السبت، 4 أغسطس 2018


المختلط في تاريخ مصر الحديث
دراسة لرواية (المختلط/ ود) لداليا أصلان
بقلم: أحمد إبراهيم أحمد
مقدمة
"شهدت مدينة المنصورة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحولاً في شخصيتها التقليدية نحو ثقافة عالمية غربية التوجه؛ كان هذا التحول حتمياً نتيجة لدورها المتزايد كمركز تجاري هام في وسط الدلتا؛ حيث تتجمع الحاصلات الزراعية الرئيسية من قطن وأرز وقمح؛ وقد ساد الاعتقاد بأن المهاجرين - بشكل رئيسي من حوض البحر المتوسط- قد لعبوا دوراً رئيسياً في إعطاء المدينة وجهاً عالمياً جديداً. [1]"
نقد السرد
حققت نظريات السرد تطوراً كبيراً بعد إنجاز الشكلانيون الروس[2] عملهم بدايات القرن العشرين بعد تأصل قواعد كتابة الرواية في القرن الثامن عشر، ويذهب والاس مارتن[3] في كتابه (نظريات السرد الحديثة) إلى أن التبدل الذي طرأ على دراسات نقد الرواية تمثل في تطور نظريات الرواية إلى نظريات السرد[4].
ويعتبر الأستاذ الجامعي الكندي نورثروب فراي[5] من أهم المؤثرين في تطور نقد الأدب الذي ساهم في الانتقال بنظريات الرواية إلى نظريات السرد، وتوسيع حدود التخييل حيث جعل الرواية واحدة من مجالاته، وهدم الحواجز بين الشعري، والنثري، والشفهي، والكتابي، والسرد القصير، والطويل، وربط بين متغيرات التخييل ومسار التاريخ في تصنيفه الأدبي على أساس العوالم والشخصيات والموضوعات، وذهب إلى اعتبار الواقعية الاجتماعية صفة مميزة للرواية، واستبعد من قائمة التخييل كتابة التاريخ والسير، وحدّد هوية الرواية على أنها نوع من التخييل النثري الذي قد لا يكون بعضه سرداً.
مستويات التلقي
تعتبر مسألة التلقي من الموضوعات الهامة التي لا يتناولها النقد رغم أهميتها في إطار نظرية رولان بارت عن (موت المؤلف) حيث يعيد القارئ تكوين الخطاب السردي بأدواته الخاصة المبنية على تكوينه المعرفي والثقافي، ويمكن تقسيم مستويات التلقي ببعض التجاوز إلى ثلاث مستويات أساسية:
المستوى الأول: التلقي المباشر
ويُعنى المتلقي في هذا المستوى بالحكاية المسلية، والإثارة الناتجة عن الأحداث العاطفية أو العنيفة.
المستوى الثاني: التلقي المعرفي
يتلقى المتلقي العمل السردي مستنداً إلى أدواته المعرفية المكتسبة من التعليم وخبرات الحياة بحيث يستطيع التمييز بين بعض وليس كل عناصر السرد، وإصدار بعض الأحكام التي تكون أخلاقية، أو عقائدية في الغالب.
المستوى الثالث: التلقي التحليلي الفلسفي
يستطيع متلقي العمل الإبداعي في هذا المستوى استيعاب المستويين الأول والثاني؛ حيث يستمتع، ويستوعب عناصر العمل الإبداعي، ولكنه يمتلك عقل علمي تحليلي إضافة لذلك، يمكنه من تفكيك عناصر العمل، ورؤية بنيته الأساسية، والتعرف على مختلف عناصرها بوضوح، واستكشاف علاقات التفاعل بين هذه العناصر، ورؤية الفلسفة الكامنة وراء العمل، وتطبيقاً لهذا التفسير يأتي النقد في المستوى الثالث من مستويات تلقي العمل الإبداعي.
وصف المطبوعة
يُصنف عمل داليا أصلان السردي (المختلط - ود) كرواية متوسطة الحجم طبقاً لنظرية الأنواع الأدبية، تمت طباعتها بمعرفة دار الثقافة الجديدة في 256 صفحة من مقاس (ِA5) الـمُعدل لمقاس 20x 14 سم، ومقسمة واحد وثلاثون قسماً.
متوالية  سردية
تحمل أقسام الرواية الواحد والثلاثين عناوين فرعية هي:
(أحمد جلالة ص ١١- مصطفى أحمد جلالة ص ٢٩ - حسن حافظ ص ٣٩ - سجايا ص ٤٢- المختلط ص ٤٨- عفت عبد الرزاق ص ٥٧- فهمي ص ٦٠ – لوسييل ص ٧٢ - الحسينية وسوق الخواجات ص ٧٥ - الرب واحد ص ٨٢ - أولاد البيَلي ص ٨٦- الشريف القيسي ص ٩٣- جلال وإبراهيم ص ٩٦- شقة إيڤان ص١٠٤-سكة سندوب ص١١١- أولاد حابسة ص ١٢٢- زواج نفيسة ص ١٢٩- العودة لبيت سلطان ص١٤١- فصل ما لوش اسم ص ١٤٦- أسرار يسمعها الجميع ص ١٥٥-زينب ص ١٦٢- جلال... فهمي ص   ١٦٨- سعد وعايدة ص ١٧٩- حلويات إيڤان ص ١٨٤- بين ناصر وصلاح الدين ص ٢٠٤- شقة صفاء ص ٢٠٧- الحياة تعيسة ص ٢١٤- أنا ويحيى ص ٢١٨- ابن وردة ص ٢٢٦- شعبان أبو ستيت ص ٢٣٧- ود ص ٢٤٤)
تمثل أسماء الأشخاص أربع وعشرين من هذه العناوين، وثلاث أسماء لأماكن، وأربع أسماء موضوعية، وتصنع هذه الأقسام وحدات مترابطة منفصلة، تضعنا أمام موزايك، يصنع متوالية خطاب سردي، تحاول هذه الدراسة تفكيك عناصره الأساسية.
المدخل... غلاف وعنوان
تحمل الرواية عنواناً مزدوجاً (المختلط) تحته في الجانب الأيسر بين هلالين (ود) حيث (المختلط) اسم بيت وحي في مدينة المنصورة تدور فيهما أحداث العمل، و(ود) هو اسم جدة ساردة الحكاية.
ويمكن تفسير العنوان في إطار فهم الغرائز Instincts تؤكد ذلك الدلالة السيميائية للعنوان المزدوج (المختلط/ود) = (المكان/الجذور) حيث يدعم هذه الدلالة اختيار اسم المكان الذي يؤدي للشعور بالأمن، واختيار اسم الجدة كتعبير مباشر عن الانتماء الأمومي الذي يحقق الانتماء لجماعة، ويساهم التكوين التشكيلي للغلاف الذي يتكون من درجات لون واحد Monochrome لمنزل تحيط به أشجار، وشريط رأسي في أيسر الغلاف مكون من صور لأشخاص يوحي مظهرهم أنهم قادمون من تاريخ ليس ببعيد... ومكتوب اسم العمل بخط نسخي فقير أسود اللون، لا يحمل من حيث الحجم والشكل أي توافق مع تكوين الغلاف؛ مما شكل نقطة ضعف تشكيلية في بناء الغلاف/اللوحة، ورغم ذلك يشير العنوان (لغوياً) والغلاف (تشكيلياً) بدلالات سيميائية لا لبس فيها أننا أمام عمل يتناول المكان والبشر... أي يقول أننا سنقرأ رواية (مكان) هو بيئة أحداث سرد تتم بإرادة الشخصيات، أو ضد هذه الإرادة.
خطاب السرد
اعتبر الشكلانيون أن تأصل قواعد كتابة الرواية علامة على تأكيد استقلال الفرد فلسفياً وسياسياً؛ واعتبر نقاد المذهب الاجتماعي أن هذه القواعد تشير لتأثير الطبقة الوسطى كقوة تُساهم في صنع التاريخ، يوضح ذلك أن رغبة استقراء التاريخ الخاص شكلت دافع الكتابة الإبداعية عند (المؤلفة/السارد العليم) لتفسير الواقع العام، ورغبة المساهمة في صنع الواقع والمستقبل، لتؤكد تفاصيل السرد انتماء المؤلفة للطبقة المصرية المتوسطة في شريحتها العليا، أو المتوسطة مع ملاحظة أن الحياة الخاصة للفنان شيء مختلف تماماً عن خبرته الذاتية حيث تستفيد الحياة الشخصية، والذات الإبداعية من الخبرة الذاتية بأقدار متفاوتة وأن الخبرة الذاتية نتاج للحياة الخاصة والذات الإبداعية معاً حيث تقوم بين الثلاثة علاقة جدلية متشابكة.
تُصَنِف هذه الدراسة رواية (المختلط-ود) -من هذا المنطلق- باعتبارها (سرداً روائياً) ينتمي للواقعية الاجتماعية، وتحاول تفكيكه حتى يمكن استبصار مضمونه باعتباره (سرد حكاية مكان، وبشر عبر مساحة زمنية متغيرة) دون أن تكون تأريخاً للمكان إلا في حدود كون هذا المكان (المختلط/البيت/الحي) سياقاً مكانياً Place context ممتلئاً بالأحداث، وليس سيرة ذاتية لشخصيات أو شخصية بعينها؛ إذ يمتلئ النص بعدد وافر من الشخصيات (فاعلة وهامشية) دون وجود بطل وخصم Protagonist/Antagonist رغم أن شخصية (الأشعل/فهمي) تقوم بدور واسطة عقد بين الشخصيات.
دعوة للتحديث
تفتتح الرواية فقرة دلالية هامة هي مبرر خطاب السرد...
"البيت عمره مئة سنة، ارتفاعه ثلاثة طوابق، يمكنه تحمل خمسين أخرى مع الترميم الخفيف. لماذا أُعيدُ بناءه؟ قال بعد أن طال سكوتنا.بعد نصف دقيقة أخرى، سأل: لأجل من أبنيه من جديد؟"
هذا السؤال - الذي لا تجيب عنه الساردة إلا عبر كامل النص السردي - ربما كان هو أداة الولوج لخطاب هذا العمل من السرد الروائي (المختلط/ود) فهو رسالة مجازية من الكاتبة للقارئ، تقول له بشكل غير مباشر أن واقعنا المختلط بحاجة لإعادة بناءه لتحديثه حتى لو كان قادراً على الصمود أزمنة مستقبلية، وربما يستلزم التجديد الخلاص من واقع قائم بما يستند عليه من تاريخ، لأن أجيالاً جديدة ستأتي هي بحاجة لبناء جديد، يتخلص من كل آثار القديم.
فهل يحتاج التحديث للتخلص من الماضي؟
لغة سرد أنثوية لا نسوية ولكن...
حدد إهداء الكاتبة عملها السردي (إلى أمين أصلان/ الأب، وإلى ربات البيوت) وخلط العنوان بين اسم المكان، واسم الجدة التي تنتهي الرواية بالحديث عنها في فقرة كاملة تعبر عن هوية أنثوية إنسانية للكاتبة، تُثمن الانتماء للجذور، وتدرك أهمية الانتماء لنوعها الاجتماعي كأنثى؛ مما يعكس وعياً ناضجاً بالعلاقة الاجتماعية الطبيعية بلا أي انتماء نسوي Feministic يمكن تفسيره كانحياز سياسي، أو ثقافي غير سوي أو مرضي... مما ينعكس على لغة الرواية التي تتميز بانسياب وبساطة بناء الجملة، واسترسال في الوصف يميز أسلوب المرأة (كنوع اجتماعي) كما وصفه الكاتب الإيطالي لويجي براندللو[6]Luigi Pirandello  الحائز على جائزة نوبل وليس (النسوي Feminism/Feminist) بالمدلول السياسي؛حيث اللغة الأنثوية لغة مسحورة بالتفاصيل، تنسج منها المؤلفة دانتيلا مشهد بصري شديد الغنى، فتقول بصفحة 93:
"كان بالرجل بياضا كبياض رمل الصحراء وشُقر الخيل، لا البياض المحمر كالأتراك، أنفه مستقيم حاد، عيونه كبيرة لكن وديعة، دخلوا عليه، أبي وجدته في ساحة ممتدة فسيحة ببيت من الحجر غير مسقوف كله هذه الباحة تحديداً كانت ذات ثلاث جوانب من جلود الغنم، والزوايا من جريد النخل الجاف، أجلسوهما على أريكة خشبية لها مساند مميزة عن بقية الحشيات مكانها قريب من كرسي الرجل الذي يتصدر الرؤية في ذاكرة أبي، كان بقية المكان مفروشاً بسجاد صوفي تعلوه "تكّايات عربي، منظمة في صفين متقابلين."
ويمتلئ العمل للأسف بالأخطاء اللغوية رغم جماليات السرد سواء من حيث بناء الجملة حيث تأتي كثرة من الجمل الاسمية في مواقع الجمل الفعلية[7]، وعلامات الترقيم التي إما أن تكون في غير موضع استخدامها؛ كاستخدام علامات التنصيص مكان استخدام الأقواس، أو عدم استخدام علامة بدء الحوار التي استعاضت عنها الكاتبة بذكر اسم المتكلم بعد الجملة المنطوقة.
"البيت عمره مئة سنة، ارتفاعه ثلاثة طوابق، يمكنه تحمل خمسين أخرى مع الترميم الخفيف. لماذا أعيد بناءه؟ قال بعد أن طال سكوتنا. بعد نصف دقيقة أخرى سأل: لأجل من أبنيه من جديد؟" ص 10
"أعلى ما ف خيلك اركبه" قال الحاج عبد الرزاق، وهو يقترب من الخواجة يهدده. "هتاكل تعبنا بالظلم يا إيفان؟" قال جدي وهو يحجز بينهما ووجهه للخواجة يعاتبه." ص 17... الخ.
وتلاحظ أن هذه النوعية من الأخطاء تكاد تتكرر في غالبية الأعمال المطبوعة حتى من دور نشر كبيرة؛ مما يشير إلى مسئولية الناشر عن المراجعة اللغوية، والتقصير في الالتزام بقواعد النشر –خاصة – في ترتيب الفصول، وبدء كل فصل بصفحة فردية الترقيم والتي يمكن بسهولة ملاحظة الالتزام بها من قبل الناشرين غير المصريين، وهو عيب موجود للأسف في هذا العمل.
سياق السرد...  الزمن
يضعنا الخطاب السردي أمام زمنين كلاهما خطي كرونولوجي، يخص الأول المؤلفة والمتلقي، وهو زمن قراءة الخطاب السردي، وزمن آخر تدور فيه أحداث الرواية (زمن السرد) الذي يمتد حوالي الستين عاماً؛ حيث تحدد الكاتبة بوضوح في ص 10 بداية زمن الحكاية... "أنظر إلى الحجر الأصفر الكبير الموجود في قمة القوس،١٩٢٠" ليتدفق زمن السرد طوال صفحات الرواية بلا أية محاولات لكسر الطبيعة الواقعية للزمن، وبلا أي تشظٍ حتى يصل قبل نهاية الرواية بصفحة واحدة إلى عام 1977م حين تعلن وفاة الجد، ثم توضح الكاتبة أن الأحداث لم تتوقف حين مات الجد بل تعلن في ختام روايتها في ص 246 "في مطلع ١٩٧٧ مات جدي مصطفى عن عمر يناهز الثلاثة وسبعين عاما على إثر حالة حمى شديدة لم نعرف لها سببا، ثمانية وأربعون ساعة وتوقفت الدورة الدموية وفارق الحياة." إلا أن خطأً مربكاً (ربما طباعياً) في الفقرة السابقة يربك المتلقي حيث يتحدث الجد، ويفعل بعد موته.
"في منتصف العام ١٩٨١ خرج النادي من محبسه ولم يقبله صاحب عمله القديم، قالوا استبدله بغيره منذ مدة ولم يعد له مكان الآن، في حين وصل إلى شعبان وأخيه أن الرجل قال أن النادي قاتل أو معين على قتل، وجوده في ورش الحسينية شبهة، فعرض جدي عليه العمل عنده "ولاد شوقة تربيتنا" كان هذا موقفه الشهم الأخير رغم أن أبي حاول إثنائه عن عرضه المتسرع."
إذ يبدو أن جملة (في منتصف العام ١٩٨١ خرج النادي) صحتها (في منتصف العام ١٩7١ خرج النادي).
ورغم تحرك زمن السرد في خط كرونولوجي مستقيم من الماضي إلى الحاضر، إلا أن الكاتبة تبدأ عملها السردي من الحاضر ليدور السرد دورة كاملة للزمن الماضي حيث تبدأ أحداث الحكاية في صفحة 11 تحت عنوان (أحمد جلالة) جد الراوية التي تأتي خامسة بين نسله حتى تنتهي الرواية في نقطة غير محددة لكنها تقترب كثيراً من نقطة البدء؛ حيث قرار الساردة بالتأثير في بنية الواقع ممثلاً في منزل المختلط وتحدد ذلك في صفحة 244"كتب جدي قبل موته بعشرة أعوام وكالة جلالة للأقمشة والأقطان باسم (ود السيد عنتر) جدتي." التي  تقول الكاتبة عنها في صفحة 245 "جدتي ود فعلت مثل ما فعل أبي، كانت تبكي في خلواتها كثيرا، لكن إن طلعت علينا كانت كنمرة متربصة بالحياة، أو هكذا أرادت أن تظهر، خاصة في وجود أمي، ربما كانت تستمد قوتها لمتابعة العيش من هذا العداء، في الوقت الذي كانت أمي فعلا تقضي وقتها بيننا وبين غيبوبات رطبة لذيذة متقطعة مع مريم.
أمرا آخر جعل لجدتي هذه السطوة على الحياة بعد رحيل الحبيب، الوكالة، لقد ارتدت فستانها الأسود (الميدي) ذات صباح بعد الأربعين، وضعت غطاء رأس من التل الشفاف بنفس اللون، انتعلت حذاءً له كعب مدبب ذو ارتفاع معتدل، كانت طويلة سمراء بضة، تحب الأناقة، ورائحة النظافة، ومجالسة اللطفاء، كل ما يبرز أنوثتها رغم أنها في الستين. ظلت تغدو إلى الوكالة وتروح حتى اليوم الأخير في حياتها. جدتي لم تيأس أو تمرض أبداً." وكتابة تاريخ وفاة الجد بدقة والتأكيد على زمن نقله ملكية الوكالة للجدة يشير إلى عام 1967م (عام النكسة)! فهل فعلت الكاتبة ذلك عمداً، أو أنها مجرد صدفة؟
سياق السرد...  مكان الأحداث
يحصر السرد المكان - بصرامة - في مدينة المنصورة، وتحديداً في منزل المختلط بحي المختلط الباقي منه الآن شارع (فاروق الأول – نهضة مصر – فريدة حسان) الذي يعتبر من مراكز مدينة المنصورة الحضرية والتعليمية؛ حيث توجد به كنائس ومساجد عريقة؛ إضافة لمدارس عربية وأجنبية تاريخية، ويتحرك السرد في بعض الأماكن الأخرى المحدودة في نفس المدينة؛ ما عدا استثناءات محدودة - ترتبط بخروج شخصية أو أكثر من شخصيات العمل سواء للقاهرة أو للشرقية - بمبرر منطقي في إطار تطور الأحداث.
"لم يذهب بها لأمها، بل للقاهرة. استأذن أباه في أن يزور آل البيت بزوجته الجديدة، فقبِل، ووافقته أمه بنصف قلبها، ثم دعت لهما بالسلامة والصلاح... النصف الآخر كان مع الجازية، تلك التي حبست نفسها في غرفتها منذ مدة.لم يزورا الحسين فقط، إنما وقصر العيني أيضا. فحص جدتي يومها طبيب مهندم قصير القامة، أخبرهما بحرفية وحزم أنها حامل.مصطفى لم يصدق، انفعل وبدأ في حكي غير مرتب عن ختانه، وكيف أن زواجه الأول لم ينذر عن بشارة مماثلة." ص 34
"عاد مصطفى من بيت خاله بالشرقية في اليوم التالي، فوجد زينة وطبلاً وخيلاً، فقراء عند الباب الكبير للدار، طبليات مرصوصة هنا وهناك، لحم وفاكهة وأرز، نسوة يدخلن ويخرجن." ص44
وتحدد الكاتبة بوضوح في ص 10 عمر المكان بمائة سنة "البيت عمره مئة سنة، ارتفاعه ثلاثة طوابق، يمكنه تحمل خمسين أخرى مع الترميم الخفيف." ويبدو هدف السرد واضحاً من الجملة الأخيرة من الفقرة التي تقول:
"سأعيد تدوير الحكاية. ألصق قطع الأحجية الكبيرة متجاورة، ألخصها في رأسي، في عمري هذا، بترتيبي."
نحن إذاً أمام كاتبة واعية تحكي (حكاية أزمنة في مكان محدد) حتى تستطيع استيعاب الواقع من خلال فهم الماضي/ التاريخ، ويتضح ذلك على امتداد الرواية بتعليقات متعلقة بمفاهيم سياسية واجتماعية إشكالية... تضعنا أمام أحداث زمن محدد واضح وفاعل في مكان محدد، لفهم الواقع باستيعاب التاريخ غير البعيد من خلال (سرد) بسيط حتى تستفيد الكاتبة من التاريخ الشخصي، والعام، لتقديم صورة إبداعية عن الواقع باستقراء التاريخ القريب.
سياق السرد...  الأشخاص المشاركة في تطور أحداث السرد
تقدم الساردة سياقين أولهما سياق خاص، يتمثل في علاقات الأسر المختلفة؛ في إطار سياق عام هو أحداث الوطن، ويتمحور فعل السرد في هذه البيئة من خلال شخصية عامة هي (جمال عبد الناصر) وشخصية من بيئة السرد الخاص هي (فهمي الأشعل) حيث تحظى شخصية جمال عبد الناصر بالكم الأكبر من التساؤلات والتعليقات عن شخصية عامة أو تاريخية، وردت في السرد، وشخصية فهمي بقدر من الإعجاب الممزوج بالدهشة وتساؤلات الساردة (التي هي شخصية ناضجة وجزء أصيل من شخصيات السرد واضح انتمائها للشريحة العليا القادرة اقتصادياً من الطبقة المتوسطة) فتقدم سرداً مليئاً بشخصيات عدة تمثل سياقاً إنسانياً للسرد حيث تعرض الكاتبة التكوين الاجتماعي لثلاث أسر إضافة لشخصية (وافدة) تمثل محوراً للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية حيث تتكون هذه الأسر على النحو التالي:
أسرة أحمد جلالة
أسرة سلطان

أسرة عبد الرزاق
وترى الكاتبة في جمال عبد الناصر سؤالاً مطروحاً حول فاعلية قراراته في صنع الواقع سلباً وإيجاباً، وتؤكد أن الأجيال التي ولدت في الستينات والسبعينات والثمانينات ما زالت محملة بالرؤية الأسطورية لبطل، لم تجد له الكاتبة شبيهاً تاريخياً سوى صلاح الدين، لتكتب فصلاً كاملاً يبدأ في صفحة 204 تحت عنوان (بين ناصر وصلاح الدين) رغم تحفظنا على سيرة صلاح الدين التي تم تزييفها لصنع بطل تاريخي يحمل في حقيقته شبهات وجرائم سلطة قمعية شرسة متمترسة بالدين، وقد جاء ذكر عبد الناصر في عدد ثمانية مقاطع كبيرة على امتداد الرواية وهو حجم من الاهتمام السردي لم تحظ به أية شخصية أخرى من شخصيات الأسر في العمل كله سوى شخصية فهمي/الأشعل، وكانت هذه المقاطع:
1.      "مع رحيل الملك ودخول عصر الجمهورية، ثم الحروب المتعاقبة، تغيرت الدنيا تماما، تلاشى الكثير من أساسيات الطبقية والألقاب التي درج عليها الناس، تغير الوعي، التعليم، الاقتصاد، ومن أهم خصائص ثورة يوليو أنها لم تأتِ بشكلها وأصواتها الخاصة فقط، إنما حفرت صورا نفسية عن الحياة في صدور الناس مناقضة لما نشئوا عليه في عهد المملكة. فعلت مبادئها بخطابات ناصر اللاهبة، دمغت الناس، صبغتهم بلونها، فما أن تقول مصر حتى تقول ثورة، وما أن تقول يوليو حتى تغزوك نبرة ناصر. تُلِيت تلك الفترة قصص كثيرة." ص 124
2.       "أعلن عبد الناصر، غزة منطقة حكم ذاتي داخلي. لم أفهم يوما معنى تلك العبارة، ففلسطين في مخيلتي حتى الآن قطعة واحدة محتلة منذ ولدت. أعجب هذا الخبر عمي ودافع عنه أمام جدي مصطفى الذي كان يرى ناصرا حاكما غبيا. "ضيع مننا غزة، والسودان، واليمن، وسوريا، والحجاز" ظل جدي يردد هذا القول للنهاية، أحب أنور السادات لفوزه بالحرب مع اليهود أكثر مما تقبل عبد الناصر. "عبد الناصر زعيم ماجابتوش وّلادة، نضيف، محترم، كفاية إنه ميت ماسابش لولاده غير معاشه"؛ عمي صلاح في بداية عصر مبارك." ص 188
3.       "كان صلاح قوي الشكيمة سريع الغضب، إذا اعتنق فكرة أو انضم إلى شخص دافع عنهما وإن كانا على خطأ، مبدأه "انصف
شريكك الأول قصاد غريمه، لما بينك وبينه اخلع عينيه". وكان مشبعاً بعبد الناصر يعتبره شريكه." ص 189
4.       "توقف عن مضغ الجزر الذي في فمه وقال بوجه جاد: "عملتإيه؟ أنا ما بحبش القاهرة، وكاميليا عارفة، بلد ملزقة ومنافقة، كل حتة فيها ريحتها صنان، إعلانات ألاضيش الانفتاح، وفنانين المقاولات من ناحية، وبواقي شعارات ناصر والقطاع العام والنقل العام والبيتنجان العام من ناحية تانية. بتشوفي كمية الشحاتين والنصابين هناك؟ الموظفين زي مساخيط الفراعنة طافحين فوق كل شق. بتشوفي ثكنات الجيش اللي محزمة البلد؟ مدن جديدة قال، نصر وعبور وعاشر، خرابات يدفنوا فيها أحلام العيال اللي طالعة ويسرقوا عرقهم، أعيش فين؟" ص 197
5.       بين ناصر وصلاح الدين
"بغض أبي لعهد عبد الناصر ومن بعده السادات كان سبب خلاف حقيقي بين أبي وعمي، لكنهما بطريقة أو بأخرى وجدا فقاعة أخوية خارج إطار الزمن وضغط الأحداث ليتبادلا النكات والمساعدات والقلق والدعوات بالتوفيق. حرب ٦٧ عاد منها صلاح بأعجوبة، كان هناك، في قلب المأساة، ولا أجد تفسيرا لهذه المفارقة إلا أنه كان مكتوبا له أن يعيش عمرا أطول، بلا جروح أو إصابات واضحة، معظمها شظيات رفيعة نثرت ندوبا دقيقة على ظهره وكتفيه والجانب الأيمن من وجهه، لا تميزها كندوب حرب إلا إذا أخبروك بذلك، وقد عشت أعواما أظنها آثار حبوب شباب قديمة. إلا أن هذه الحرب تركت في نفس عمي ما هو أعمق، إذ تهدم حبه لناصر. استقال الرئيس، خرجت الجموع تثنيه عن قراره المفاجئ، وغير المفاجئ، في وقت واحد. وكانت مصيبة في بيتنا بكت لها جدتي طويلا وكاد ينهار جدي. عاد عمي صلاح سائرا على قدميه من حدود غزة، سلم نفسه في بور فؤاد، ثم نقل إلى القاهرة. بقدر ما سر الجميع بعودته لكن أحدا لم يهنئه على ذلك. كانت حالته مزرية، عندما احتضنته جدتي "وِد" لتصدق أنه لازال حياً." ص 204
6.       "ولأول مرة يجد أبي نفسه مدافعا عن ناصر ولو من وراء قلبه، يريد استعادة أخيه، فقال: "لأ، يمكن طموحه أكبر من قدراته، مغرور زيادة، بس مش خاين.. انت عارف اني ما بقعدش لخطبه، بس ولا مرة سمعته فيها حسيت انه كداب".."ارجعوا شغلكم وحاسبوه من هناك يا صلاح، خلوه يصلح أغلاطه". ص 205
7.       "صرخت جدتي: "شهدي". قال جدي مقاطعا: "شهدي بيتكلم صح".. "قوم يا حا الزابط، احنا لما دخلنا الحرب دخلناها عشان مصر والا عشان ناصر؟" رفع لهم عمي رأسه محدقا ولم يجب. قال لي أبي: " شوفت الحيرة ف عينين عمك، كنت عارف انه شايف مصر وعبد الناصر شيء واحد". جيل كامل نشأ على غناء أم كلثوم للزعيم الأسمر بشخصه ووسامته، تهليل عبد الحليم وجاهين، أدبيات الثورة برواياتها وإعلامها وموسيقاها، تعززها جلسات الاتحاد الاشتراكي، خُطبه البسيطة في لغتها الجهنمية، في حلمها وحماسها، التأميم، تضافر الناس من خلفه في العدوان، قراراته حيال سوريا واليمن وليبيا والعراق وفلسطين والمغرب العربي والعروبة، والعالم، مشروع ضخم آمن به هؤلاء، انعجنوا به وفيه. كان من الصعب على صلاح أن ينجو، لأعوام، إنما في النهاية، رغم خسارات روحه، نجا." ص 206
الأشعل... فهمي
"فهمي صنو ذلك الجيل، الصبي الأشعل الذي أتى من المجهول ليصبح طرفاً في حياتنا ونصبح صلباً في حياته. كان أكبر من عمي صلاح بعامين أو ثلاثة. أطلقت الشرطة سراحه بعدما راسلت جميع القنصليات أو القائمين بأعمالها بصوره، فلربما قيدته إحداها في قوائم المفقودين. كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت ووقف العالم مكانه يلهث ويتفقد أجزاءه المبتورة، أوروبا تعد خسائرها، وألمانيا تتجرع ذل ما فعله هتلر بهم وبالثلاث قارات."[8]
تكونت شخصية الأشعل فهمي الذي تبناه الجد وهو الغريب الوافد من المجهول في قلب الأحداث، لتفرض وجودها على السرد، وتلقي بظل مؤثر على الأحداث، وتشارك في شبكة العلاقات المعقدة بين الأسر الثلاث التي تكون سياق الفعل السردي... وليتزوج قمرية ليكون لوجوده العبثي جذور ممتدة في بنية المجتمع... هو هذا الفتى الذي لم يجدوا أية أدلة على هويته ووجوده الغامض؛ مما دفعهم لتفسير هذا الوجود بسبب جنسي "هل مارس معه سيرافينو الفاحشة فعلا؟ هذا ما وددت بدافع الفضول الشديد معرفته ولم أفلح."[9]
ترك هذا الوافد أثراً لافتاً في البيئة التي جعلته الظروف جزءاً منها فأثر وتأثر، وأخذ وأعطى؛ حيث لعب بشكل غير مباشر دوراً مؤثراً في العلاقات الاجتماعية حتى يبدو كما لو كان هو بطل السرد Protogonist غير المباشر الذي ينقل خبرات حضارية غير مألوفة للمكان لكنها تجد قبولاً وارتياحاً، وتعبر الكاتبة من خلال هذه الشخصية عن طبيعة المنصورة كبيئة مصرية، تستوعب الأجانب الذين شكلوا بها جاليات من مختلف الجنسيات دون أن تتأثر هويتها؛ عكس مدن أخرى مثل الإسكندرية، أو بورسعيد اللتان اصطبغتا بهوية كوزموبولبتانية في كافة المناحي خاصة بنيتها الأساسية من مبان، وطرق، وخدمات، تأثراً بالجاليات اليونانية، والإيطالية، والفرنسية، والأرمن، والاحتلال الإنجليزي.
يؤكد حضور جمال عبد الناصر بهذه القوة في السرد، وكافة المؤشرات التاريخية على المستوى الشخصي لشخصيات السرد، وهوية الأشعل/فهمي الملتبسة استيعاب المؤلفة، لتأثير الفعل السياسي العام على حياة الأفراد، وكافة السياقات الحياتية.
روح السرد...
الحبكة... متن الحكاية (الوقائع)
سارت المؤلفة على خطى مؤلف رواية عالم جديد شجاعBrave New World  للكاتب الإنجليزي الدوس هكسلي Aldous Huxley التي تحولت إلى دراما شهيرة تحت مسمى (الجذور Roots) أو العودة للجذور، وروايات نجيب محفوظ أولاد حارتنا والحرافيش، وتتبعت الأحداث بعقل متفتح، مُتقبلٌ للتنوع والتناغم الطبيعي في التركيبة الاجتماعية، تكتب في ص 9...
"أسمع الأصوات المتزايدة لطلاب المدارس التي حولنا، وجرس كنيسة بعيد يعلن عن زيارة رجل دين مهم، أو موت أحدهم".
كما لو أنها تقول لنا منذ البداية أنها تحكي عن أصوات متعددة لكن بصوتها هي، فتقدم لنا عدداً كبيراً من الشخصيات في علاقات تفاعلية بين بعضها البعض، وبينها وبين الواقع المتحول، لتصبح حكاية الأشخاص ليست مجرد (حدوتة مسلية) بل أداة تعرض تاريخ وطن، وتبدي وجهات نظر في أحداثه، ولعل أفضل ما في هذا الأسلوب كونه غير مباشر، أو جازم بل يطرح تساؤلات، أو وجهات نظر لشخصية من الشخصيات الروائية وليست للكاتبة بشكل مباشر.
"ألا يمكن أن يعبد المرء الله ببساطة، بدون كل هذا التعقيد؟" قال عم فهمي وهي العبارة التي صاغها محمود بشكل آخر بعد نصف قرن حينما قال من باب مضايقتي: "وهو يعني لابد من خانة الديانة في الرقم القومي؟ ما ينفعش يكتبوا لي قصادها (بلا دين)؟" ثم ضحك وتركني للغيظ، آكله ويأكلني." ص83.
دلالات الحدث... البعد السيكولوجي
اعتبر فرويد أن دوافع السلوك الإنساني تنبع من غريزتين رئيسيتين هما:
·         غريزة الحياة والتي تدفع بالفرد إلى السلوك البناء.
·         غريزة الموت والتي تظهر في الميل للتدمير الذي يحدثه الإنسان.
حيث تتضمن الغرائز الدوافع الفطرية الأساسية التي تسمى بالحاجات العضوية كالجوع، والعطش، والنوم وكلها تكفل المحافظة على بقاء (الفرد) ككيان شخصي، وجاء من هنا اختيار (المكان/المسكن) باعتباره المأمن الذي يحقق الأمن الذي يكفله المأوى، ثم الدوافع التي تكفل بقاء النوع ككيان اجتماعي، وهي الجنس والأمومة، ثم تأتي الدوافع ذات الصلة ببقاء الفرد والنوع لذلك كان اختيار (الجدة/الجذور) لتجيء دوافع الاستطلاع التي تمكن الفرد من التعرف على البيئة وإقامة علاقات مجتمعية، وتساعده على تعليم وتطوير نفسه، وصنع واقعه، والتخطيط للمستقبل.
وتطرح الساردة تساؤلاً وجودياً عن طبيعة العنف الذي يدفع الإنسان لتدمير السياق الذي يعيش فيه وربما قتل نفسه من خلاله في ص 53 "إن لم يكونوا جميعهم في البيت وقتها ولا في الحياة، فمن قتل شانتال؟" ثم تطرح الساردة تساؤلاً وجودياً آخراً عن التناقض في قبول المسلمات الإيمانية الأسطورية في نسق عقائدي ورفضها هي ذاتها في نسق عقائدي آخر، وتطرح تساؤل فهمي/الأشعل على تفسير شيخ المسجد لقصة الإسراء والمعراج...
"وحكي قصة فرض الصلاة، ثم قال إنه عاد فهبط إلى حيث البراق فحل وثاقه وعاد به إلى مكة، وقف فهمي مرة أخرى وسأل الخطيب: "يا سيدي إن كنتم تؤمنون بأن الأحياء قاموا من قبورهم فصلوا خلف الرجل الأخير من رجال الله، وبأنه رآهم واحدا واحدا في السماء، وبأنه قد صعد ثم هبط وعاد لينام في فراشه في أقل من خمس أو ست ساعات، فلماذا ننفي إمكانية أن عيسى قد دفن ثم قام من قبره في قيامة مجيدة؟" ص 156
دلالات الحدث... البعد العاطفي
يعكس الخطاب السردي بعداً عاطفياً مؤثراً في بنية الخطاب السردي ويتجسد هذا البعد العاطفي واضحاً في العمل منذ بدايته حيث يربط العنوان بين المكان والبشر الجذور، مما يعكس موقفاً شعورياً قوياً لدى الكاتبة بالانحياز للوطن الذي هو مكان يعيش فيه ناس تدور بينهم أحداث، يشاركون في صنعها، أو يكونون ضحايا لها أو مستفيدين منها، ويستمر السرد على امتداد العمل في محاولة البحث عن المبررات الوجدانية التي تربط بين الإنسان والوطن كمكان وبشر وأحداث.
ويبدو إعجاب الكاتبة المستتر بشخصية (الأشعل/فهمي) من دخول هذه الشخصية المحورية بهدوء يشبه التسلل للمشاركة في صنع (الحكاية) من خلال (الفعل) سواء بقبول ما تفرضه الشروط الواقعية من انتقال في المكان، والقبول باختلاف المسئولين عن وجوده الاجتماعي وثم العقائدي حتى يتحقق له الاندماج في بيئة لم يكن له خيار في اختيارها، ومحاولاته الدءوبة لتطوير وجوده من خلال قيمة (العمل) الذي يعكس سمة أساسية من سمات تكوينه (كوافد) يطور ذاته ووجوده بتطوير قدرته على الفعل وليس الاستكانة (القدرية) كما هو شأن الشخصية المصرية التقليدية المكتسبة من هوية (الفلاح) الذي يبذر البذرة وينتظر الثمر كنتيجة طبيعية للبذر دون تدخل لمنع أي مؤثر قد يحيل النتيجة المتوقعة لكارثة، وتعكس هذه الرؤية الروح الكوزموبوليتانية التي يتمتع بها أبناء الثغور تجاه الآخر الوافد إليهم.
دلالات الحدث... البعدين الاجتماعي والتاريخي
يعتبر البعدين الاجتماعي والتاريخ أدوات استيعاب السرد الأساسية لتفسير الارتباط العاطفي بالوطن (البيت/ الأسرة/ المدينة/ الدولة) حيث تأتي محاولة فهم الواقع من فهم الأحداث التاريخية والاجتماعية التي يمر بها (البيت/الأسرة/المدينة/الدولة) حيث تطرح الكاتبة أسئلتها الوجودية بوضوح فتعلق الكاتبة على موضوعين رئيسيين من مكونات البنية الاجتماعية والتاريخية في عملها السردي... البعد الديني، والبعد السياسي بما لهما من تأثير مباشر على الواقع.
الدين/الخطاب الديني...
عبرت الكاتبة عن المسألة الدينية بأكثر من تعليق لعل أوضحها ما جاء في صفحة 83...
"عبد الناصر وكنيسة الإسكندرية، بينهما ما صنع الحداد في كل شيء إلا في أمر شهود يهوه، فهم متفقون. الأول يراهم يهددون أمن الدولة ووحدتها، والثانية تراهم يشوهون الدين. ألا يمكن أن يعبد المرء الله ببساطة،"
كما تفرد جزءاً كاملاً بدءاً من ص 82 تحت عنوان (الرب واحد) تجعله رحلة بحث عن الإيمان كحاجة إنسانية للارتباط بقوة عظمى تساعد الإنسان على مواجهة محدودية وجوده فتقول قال بسرعة:
"أحسن... البهائية مش دين أصلاً" وعلى هذا المنوال كلما طُرِح مذهب أمام مرجعية أخرى قالت إنها "مش دين أصلاً." هكذا تربينا، حتى لا نفتح على أنفسنا أبواب السؤال والريبة، ظنوا أنهم يحمونا من المتاهة حتى ألفينا أنفسنا فيها في النهاية. إلا مأثورة قالتها لوسييل لفهمي إبان عامها الشهير معه، وكان يافعا بعمر ثلاثة عشر عاماً: "يا بني إن كل منا يعبد الرب الذي في قلبه، بالنداء الذي يصدق، والطقس الذي يشعره بوصول روحه" ص 84.
ويأتي رأي لوسيل في نهاية الفقرة كقرع طبلة التمباني الأخيرة التي تعلن ختام لحن لتوحي لنا الساردة بتبنيها لوجهة النظر المتسامحة حيال، الآخر رغم عنصري وتعصب البيئة المحيطة بها، ويتضح عمق الأسئلة حول التفسيرات الجاهزة للمحكيات الكبرى في صفحة 158 حين يتناقش فهمي/الأشعل مع مختار حول تفسير شيخ لآية قرآنية، وإصراره على فهم القسوة غير المبررة...
"فقال فهمي: "ما هو ديني أنا كمان، أنا بس بدي أفهم" "مش كل حاجة هتفهمها بعقلك، الدين محله القلب، افهمه بقلبك"
مختار "أفهم بقلبي إن الملك سليمان استعمل جبروته في قتل وتعذيب مئات الحيوانات عقوبة لنفسه على إن الصلاة فاتته" فهمي. "أظن الشيخ غلطان، يمكن مسحا يعني مسح بكف إيده حنية ومحبة مش بالسيف، خليني أراجع المشايخ بكرة واقولك". مختار "يبقى القرآن له معاني كتير مش شرط تفسير واحد " قال فهمي."
يوضح كل ذلك أن الكاتبة مدركة –بوعي- الفارق بين الدين كمعتقد إنساني لا يمكن تجاهله، وبين الخطاب الديني كمنتج بشري قابل للنقد، والنقض.
السياسة
استقر علم الاجتماع السياسي والتاريخي على أن الماضي هو المقدمة المنطقية للواقع، وأن الواقع هو من يصنع المستقبل، ومن الواضح أن الكاتبة تستوعب هذه البديهية من علم الاجتماع للسياسي؛ لذلك لا تغيب الأحداث السياسية عن الرواية عبر امتداد السرد حتى وإن كانت إشارات غير مباشرة، لتأثير السياسة في حياة الناس أفرادا وجماعات... تقول الكاتبة في ص 32...
"بعد ثلاثة أشهر جاء أحد الوجهاء بنفسه للفندق عند الظهيرة، أخبر عنتر بأن اسم ابنه مقيد بالجيش، وبأنه في إفريقيا منذ أسابيع يشارك في قمع القوات المتمردة، "نال شرف خدمة الملك".
وتعود لتعلق مرة أخرى على السلطة الملكية الحاكمة من خلال حوار بين الأشعل/فهمي وعم الساردة في صفحة 75 يعبر عن إدراك عميق بسطوة السلطة الحاكمة...
"نظر فهمي إلى صورة الملك المنحوتة على البوابة وسأل: "هل هذا رجل حرب ومجد لديكم؟ أو معلم له مواقف نبيلة؟ فأجابه عمي باقتضاب: "لا، ده صاحب المدرسة، صاحب البلد كلها، إنت إيه جابك دلوقت؟".
وتعود الرواية في صفحة 122 لتؤكد ذات معنى سطوة الحاكم حين تقول:
"قال عم رزق صاحب محل تصليح الأحذية، ومؤرخ الحسينية الأخير، أن الخضر من أنفار الهجانة الذين كانوا ينزلون القرى أيام الملك لتكديرها، ويساعد الحكومة على معاقبة الفلاحين وجمع الضرائب. من أين أتى بهذه المعلومة؟ قال: "أنا شوفت جسمه، عليه أثر كرابيج، العساكر دي لما تخالف تنجلد".
ونجد (ناصر) في تعليقات عدة متناثرة عبر الرواية، تطرح تأثير السياسي على الواقع الاجتماعي، تمت الإشارة إليها بالتفصيل في الجزء من الدراسة عن شخصيات العمل السردي مما يؤكد إدراك الكاتبة الواعي لتأثير الجو السياسي العام على الحياة الخاصة للناس.
التاريخ
ترى الكاتبة سيرة الأفراد والأسر تاريخاً جزئياً أو عينة من تاريخ الوطن، وتقرأ بوضوح العلاقة التفاعلية بين التاريخ والسياسة على مستوى الخاص (الأفراد والجماعات الصغيرة) والمستوى العام بما يضمه من مؤسسات دولة وبني اجتماعية واقتصادية عامة متفاعلة، ينعكس نتاج تفاعلها على بعضها البعض.
ختاماً...
يمكن تبين التناص بين روح روايتي (المختلط/ود والحب في زمن الكوليرا)  لجابرييل جارسيا ماركيز التي تدور أحداثها حول قصّة حُبّ بين رجلٍ وامرأةٍ في سنّ الشباب بإحدى قرى الكاريبي، وبقاء هذا الحُبّ مشتعلاً حتى بلوغهما السبعين وما تضمّنته تلك السنين من حروب، وتّطورات تكنولوجية، والتّغيّرات العالمية منذ نهاية القرن التّاسع عشر من حروبٍ، ومجاعاتٍ، وأمراضٍ، وانقلابات في مختلف نواحي الحياة اقتصادياً، وأدبياً، وبشرياً؛ حيث نجد نفس العناصر المكونة للبنية السردية في رواية (المختلط/ود) التي تتناول السيرة الذاتية لشخصيات السرد خلال زمن سرد مقارب للغاية لزمن سرد رواية ماركيز، في مكان محدود يتعرض لأحداث، تكاد تتوازى مع أحداث رواية ماركيز؛ مما يدفع بسؤال منهجي:
هل يمكن اعتبار رواية (المختلط/ود) من سرد الواقعية السحرية مثلها مثل رواية ( الحب في زمن الكوليرا)؟ أم تحسب على سرد الواقعية الاجتماعية كما جاء في هذه الدراسة؟ أو أنها رواية من التخييل النثري الذي بعضه تاريخ وليس سرداً؟
سؤال مطروح لإجابة المتلقي عليه حسب استيعابه للخطاب السردي، وقدراته على التأويل.
يقول جوته:
" عندما يصف شاعر ما مشاعره الذاتية ؛ فذلك ليس بشعر ؛ لكنه حين يعانق العالم، ويتعلم منه كيف يعبر عنه هنا فقط يُصبح شاعراً."
وينطبق هذا القول على كل المبدعين في كافة مجالات الإبداع واعتقد أن السيدة داليا أصلان أحد هؤلاء.


[1] دليلة الكرداني: عالمية التراث المعماري والعمراني لمدينة المنصورة حقيقة أم وهم، المؤتمر الدولي إدارة التراث المشترك لدول حوض البحر المتوسط، الإسكندرية، مارس 2005 م.
[2] الشكلانيين الروس جمعية روسية تأسست عام 1916 م لدراسة اللغة الأدبية.
[3] Wallace Martin, died in 2010, was Professor Emeritus of English at the University of Toledo. He was author of The New Age under Orage and Recent Theories of Narrative. He also edited and contributed to books on literary and critical theory.
[4] والاس مارتن: نظريات السرد الحديث، ترجمة: د. حياة جاسم محمد، الشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة.
[5] نورثروب فراي: كاتب وأستاذ جامعي كندي (1912 ـ 1991) نحت مصطلح (المدوَّنة الكبرى) في كتابه (المدوَّنة الكبرى- الكتاب المقدَّس والأدب).
[6] لويجي برانديلو :كاتب ومسرحي وشاعر إيطالي، حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1934 من أشهر أعماله المسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) التي قدم فيها تجربة تعدد الأصوات Polyphony.
[7] الجملة السردية جملة فعلية؛ بينما الجملة الشعرية في القصيدة أكثر تحرراً من القاعدة، وتميل أن تكون اسمية.
[8] داليا أصلان: المختلط، ص 60.
[9] المرجع السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق