السبت، 4 أغسطس 2018


عاشق الإسكندرية إدوارد الخراط

أحمد إبراهيم أحمد
الكاتب والكتابة
وُلد ادوارد قلته فلتس يوسف الخراط في 16 مارس 1926 م بالإسكندرية لعائلة قبطية أصلها صعيدي لأب من إخميم في صعيد مصر وأم من غرب الدلتا في الشمال، وأقامت أسرته في غيط العنب أحد أعرق أحياء الإسكندرية الشعبية، ونشأ، وعاش شبابه في المدينة البحرية، وحصل على ليسانس حقوق جامعة الإسكندرية عام 1946م وشارك في الحركة الوطنية، وتبنى الفكر اليساري الوطني، واعتُقل في معتقلي أبي قير والطور 1948 م وعمل في إدارة الكباري بمخازن البحرية البريطانية، ثم البنك الأهلي، فشركة التأمين الأهلية بالإسكندرية، ثم مترجماً بالسفارة الرومانية بالقاهرة، ثم في منظمة كُتاب آسيا وإفريقيا، ليتفرغ بعدئذ للكتابة والنقد والترجمة، وصدر له أكثر من خمسين مؤلفاً ما بين قصص وروايات وشعر ونقد، وفاز بجائزة الدولة التشجيعية لمجموعة قصصه ساعات الكبرياء في 1972م وغادر دنيانا أول ديسمبر 2015م بعد عُمر بلغ تسع وثمانين عاماً.
تمرد الخراط على التيار السائد في السرد بشكله المعروف، ورفض (الواقعية الاجتماعية) التي تبناها نجيب محفوظ في خمسينات القرن العشرين، واعتبر ألا حقيقة إلا حقيقة الذات ورجّح الرؤية الداخلية، وحوّل مسار السرد من حكايات أبطال وصراع اجتماعي لصراعات داخلية لأفكار الشخصية في مسار سماه (الحساسية الجديدة) كان أوّل مُنظّر لها في الأدب العربي بعد هزيمة 1967م واعتبرت أول مجموعاته القصصية الحيطان العالية الصادرة عام 1959 م منعطفاً في السرد العربي إذ ابتعد عن الواقعية السائدة آنذاك وركّز اهتمامه على وصف خفايا الأرواح المعرَّضة للخيبة واليأس، ثم أكدت مجموعته الثانية ساعات الكبرياء هذه النزعة برسم شخصيات، تتخبط في عالم من الظلم والاضطهاد والفساد.، واستعرض آرائه في عدة كتب نقدية من أهمها (أنشودة للكثافة) حيث يقول عن دافع الكتابة لديه: "أكتب بدافع التمرد والاكتشاف، ولتحقيقِ الذات، والتجديدِ، وإعادةِ النظر في الأمور؛ أي إعادةِ صياغة العالم، والسعي إلى تغييره في المدى البعيد نحو الأجمل، والأعدل، والأفضل" .
ومن أعمال إدوار الخراط المميزة (خماسية ميخائيل قلدس) التي تضم خمس روايات هي: (رامة والتنين-الزمن الآخر-يقين العطش-صخور السماء-طريق النسر) التي يروي فيها أزمة الإنسان المعاصر بتعقيداتها والتي تعتبر نموذجاً للرواية التجريبية ونظريته عن الحساسية الجديدة في الكتابة.
وشكلت روايته الأولى رامة والتِنِّين الصادرة 1980م حدثًا أدبياً في الوسط الثقافي المصري والعربي؛ حيث ميزها اختلاط عناصر أسطورية ورمزية من الحضارات الفرعونية، واليونانية، والإسلامية، وأخذت هيئة حوار بين رجل وامرأة، ثم أعاد الكرة في روايته الزمان الآخر عام 1985 م وعدد من القصص القصيرة والروايات التي يصعب تصنيفها كنصوص متحررة من الاعتبارات الإيديولوجية التي يحملها الكاتب.
أسهمت ثقافة إدوار الخراط الفرنسية، واعتداده بمصريته في ابتكار أساليب كتابة متميزة، أخذت في اعتبارها الشروط التاريخية الخاصة بالثقافة المصرية، وتجاوزتها في نفس الوقت، وصدر له أكثر من خمسين إصداراً ما بين السرد، والشعر والنقد ومن مؤلفاته المجموعة القصصية حيطان عالية، ورواية رامة والتنين، والزمن الآخر، وأضلاع الصحراء، ويقين العطش، وأعمال أخرى منها مسرحيات ودراسات، إضافة لترجمة تسعة عشر كتاباً للغة العربية.
الكاتب المجرب
تتميز كتابات إدوارد الخراط بالتجريب المنفتح على الآخر، والثورة على الثوابت بوعي نقدي، أنتج نقداً إبداعياً، واحتفي باللغة وحاول تطويعها، واستمدت معظم كتاباته هويتها من بيئته السكندرية، فيقول عاشق الإسكندرية في معشوقته التي لا ينضب بحر غزله فيها: "إسكندريتي... وجدٌ وفقدان بالمدينة الرخامية، البيضاء الزرقاء، التي ينسجها القلب باستمرار، ويطفو دائما على وجهها المزبد المضيء. إسكندرية، يا إسكندرية، أنت لؤلؤة العمر الصلبة في محارتها غير المفضوضة."[1]
"عرّشت أشواق عشقي في مدينتي العظمى الإسكندرية... الثغر المحروس... الميناء الذهبية رؤيا ذي القرنين وصنيعة سوستراتوس المهندس العظيم ولؤلؤة (قلبطة)... كيلوباترا عند إدوار الخراط... الغانية الأبدية... المدينة الساطعة المرخمة التي لا تحتاج بالليل إلى نور لفرط بياض رخامها... أكاديمية أرشميدس وأراتوسنيس الفيلسوف والشاعرين أبولنيوس وفاليما خوس... عاصمة القداسة والفجور معاً... أرض القديس مرقص والقديس أنانيوس... مدينة البطاركة... مدينة المراتع والمحارس والمدارس والمسارح والجنان... ذات العماد... ذات الأربعة آلاف حمام... الأربعة آلاف ملهى... الأربعة آلاف بقال... عروس البحر الدفاق من القلزم إلى بحر الزقاق... جامعة المزارات من سيدي المرسى أبى العباس وسيدي أبى الدردار إلى سيدي الشاطبى وسيدي جابر وسيدي كريم رضوان اللـه عليهم أجمعين... ذات الشوارع الفساح وعقائد البنيان الصحاح... جليلة المقدار رائعة المغنى... شامخة الكبرياء يا إسكندرية يا شمس طفولتي وعطش صباي ومعاشق الشباب."
فيتحول المكان/الإسكندرية بذلك في سرد إدوار الخراط لحاوية، تضم التاريخ القديم والحديث ببشرهما وأفعالهما، لنصبح أمام حالة زمكانية خاصة بالإسكندرية المكان، تصنعها لغة الكاتب التي تعكس نوستالجيا للأمكنة والأزمنة في سياق واحد.
تشكلت ذاكرة إدوارد الخراط الكاتب الإنسان معجونة بالانتماء للقضية التي آمن بها والمكان، فكتب عن الإسكندرية كتباً (ترابها زعفران- يا بنات إسكندرية- طريق النسر) إذ كانت زهرة في قلبه، ينشر عطرها للعالم رغم استقراره بالقاهرة، فكتب يناجيها "أنظر إلى البحر وأفقه الغامض، أعرف أنه لا شيء وراءه أبداً... هذا امتداد لا نهاية له للعباب المجهول إلى ما لا نهاية له، و كأنني أرى شاطئ الموت نفسه، سوف أعبره، بلا عودة و لا وصول.". كما قال في روايته الأشهر ترابها زعفران: " إسكندرية يا إسكندرية... أنت لست فقط لؤلؤة العمر الصلبة في محارتها غير المفضوضة ... مع ذلك أنشودتي إليك ليست إلا غمغمة وهينمة ".[2]
وتظلل ذكرى شهر رمضان في إسكندرية طفولة الخراط، فتمتزج الأصوات بالروائح بصور الأشياء في الأماكن، لتصنع صورة لحالة وجدانية خاصة يحتويها المكان "كان صوت الشيخ محمد رفعت يترقرق من صناديق الراديو الكبيرة ذات العين الواسعة المميزة في الدكاكين والمقاهي والبيوت المفتوحة الشبابيك قبل مدفع الإفطار، كان صوتاً سلساً وجميلاً ومنذراً - بحزن - من عذابات الخيانات والكفران بالنعيم."
حصل إدوارد الخراط على جائزة الدولة التشجيعية، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1973م عن المجموعة القصصية ساعات الكبرياء، وجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة 1999م، ثم جائزة الدولة التقديرية في الآداب بنفس العام، وجائزة ملتقى الرواية العربية الرابع بالقاهرة في فبراير 2008م.
أُدخل إدوارد الخراط المستشفى مصاباً بعدوى في الحنجرة والبلعوم والجهاز التنفسي، تفاقمت حتى أصبحت التهاباً رئوياً حاداً لم يستجب للمضادات الحيوية حتى انتقل للرفيق الأعلى.


[1] إدوارد الخراط: إسكندريتي
[2] إدوار الخراط: ترابها زعفران، دار الآداب البيروتية للنشر والتوزيع، 1986 م مكتبة الأسرة، 2008 م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق