالي عزبة البوهي) ما يمكن إسقاطه على عوالم الروايات الثلاث بلا أدنى تفرقة:
"كان هناك الكثير من المشاعر الإنسانية التي حاولت أن تخرج من الدائرة المغلقة في هذا الواقع المضطرب والذي يعج بكل صنوف القهر الإنساني معبرة عن أرواح تواقة للحرية والعدل وما يليق بالإنسان."
إذا فإن المكان الذي يتناوله سرد عاطف عبد الرحمن هو فاعل رئيس في الفعل السردي، وليس مجرد مساحة مكانية تدور فيها الأحداث بل يؤثر المكان ويتأثر بالشخوص والأحداث، وهو مكان مليء بالتفاصيل المؤدية للنتائج التي يتمخض عنها فعل الأشخاص التي يتصيدها السرد فأحداث (أيام الإمام) تدور في مدينة الموتى الواقعة في مقابر الإمام الشافعي في قلب القاهرة القديم، وأحداث (زمن العشق والجنون) تقع في ضواحي وشوارع بورسعيد، وعزبة البوهي اللا قرية واللا مدينة غير الواقعة في جغرافية محددة هي حلبة صراع الموت والحياة في (ليالي عزبة البوهي).
وتجدر الإشارة إلى أن البيئة المكانية للروايات الثلاثة تتصدى للأماكن الهامشية الأقل حصولاً على العناية من المجتمع حيث يمثل المكان في (أيام الإمام) واحداً من أغرب مجتمعات هامش المدن في العالم حيث يختار البشر أن يعيدوا إنتاج الحياة بجوار الموت، فيؤسسون مجتمعاً موازياً لمجتمع المدينة في مقابر الإمام حيث تدور أحداث الرواية والذي هو جزء من واقع مؤلم لعشوائيات القاهرة.
ويقع عالم عاطف عبد الرحمن السردي في رواية (زمن العشق والجنون) في بيئتين عشوائيتين أولاهما حيث ولدت زينب وتزوجت في بيئة ريفية معزولة عن واقع التحضر لا تعرف من نشاط اقتصادي إلا زراعة وتصنيع وتجارة المخدرات، وتلقي بها الأقدار حين تفر من هذا الواقع لعشوائيات ساحلية يتم فيها اغتصابها قهراً من أمين شرطة هو رمز للسلطة، وحين تستقر بها الحياة تستقر في هامش المدينة على سطح أحد البيوت الفقيرة التي تكاد أن تكون غير ملحوظة.
ويتخير عاطف عبد الرحمن مكاناً فريداً لأحداث روايته الثالثة (ليالي عزبة البوهي) حيث نجد أنفسنا في هامش غريب للمدينة والريف معاً كما لو كان هذا المكان هو الأعراف حيث لا جنة ولا نار والحقيقة أنها جهنم نفسها بشخوصها وأحداثها التي تقع في هذا المكان غير المتحضر والواقع تحت تأثير الريف دون أن يكون منتجاً لمجتمع ريفي متكامل الخصائص، أو يكون حضراً له خصائص المدن.
الزمان في سرد عاطف عبد الرحمن
لا يغادر زمن السرد في روايات عاطف عبد الرحمن الثلاثة العقد الأول من الألفية الثالثة ولا يتعالى على واقع هذه المرحلة، ويخوض في تفاصيل هذا الواقع بوعي حاد، وعينه على التاريخ المصري المعاصر، وصراعات التغيير التي تموج بها أعماق المجتمع برؤية ثاقبة، وإدراك واع بالتركيبة الاجتماعية السياسية للمجتمع المصري في هذه المرحلة من التاريخ المصري المعاصر، ورغم احترامه الواضح للفكر اليساري السائد في هذه المرحلة التاريخية والذي هو نتاج لمرحلة سابقة ويقف بتعاطف واضح مع رموزه؛ إلا أنه يقف على مسافة محسوبة منه رغم انحيازه الواضح للمسحوقين المهمشين إنسانياً، مؤكداً وعيه بأهمية وضرورة التغيير الثقافي في هذا الزمان حرصاً على الزمن الآتي... يقول الراوي في صفحة 101 من (زمن العشق والجنون)...
"كانت زينب تشعر بالتوتر الذي أصبح مسيطراً على الجميع، ومع زيادة القلق الواضح على يوسف، كانت زينب تخشى ألا يكون مقدراً لها تحقيق الحلم به، كانت زينب تسارع وتصارع الوقت علها تتمكن من أن تهب نفسها ليوسف في لحظة تتحقق خلالها أحلامها المؤجلة، علها تروي معه ومن خلاله ظمأ السنين."
تعكس هذه الفقرة المعادل الموضوعي للواقع المصري في زمن السرد حيث رغبة زينب في التحقق من خلال الحب هي رغبة مؤجلة بحكم الظروف، تعادل رغبة المجتمع المصري في التحقق من خلال التغيير السياسي، وكلا الرغبتين مؤجل، يقول عاطف عبد الرحمن في الصفحة 107 من (زمن العشق والجنون)...
"سحب الكثير من الرجال جسد يوسف محمولاً من أرض المعركة. رفعت زينب رأسها ولمحت في الخلف وجه أمين الشرطة (رمز السلطة والذي سبق له اغتصابها) وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة باردة."
ويلعب عاطف بزمن السرد في روايته/قصته الطويلة (أيام الإمام) لعبة تجريبية غاية في الذكاء لا يلحظها القارئ للوهلة الأولى، بإضافة سارد آخر عمره أربعين سنة يحكي عن نص دارت أحداثه في زمن سابق على زمن  قراءة النص، فيقول لنا بالتالي أن هذا الواقع (واقع السرد) متجدد الحدوث وهو بذلك يتنبأ نبوءة سوداوية أن لا تغيير سيحدث!
الحدث في سرد عاطف عبد الرحمن
يرى عاطف عبد الرحمن أن الفعل الشعبي غير المخطط لا جدوى منه وأن التغيير لا يتحقق إلا بسيطرة قوى فاعلة على مقاليد الأمور تقود الجماهير في اتجاه التغيير فإذا سيطرت ما يمكن أن نسميه قوى الشر فسوف يقع المجتمع في هوة الفساد والتخلف، وإن تمكنت ما يمكن تعريفها بقوى الخير فسوف يحدث التغيير الإيجابي ويتحرك المجتمع للأمام حتى ولو كان هذا التحرك بطيئاً إلا أنه قادر على تطوير وتنمية المجتمع.
ويرفض منطق السرد في أعمال عاطف عبد الرحمن الثلاثة مفهوم البطل القائد... صانع التاريخ الفرد... ويقول لنا الكاتب من خلال تنامي الحدث في أعماله الثلاثة - هذا النمو الدرامي بامتياز- أن الشخصيات الفردية مهما كانت حسنة النوايا وفاعلة بقوة على المستوى الفردي سواء كان سليمان الريس في (أيام الإمام) أو يوسف في (زمن العشق والجنون) وحسن في (ليالي عزبة البوهي) إن هم إلا إعادة إنتاج لدون كيشوت وفعله العبثي الذي يحارب فيه طواحين هواء.
ولا يقول عاطف عبد الرحمن صراحة أن الفعاليات الجماهيرية الواردة في روايته/قصته الطويلة (زمن العشق والجنون) هي أحداث يوم 25 يناير لكن توحي الأحداث السردية كلها بذلك، كما يوحي السرد برؤية الكاتب لواقع الفعاليات السياسية المصرية حيث تنبأ بفشل ما سمي ثورة 25 يناير وعدم قدرتها على الوصول لنتيجة حاسمة في الصراع على السلطة؛ حيث يميز بين الهبة الجماهيرية وفعل الثورة المنظم وما يحتاجه هذا الفعل من تخطيط وإدارة للأزمة، ودعم من قوى مؤثرة تؤازر الثوار، وتُمكنهم من مواجهة العداء الدائم بين السلطة (ممثلة في أمين الشرطة المغتصب القاتل) وبين المجتمع (الذي تشير إليه قوى الجماهير ومنه زينب، ويوسف المناضل العمالي ضحية أمين الشرطة المغتصب القاتل) حتى تتمكن الثورة من صنع تغيير حقيقي ومؤثر في المجتمع، تستولي من خلاله تيارات الثورة الحقيقية على السلطة حتى تتمكن الثورة من إدارة المجتمع بأدوات دولتها الجديدة كلياً، والمفصولة عن كل ما ثار عليه الثوار.
شخصيات السرد عند عاطف عبد الرحمن
يحكم عاطف عبد الر حمن سطوته على أشخاص أعماله، فهي كلها شخصيات ضرورية لها دور في الأحداث التي تقع في زمان ومكان السرد، ونادراً ما نجد شخصية هامشية كصبي القهوة في ليالي عزبة البوهي، أو المرأة البدينة وزوجها في ليالي الإمام، أو اصدقاء يوسف، وكلهم يلعب دور علامات التشكيل على الكلمات، فهم يساهمون في إضاءة الأحداث والشخصيات الرئيسية في السرد أكثر مما يعبرون عن أنفسهم.
الغريب
 يسرد عاطف عبد الرحمن أحداث أعماله الثلاثة بصوت سارد غريب (سارد عليم) يعرف كل شيء عن الحدث وبيئته وزمانه (الفعل ومكانه وزمانه) فنجد أنفسنا في (أيام الإمام) نواجه سارداً غريباً عن القاهرة كلها وليس فقط عن مقابر الإمام وسكانها، وفي (زمن العشق والجنون) يسرد لنا الحكاية سارد حكاء غير موجود في شخصيات العمل، وفي (ليالي عزبة البوهي) السارد هو غريب يقطن العزبة.
لكن ليس الساردين الثلاثة هم فقط رواة ففي (أيام الإمام) وفي (ليالي عزبة البوهي) يشارك الساردان في الحدث كفاعلين مؤثرين يترك كلاهما ظلاً مؤثراً على السرد بينما نجد السارد في (زمن العشق والجنون) من الخارج يمارس السرد بحياد.
الذبيح الشهيد
 يتكرر حضور البطل الرومانسي المتمرد في روايات/قصص عاطف عبد الرحمن الطويلة الثلاثة (أيام الإمام – زمن العشق والجنون - ليالي عزبة البوهي) الذي يمارس فعل التمرد الذي يعيش به كبطل رومانسي (سليمان الريس في أيام الإمام – يوسف في زمن العشق والجنون – حسن في ليالي عزبة البوهي).
ويتخذ موقف المتمرد على الواقع الذبيح الميت الحي المثقف والأديب الشاعر الذي يعيش مختاراً في هامش العاصمة الضخمة في مدافن الإمام الشافعي، ويسعى لتغييره بآليات (المعارضة السياسية) المحملة بأمل التغيير رغم فوات عمر هذا الأمل الذي يستحضره عاطف في شخصية مناضل كبير السن في رواية (أيام الإمام) على هيئة شيخ كهل محمل بأفكار النضال وقادر على الجدل بثقة ووضوح فكر مع سليمان الريس... يقول الكاتب في صفحة 48 من الرواية:
"أخذت اتأمل ملامح الرجل... سنوات تزيد على السبعين... وقواه خارت مع الأيام والسنين ومع ذلك ما زال هناك فيض من قوة يعينه على مجاراة سليمان الريس في الحوار الذهني الذي يدور بينهما، وأطلت النظر إلى الرجل ومن خلال ابتسامة باهتة ارتسمت على وجهه لأحد تعبيرات سليمان التي قالها له؛ أدركت معنى الحلم الذي أشار إليه سليمان منذ قليل... نعم إنه هذا الأمل المرسوم على وجه هذا الرجل."
ويغتال عاطف عبد الرحمن هذا الأمل ويحول الشيخ الكهل ذبيحاً هو الآخر... يقول في صفحة 79 من نفس الرواية...
"والتفاصيل أن الجيران والبواب شكوا في أمر وفاته حيث لم يأخذ الجرائد من أمام الشقة لمدة ثلاثة أيام وبعد أن قاموا بكسر باب الشقة وجدوه ملقياً في صالة الشقة وقد مر عليه على هذا الحال ثلاثة أيام."
ولا نرى رد فعل حقيقي على هذا الموت العبثي سوى رد فعل سليمان الريس الانفعالي العبثي هو الآخر الذي...
"يقف وهو يصرخ بكل قوة...
لأ... لأ يا بلد مش احنا اللي نموت بالطريقه دي... مش احنا اللي نموت زي الكلاب ولا حد يسمع لينا حس... لأ يا بلد... لأ... لأ."
صرخة عبثية في واد من الموتى من ذبيح على ذبيح آخر والكل قرابين على مذبح وطن لا يستجيب لفكرة التمرد العاجز عن إنصاف الذات أو إحداث تغيير.
ونجد في رواية (زمن العشق والجنون) ذبيحاً آخراً متمرداً يدفع ثمن تمرده... حياته... يوسف النقابي اليساري الثائر المنظم الذي يقود بامتياز الحركة العمالية في موقع بروليتاري، ويجد من يعينه... قلة من أصدقائه... وتتجاهله كثرة جبناً وتخوفاً من مواجهة السلطة حتى وهم يدركون أنه يدافع عنهم وعن مصالحهم، وحين تخرج هذه الكثرة في هبة جماهيرية تتصيد يد (السلطة أم القدر أو الكاتب؟) هذا البطل وتغتاله في قمة حركة الجماهير ربما في إعلان عن رفض مفهوم البطل الفرد وقدرته على إحداث تغيير فاعل.
يؤكد عاطف عبد الرحمن بذلك ما جاء في روايته/قصته الطويلة (ليالي عزبة البوهي) من فعل التمرد الذي يعيش به أحد أهم أبطال عمله (حسن) الذي يحاول أن يعيش عبر إعادة إنتاج شخصية روبن هود أو اللص الظريف الذي يسرق من الغني ليعطي الفقير، ويتضح موقف الكاتب من هذه الشخصية الرومانسية التي جرى الترويج لها من قبل بعض الكتاب في وقت ما حيث يراها شخصية رومانسية تعكس نموذجاً غير واقعي للتمرد والثورة، فيضحي الكاتب الإله بشخصيته ذبيحاً في غمار الأحداث.
ولا يكتفى عاطف عبد الرحمن بالأبطال القرابين على مذبح الثورة، فيقدم لنا شخصيات ثانوية يضحي بها هي الأخرى على مذابح التمرد مثل الكهل الشيخ في (أيام الإمام) وأصدقاء يوسف المختلفين في (زمن العشق والجنون) والأستاذ مصطفى في (ليالي عزبة البوهي) حيث لا نجد أية علامات في السرد على وصول هذه الشخصيات لنهاية إيجابية في دورانها العبثي في الحياة.
المرأة بين الذبيح والغريب...
تتمحور أحداث الروايات الثلاث لعاطف عبد الرحمن حول شخصيات نسائية أساسية (حوريه أم أمال في ليالي الإمام، وزينب في زمن العشق والجنون، وليلى في ليالي عزبة البوهي) وشخصيات نسائية هامشية موازية للشخصيات الرئيسية (المرأة كاشفة فخذيها وساقيها في ليالي الإمام، وحميدة في زمن العشق والجنون) فالمرأة كاشفة فخذيها وساقيها بضاعة معروضة لكل يد، وحميدة حالة من حالات الجنون الذي يتجسد في وهم فانتازي كل ليلة، ورئيسة أم محروس التي هي حالة قذرة على كل المستويات تعيش وسط الفضلات مما يعكس رؤية تحتقر أولئك النسوة احتقاراً عميقاً.
" كان باب شقة الدور الأرضي مفتوحاً وأم محروس جالسة في الوسط مرتدية جلباباً أسوداً تبرز من فتحاته عظامها الناتئة بينما شعرها الأبيض يشكل ما يشبه الهالة حول رأسها.
كانت تفرز القمامة وتضع الأوراق على جانب والكرتون على جانب آخر أما بقايا الزجاج فكانت تلقيها خلفها بينما تلقي فضلات الجلود أمامها وتضع على مقربة منها علب الصفيح والبلاستيك.
أتت إليها طفلة صغيرة تبكي من أحد الأركان... أمسكت بها أم محروس وخلعت عنها سروالها التحتي فوجدتها قد قضت حاجتها بداخله... خلعت أم محروس سروال الطفلة ولّفّتْه ووضعته بجوارها، وأمسكت ورقة من جوارها مسحت بها مؤخرة الطفلة وألقت بالورقة فوق كومة الأوراق فيم كانت يدها الأخرى تدفع الطفلة للعب بعيداً عنها."
والشخصيات النسائية البطلة في الأعمال الثلاثة تتعامل مع أنوثتها بجرأة حتى وإن كانت ضوابطها الأخلاقية حاضرة، فنجد حورية أم أمال تقيم علاقة مع السارد الوافد (كاتب المذكرات) على محيطها وحين يغيب بلا مبرر معروف لها تنتحر لأن واقع غيابه عرى اشتياقها الجنسي بينما لم تجد روحها الأخلاقية للحياة مبرراً فاختارت موتها، ونجد زينب المغتصبة مرتين في رواية (زمن العشق والجنون) تعاني من الشبق الجنسي حتى وهي مغتصبة من أمين الشرطة الذي عاملها كنفاية بشرية...
"لعنت الإحساس الأنثوي الذي تولد بداخلها لمجرد اقتراب أمين الشرطة منها .. هي لا تعرف هذه المشاعر..ذكرياتها عنها ماكان يفعله عبد الجبار... ربما لو سألها أمين الشرطة لوهبت نفسها له عن طيب خاطر."
وتقع أسيرة الفانتازيا الحسية حين تميل مشاعرها نحو يوسف...
"تتولى زينب ترتيب السطح... وتأخذ قمر بين يديها وتضعها في الفراش... تغلق باب الحجرة خلفها..وتشرد من جديد مع الأحلام التي تدور بداخلها.
يفتح باب الغرفة وتجد يوسف واقفاً أمامها... تقف وتتجه إليه تسبقها مشاعرها الحبيسة... تأخذه ليجلس وتخلع نعليه وملابسه... تغسل له قدميه بماء الورد وتغسل رأسه (بالصابونة أم ريحه) التي تحتفظ بها بين ملابسها في الدولاب... تدلك له جسده حتى يعود له صفاءه وهدوءه المعهود... تتذكر ما كان يردده دائما..."ونحب... كما لو كنا ما حبينا بالمرة" تجذبه من يديه إلى الفراش وتعلمه فنون الحب والوله  وتعطيه من داخلها الكثير... تجعله يسبح في بحار من الشوق واللهفة يشعر معها أنه السيد والمسود... هو القائد والمقود... ويذوب بين أحضانها ومشاعرها التي انحبست طويلاً خلف عباءتها السوداء... انفجرت بين يديه شلالاً من العشق والتدله... تأخذه بين يديها وتضمه إلى أحضانها وتربت رأسه بحنان حتى يستغرقه نوم  عميق بعد أن أشبعت عواطفه وعواطفها الجياشة إلى الحب والشوق... تسند رأسها على كتفيه ويأخذها سبات عميق."
نحن هنا أمام أنثى تحب وتمارس الشبق سواء في أحلام يقظتها أو حتى حين تغتصب!
وتأتي ليلى في (ليالي عزبة البوهي) معلنة عن أنثى شرسة قوية حتى وهي تخضع لذكر هو دونها، وتسلم نفسها وجسدها له إشباعاً لحاجتها المادية في إعادة إنتاج مشروع لأقدم مهنة في التاريخ، وحين تعجز عن الاستمرار في هذا الواقع تتمرد عليه بسلوك مواز لسلوك البطله التراجيدية (ميديا) هذا السلوك القاسي الحازم الذي لا يأبه بأية منظومة قيمية.
السارد العليم
يقوم بسرد الأحداث في أعمال عاطف عبد الرحمن سارد عليم يقدم لنا تصوراً شديد التميز عن الأنثى يتراوح بين الساخن والبارد فهي صانعة الحياة وهي قبرها، وهي من يمنح اللذة، ويغتال القيم في المقابل، ويبدو أن هذا السارد العليم يعاني من عقدة بارانويا ذكورية تجعله واقعاً في عشق الأنثى لا يملك منها فكاكاً، فيضن بالأنثى على الثائر الذبيح، ويدينها في الوقت ذاته بالحسية والسقوط الجنسي والرذيلة، فهو واقع في منطقة وسطى بين الاشتهاء والحرام والخوف التاريخي الموروث أنثروبولوجياً... خوف الذكر من الأنثى التي تنزف ولا تموت، وتخرج منها الحياة.
ختاماً... يقول محمد إبراهيم مبروك في تقديمه رواية (أيام الإمام):
"لقد سئمنا من كتابات تعوزها الموهبة بالأساس، والوعي العميق بضرورة إجادة الكاتب لعمله وإبداعه الخاص، وإدراكه لدوره في المجتمع... والرد الوحيد الناجح ضد هذه الطفيليات هو مقاومتها بالإبداع الحقيقي الذي يفضح ويعري ويحاصر ويستأصل هذه الظواهر."
إن ثلاثية عشوائيات (أيام الإمام – زمن العشق والجنون – ليالي عزبة البوهي) هي نماذج تنتظم في عقد قليلة جواهره، تمارس تأصيل السرد المصري المعاصر، وتصنع النمو الطبيعي للسرد الذي قدمه جيل الرواد ومن تلاه من كتاب حقيقيين مثل يوسف إدريس ونجيب محفوظ ويعقوب الشاروني وبهاء طاهر ويحي الطاهر عبد الله وصنع الله إبراهيم وغيرهم... أولئك الكتاب الذين وضعوا السرد المصري والعربي على خارطة الإبداع الإنساني، وحجزوا للثقافتين المصرية والعربية أماكن في المنتج الإبداعي للحضارة الإنسانية.
إن رؤية عاطف عبد الرحمن للثورة أن المفهوم الرومانسي لها يفتقد النضج والموضوعية وغير قابل للحياة، وأن أفضل ما يقدمه هذا النموذج أن يكون شهيداً أو ذبيحاً في لعبة الصراع التي ينتصر فيها دوماً الأقوياء وأصحاب السلطة كما لو كان يعيد ترتيل أنشودة أمل دنقل في قصيدته الخالدة (كلمات سبارتكوس الأخيرة) ...
إنّي تركت زوجتي بلا وداع
وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها... بلا ذراع
فعلّموه الانحناء ..
علّموه الانحناء ..
علّموه الانحناء ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق