السبت، 4 أغسطس 2018


المكان في المتوالية السردية (ترابها زعفران)

أحمد إبراهيم أحمد
تمهيد...
يقول عاشق الإسكندرية إدوارد خراط في معشوقته التي لا ينضب بحر غزله فيها: "إسكندريتي... وجدٌ وفقدان بالمدينة الرخامية، البيضاء الزرقاء، التي ينسجها القلب باستمرار، ويطفو دائما على وجهها المزبد المضيء. إسكندرية، يا إسكندرية، أنت لؤلؤة العمر الصلبة في محارتها غير المفضوضة."[1]
"عرّشت أشواق عشقي في مدينتي العظمى الإسكندرية... الثغر المحروس... الميناء الذهبية رؤيا ذي القرنين وصنيعة سوستراتوس المهندس العظيم ولؤلؤة (قلبطة)... كيلوباترا عند إدوار الخراط... الغانية الأبدية... المدينة الساطعة المرخمة التي لا تحتاج بالليل إلى نور لفرط بياض رخامها... أكاديمية أرشميدس وأراتوسنيس الفيلسوف والشاعرين أبولنيوس وفاليما خوس... عاصمة القداسة والفجور معاً... أرض القديس مرقص والقديس أنانيوس... مدينة البطاركة... مدينة المراتع والمحارس والمدارس والمسارح والجنان... ذات العماد... ذات الأربعة آلاف حمام... الأربعة آلاف ملهى... الأربعة آلاف بقال... عروس البحر الدفاق من القلزم إلى بحر الزقاق... جامعة المزارات من سيدي المرسى أبى العباس وسيدي أبى الدردار إلى سيدي الشاطبى وسيدي جابر وسيدي كريم رضوان اللـه عليهم أجمعين... ذات الشوارع الفساح وعقائد البنيان الصحاح... جليلة المقدار رائعة المغنى... شامخة الكبرياء يا إسكندرية يا شمس طفولتي وعطش صباي ومعاشق الشباب."
فيتحول المكان/الإسكندرية بذلك في السرد لحاوية، تضم التاريخ القديم والحديث ببشرهما وأفعالهما، لنصبح أمام حالة زمكانية خاصة بالإسكندرية المكان، تصنعها لغة الكاتب التي تعكس نوستالجيا للأمكنة والأزمنة في سياق واحد.
منهج القراءة
·         تلتزم هذه القراءة بالمنهج التفكيكي استناداً لقراءة نظرية لمفهوم المكان في السرد من خلال دراسات يوري لوتمان Youri Lotman  وتفسير الدكتور حسن البحراوي لرؤية لوتمان.
·         تطبيق رؤية الدكتور البحراوي على متوالية «ترابها زعفران» السردية للكاتب الكبير إدوارد الخراط.
 الكاتب والمكان
وُلد ادوار الخراط في 16 مارس 1926 م بالإسكندرية لعائلة قبطية أصلها صعيدي، أقامت في غيط العنب - أحد أعرق أحياء الإسكندرية الشعبية، ونشأ، وعاش شبابه في المدينة البحرية، وحصل على ليسانس حقوق جامعة الإسكندرية عام 1946م وشارك في الحركة الوطنية، واعتُقل في معتقلي أبي قير والطور 1948 م وعمل في إدارة الكباري بمخازن البحرية البريطانية، ثم البنك الأهلي، فشركة التأمين الأهلية بالإسكندرية، ثم مترجماً بالسفارة الرومانية بالقاهرة، ثم في منظمة كُتاب آسيا وإفريقيا، ليتفرغ بعدئذ للكتابة والنقد والترجمة، وصدر له أكثر من خمسين مؤلفاً ما بين قصص وروايات وشعر ونقد، وفاز بجائزة الدولة التشجيعية لمجموعة قصصه ساعات الكبرياء في 1972م وغادر دنيانا أول ديسمبر 2015م بعد عُمر بلغ تسع وثمانين عاماً.
تمرد الخراط على التيار السائد في السرد بشكله المعروف، ورفض (الواقعية الاجتماعية) التي تبناها نجيب محفوظ في خمسينات القرن العشرين، وحوّل السرد من حكايات أبطال وصراع اجتماعي لصراعات داخلية لأفكار الشخصية في مسار سماه (الحساسية الجديدة) كان أوّل مُنظّر لها في الأدب العربي، واستعرض آرائه في عدة كتب نقدية من أهمها (أنشودة للكثافة) حيث يقول عن دافع الكتابة لديه: "أكتب بدافع التمرد والاكتشاف، ولتحقيقِ الذات، والتجديدِ، وإعادةِ النظر في الأمور؛ أي إعادةِ صياغة العالم، والسعي إلى تغييره في المدى البعيد نحو الأجمل، والأعدل، والأفضل" فتشكلت ذاكرته معجونة بالمكان، فكتب عن الإسكندرية كتباً (ترابها زعفران- يا بنات إسكندرية- طريق النسر) إذ كانت زهرة في قلبه، ينشر عطرها للعالم رغم استقراره بالقاهرة، فكتب يناجيها "أنظر إلى البحر وأفقه الغامض، أعرف أنه لا شيء وراءه أبداً... هذا امتداد لا نهاية له للعباب المجهول إلى ما لا نهاية له، و كأنني أرى شاطئ الموت نفسه، سوف أعبره، بلا عودة و لا وصول.". كما قال في روايته الأشهر ترابها زعفران: " إسكندرية يا إسكندرية... أنت لست فقط لؤلؤة العمر الصلبة في محارتها غير المفضوضة ... مع ذلك أنشودتي إليك ليست إلا غمغمة وهينمة ".[2]
وتظلل ذكرى شهر رمضان في إسكندرية طفولة الخراط، فتمتزج الأصوات بالروائح بصور الأشياء في الأماكن، لتصنع صورة لحالة وجدانية خاصة يحتويها المكان "كان صوت الشيخ محمد رفعت يترقرق من صناديق الراديو الكبيرة ذات العين الواسعة المميزة في الدكاكين والمقاهي والبيوت المفتوحة الشبابيك قبل مدفع الإفطار، كان صوتاً سلساً وجميلاً ومنذراً -بحزن-من عذابات الخيانات والكفران بالنعيم."

المكان... رؤية نظرية
يعتبر المكان الموضع الذي يعيش عليه الإنسان، ويشمل سكنه، وينعكس تأثيره على تكوينه، وتتأثر به حياته وسلوكه، وعمله، وتجري فيه نشاطاته، وعلاقاته الإنسانية، ويتسع ليشمل البيئة من حوله (صحراوية/ زراعية/جبلية/مدنية... الخ) لكن المؤسف أن بعض النقاد العرب ترجم المصطلح الأجنبي Espace/Space بكلمة الفضاء وهي تعني الفراغ Emptiness ودلالة الفضاء في الذهنية العربية (الفراغ /الخواء /العدم)!
ويتصور غالبية الناس أن لا علاقة بين المكان والزمان؛ فالمكان مُدرك مادي يمكن متابعته، أما الزمان فغير مادي، وذلك عكس تعريف علماء الفيزياء للمكان والزمان؛ الذين يرون أن الحركة حلقة وصل بين الزمان والمكان، حيث تكشف دراسة حركة الأجسام والضوء، أن المكان والزمان ما هما إلا مظهران لبنية واحدة، تُسمى الزمكان، وضحت ذلك أبحاث أينشتاين في النظرية النسبية، وبعده ستيفن هوكنج في دراساته الهامة.
المكان في السرد
يُكون المكان عنصراً فنياً من عناصر السرد، يتم تصويره من وجهة نظر، ترتكز على رؤية، ناتجة من تفاعل الشخصيات مع الحدث، فيحمل المكان قيمة، ويعكسها، أو يرمز لها، فلا يواجه قارئ السرد فضاءً مطلقاً أو خاصاً، وإنما عناصر مكانية من منظور السارد، فتمدنا الرؤية بالمعرفة الموضوعية، أو الذاتية التي تحملها الشخصيات عن المكان، فالإنسان كما يرى يوري لوتمان Youri Lotman "يُخضع المكان والعلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات، ويلجأ إلى اللغة لإضفاء إحداثيات مكانية على المنظومات الذهنية."[3]
المكان و تيار الوعي
ابتدع وليم جيمس  William James(1840 - 1910م) مصطلح تيار الوعي الذي يشمل كل العمليات العقلية بما فيها مستويات ما قبل الكلام، ولا يظهر المكان بشكل وصفي مستقل في تيار الوعي؛ بل يستخدمه الكاتب كتكنيك ضمن تقنيات أخرى؛ يقدم من خلالها المحتوى الذهني والعمليات الفكرية للشخصية السردية بوصف هذا العالم الذهني.
ولا يوجد تكنيك خاص لتيار الوعي، إنما تكنيكات عدة، فيشير تيار الوعي لمجموعة تقنيات تستخدم لتوضيح تداخل الأفكار أو تداعيها بعمل (مونتاج) كالتوالي السريع للصور، أو وضع صورة فوق صورة، أو إحاطة صورة مركزية بصور أخرى تنتمي إليها، وتوجد طريقتان لتقديم هذه التقنيات في السرد، الأولى تكون فيها الشخصية ثابتةً في المكان ويتحرك الوعي في الزمان (مونتاج زمني) حيث توضع صور أو أفكار من زمن معين على صور أو أفكار من زمن آخر، والطريقة الأخرى يبقى فيها الزمن ثابتاً، ويتغير المكان (مونتاج مكاني).
مستويات المكان
وينْظُم لوتمان مقابلات بين القيم والأماكن من وجهة نظر دلالية (سيموطيقية) (عال * واطئ = قـيّـم * رخيـص) (يمين * يسار = حسن * سيّـئ) (قريب * بعيد = أهل * غرباء) (مفتوح * مغلق = مفهوم * غامض)...الخ، فيساعد إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة في تجسيدها، فتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد لتقريب الفهم، وينطبق ذلك على أغلب المنظومات الاجتماعية، والدينية، والسياسية، والأخلاقية، والزمانية، فمثلاً يتجسد المكان السردي من خلال تمثيل القيمة بالمكان، وتقابل القيم بتقابل الأمكنة، فالقصر الكبير للغنى القوى القادر، والبيت الصغير الضيق للفقير، فتصبح أماكن مباحة، وأخرى محظورة، فالقصر محظور على الفقير، وبيت الفقير مباح للغنى، ومن الصعب على الفقير اختراق القصر؛ وليس هذا الحدّ مكانياً إنما هو حد اجتماعي اقتصادي، يفصل بين مكانين، يمثلان رؤية إنسانية للواقع يحيل لها البناء الفني السردي، وأسس الناقد المغربي د.حسن بحراوى منهجاً لتصنيف المكان وفق ثلاثة مفاهيم، تدلل على أهمية المكان في السرد وما يمتلك من أبعاد ودلالات منطلقاً من دراسات لوتمان وهى:
·         التقاطب/التضاد/التباين Contrast: وتعنى وجود قطبين متعارضين في المكان وفق (تقابلات ضدية) كالإقامة والانتقال؛ غياب حضور؛ قديم جديد... الخ.
·         التراتب: The Hierarchy يتوزع فيه المكان إلى عدة طبقات أو فئات مكانية وفق مبدأ تراتبى معقد[4].
·         الرؤية Vision: تمدّنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التي تحملها الشخصية عن المكان، وتحيطنا علماً بكيفية إدراك أبعاده وصفاته.
ترابها زعفران... نموذج لمتتالية سردية بطلها المكان
ينافس الخراط رباعية لورانس داريل في متتاليته السردية ترابها زعفران (صدرت طبعتها الأولى عن دار الآداب البيروتية للنشر والتوزيع عام 1986 م وأعادت طباعتها مكتبة الأسرة سنة 2008 م في 225 صفحة من القطع المتوسط) جانباً من حياته بهذه المدينة في سنوات عمر سكندري متوهج لا ينطفئ؛ حيث تفيض أجواء العمر بالمشاعر، وتمنح الذكرى حلم التجاوز، وتؤجج وهم ملاقاة الذات الضائعة، رغم قسوة الضنى والألم، وتسيد شبح الموت، فيتغنى الكاتب بجمال المكان وحبه له، قائلاً: "بنات إسكندرية، وبحر إسكندرية غوايات قائمة لا تنتهي، ومحبات لا تبيد... كيف لي أن أقاومها؟" فيسرد تفاصيل الحياة السكندرية بكافة طوائف أهلها، وطبقاتهم الاجتماعية في مكان يحتوي عمال المصانع والميناء، والتجار، والطلبة فقراء وأثرياء في زمن ثوري إبان الحرب الثانية، حتى يظن القارئ أن السرد سيرة ذاتية لولا قول الكاتب: "ليست هذه النصوص سيرة ذاتية، ولا شيئاً قريباً منها ففيها من شطح الخيال ومن صنعة الفن؛ ما يشط بها كثيراً عن ذلك."
وتأتي أحداث المتتالية السردية في تسعة فصول (السحاب الأبيض الجامح- بار صغير في باب الكراسته- الموت على البحر- فلك طاف على طوفان الجسد- غربان سود في النور- النوارس بيضاء الجناح- السيف البرونزي الأخضر- الظل تحت عناقيد العنب- رفرفة الحمام المشتعل) يربط بينها فعل الشخصيات في المكان الذي يتشكل من مستويات تشبه المقاطع السينمائية، أضفت على النص سلاسة، تساعد المتلقي على التجول في الأماكن بذاكرة السارد في النصف الأول للقرن العشرين، حين كانت الإسكندرية الكوزموبوليتانية حاضنة، تتشكل فيها معالم الهوية الوطنية المصرية، فيستخدم الخراط الذاكرة وسيلة لرسم ماض أمكنة متسامحة، محاولاً مواجهة ومقاومة الحاضر عبر وصف عديد من أماكن المدينة... أحياء، وشوارع وبيوت، ومؤسسات، لتصبح بديلاً للتاريخ الرسمي الذي تغاضى، ويتغاضى عن جوانب وأحداث مهمة، ويغض الطرف عنها، فيدخل بالقارئ لأماكن حميمية لم يحفل بها التاريخ الرسمي، فيجعل منها وسيلة مقاومة بمهارة غير مباشرة، تفضح التاريخ الرسمي والنبذ الذي يشعر بهما القبطي الذي فُصل من جسد الوطن، بإهماله في التاريخ الرسمي.
رؤية ادوارد الخراط للمكان
يرى الخراط أن الإسكندرية/المكان هي نفسها الفعل السردي؛ وقوة فاعلة وليست مادة للعمل؛ ولا مكاناً له، فيقول: "لعلني لا أعرف كاتباً آخر في العربية توله بعشق هذا الموقع... الحلم... الواقع كما فعلت، ومهما كان من حفاوة كاتب مثل نجيب محفوظ بأزقة وحواري الجمالية، أو كاتب مثل عبد الرحمن الشرقاوي وغيره من كتاب الريف بقراهم، فقد كانت المدينة/الأرض عندهم في نهاية الأمر، ديكورا خلفياً، أو في أحسن الأحوال موضوعاً، أو ساحة للفعل الروائي."
فجاء اختيار الخراط لإسكندرية النصف الأول من القرن العشرين لتعبر عن رؤيته في كتاباته لمدينة كانت مسرحاً فاعلاً، كونها مكان حي، وليست مجرد خلفية سردية حيث صاغ المكان التعدد الثقافي، وحرية المعتقد، وقام بحضانة الأفكار الثورية، والنظريات الأدبية الحديثة، والتجريبية، والطليعية، ورآها الكاتب نموذجاً ديناميكياً جسد الهوية الوطنية المصرية في أربعينيات ذلك الزمن، حيث المكان أقوى من الأحداث وهو الحاضنة الأبدية يقول: "مياه كثيرة لا تغرق عشقي والسيول لا تغمره... صخرة ناعمة الحنايا أنت في قلب الطوفان سفوحها ناعمة غضة بالزر وع اليانعة... بالسوسن والبيلسان.[5]"
البحر ليس مجرد مكان؛ بل وجود حي...
نموذج لرؤية الكاتب للمكان.
تتصيد عين الكاتب صورة خاصة للبحر مغرقة في التفاصيل، لا يستطيع أن يرى تفاصيلها أي كان؛ فنحن أمام عدسة تكشف التفاصيل الدقيقة التي لا تراها عين عابرة، فهي رؤية وجدان وبصيرة أكثر منها رؤية بصر فيقول: "كان البحر فسيحاً. مراكب الصيد الصغيرة بأشرعتها الضيقة تهتز على الموج الذي يكاد يكون مسطحاً، وداكن الزرقة... رأيت الصيادين بالصديرى واللباس الاسكندراني واسع الطيّات يبسطون شباكهم وينفضونها من السردين فيتتابع ويصطدم ويرتطم بخبطات طرية دسمة ويسقط على الكومة الفضية التي ترتعد ـ مازالت ـ بالحياة في قاع المركب، وينحني الصيادون ويلقون بالسمكات الصغار إلى البحر، والأولاد بأجسامهم المحروقة يسبحون حول المراكب، منهم العراة تماماً ومنهم من اكتفى باللباس المنهدل الذي يكاد ينزلق من على وسطه. يغوصون برؤوسهم أولا، ويخرجون على الفور وفى أيديهم السمكات التي تضطرب وتتملص وتتلوى وتنزلق، فيرمونها في أكياس مرتجلة من الخيش الغامق المبلول يشرّ منها الماء كلما خرجوا يشقون سطح البحر... والنوارس الرمادية الضخمة تنقض فجأة من علٍ وتخطف صيدها من المراكب، ومن أيدي الأولاد. صدورهم المخسوفة يلمع جلدها مشدوداً على العِظام الناتئة، ترتفع وتنخفض باستمرار، وتحلق النوارس ظافرة صاعدة في خط مستقيم، وهي تنعق مهددة غاضبة أو خائفة.[6]"
ويؤكد سرد الخراط أن رؤيته للمكان ليست مطلقةً، حيث مكان الحبكة لا ينفي حركة الزمان، كما أن تأثير الحبكة الزماني لا ينفي أثر المكان، وأن الحدث الذي يتأثر بهما هو الذي يصنع السرد، فيربط بين المكان والسياسة والموت، ويسرد طفولته، ويجتر أحداثاً بعينها كأول قصة حب، ووفاة والده، ودخوله مدرسة النيل الابتدائية والجامعة وعلاقته بزملائه، ويذكر مصادر معرفته وثقافته من بائع الجرائد والمجلات، ويحكي عن العلم البريطاني يرفرف فوق ثكنات المستعمر بكوم الدكة، وكيف أصابت رصاصة رفيقه المُجاور له بالمظاهرات، فأودت بحياته، ولحظة اعتقاله التي بدأ بها روايته (طريق النسر) "كنت أعرف أنهم سيأتون، سيأتون الليلة، بلا شك، ولكن، ماذا أفعل؟" كل ذلك في إطار مكاني صارم هو تفاصيل المدينة التي عشق.
تطبيق منهج الدكتور حسن البحراوي على المكان في ترابها زعفران
1)      رؤية الواقع في المكان
يفتتح الخراط متواليته السردية (ترابها زعفران) التي يمكن اعتبارها أنشودة ذاتية عن سيرة إنسان في الأمكنة، فيبدأ السرد بمكان حميم هو كوبري راغب فوق ترعة المحمودية، ليلج بنا الوصف لعالم مكاني شديد الخصوصية، ولا يعبر عنه بتفاصيل طبوغرافية أو ملامح جامدة؛ بل يستعمل لغة تُضفي على المكان وجوداً حياً، فيصف كفلي الحصانين وما عليهما من عرق يختلط باستماع داخلي لحمحمة مكبوتة؛ كما لو كانا يستعدان للحوار في انتظار أن يكشف المكان (الكوبري المغلق) عن حرية الحركة، ويحكي عن العربجي ووابور الطحين، والسحاب السكندري المار، مُقيماً سلسلة علاقات بين المكان وتفاصيل الحياة؛ حيث تتشبع الروح بروائح وملمس ومذاق وبنية المكان الذي يحوله الوصف لكائن حي يعيد لقاءه بالغائب/الكاتب فيقول في أول فصل: "كنت أعرف أنني تركت غيط العنب وشارع راغب من زمن بعيد وأنني مع ذلك ما زلت هناك[7]." وتوضح قراءة هذا الجزء من النص كيف أن المكان رغم كونه فضاءً مفتوحاً ومباحاً إلا أن قيوداً تحول دون حرية ارتباط المغترب بوجود باق منه في المكان.
1.      1 رؤية الواقع في المكان/المنزل
ينتقل الكاتب بذاكرته - في نفس الفصل- لأحداث طفولته في المنزل/المكان الذي جمع المسلمة/الجارة، والمسيحية/الأم، واتفاقهما على إكرام وافد جديد للمنزل حيث يصنع الكاتب من المنزل/المكان بيئة سرد، توضح طبيعة العلاقات بين المسلمين والأقباط"وسمعت أمي وست وهيبة تتحدثان همساً عن السكان الجدد الذين جاءوا في الشقة التحتانية المطلة على الجنينة، وسمعت الست وهيبة تقول إن ذلك في وجهينا ويجب أن نفعل شيئاً." وكيف أن أهمية المكان، تكمن في طبيعة العلاقات بين ساكنيه... هذا الاستخدام البسيط لعلاقات الجيرة، يصنع انزياحاً مباشراً يشير على حيوية علاقات البشر من خلال الانتماء للمكان الذي يمكن أن يكون بيتاً في حي شعبي، يضمه فضاء مدني لا يقيم اعتباراً للفروق العرقية أو العقائدية كما هو الحال في كل المدن الكوزموبوليتانية؛ وتتضح هنا خاصية (الرؤية) التي ذكرها الناقد البحراوي حيث أمدّتنا بالمعرفة الموضوعية التي تحملها الشخصيات عن المكان وأحاطتنا علماً بأبعاده وصفاته الاجتماعية فمسئولية استقبال الساكن الجديد للسكان الأقدمين بغض النظر عن هويتهم حيث يمثل المكان الرابطة بينهم.
2)      تقاطب/تضاد/تباين المكان والبشر Contrast
يمدنا الفصل الثاني من المتتالية السردية (بار صغير في باب الكراسته) برصيد كبير من الأماكن التي يتحرك فيها السارد بالسرد - تمدّنا- برؤية موضوعية وذاتية تحملها شخصية السارد عن المكان، وتحيطنا علماً بكيفية العلاقات الإنسانية، فيتحرك بنا وهو يصف بالتفصيل شوارع غيط العنب، فشارع راغب، ثم يستعيد ذكريات الطفولة عند التركي بائع الفول مُسهباً في الوصف لينتقل إلى طاحونة السمسم أو (السرجه) في حي غربال بنفس آلية الوصف للمكان والبشر والمعدات، ثم يصف الرصافة حيث بيت حنا خال الأم الثري البخيل، دون أن يضن بوصف البشر والأماكن والأشياء في علاقة تعبيرية، ثم يقفز بالذاكرة لأيام الدراسة الجامعية والمظاهرات في ربوة العباسية بمحرم بك، ليذهب بالقارئ لـ كفر عشري حيث مخازن البحرية البريطانية، فالورديان، فشارع السبع بنات، ثم لقائه بإسكندر عوض المخبر الذي يعرفه بالعاهرة الطيبة في بار صغير في باب الكراسته التي تنقذه من براثن المخبر الذي ادعى صداقته، وتقوم بتهريبه من كمين أعد له، لتصنع كل هذه التفاصيل المزدحمة بالأماكن صورة بانورامية، ليكشف المكان عن رؤية مركبة لعلاقات البشر بكل تبايناتها وتناقضها، حيث العاهرة المسلمة أكثر إنسانية وشرف من الصديق المسيحي الخائن "- أمش يا لله روح من غير ما تسأل... أمش يا لله يا حبيبي أمش.. ولكنني أحسست فمها على خدي فجأة في قبلة خاطفة مٌلحة، ودفعتني بيدها برفق، وأقفلت الباب عليها، وسطع في ذهني على الفور أنني نجوت من الكمين، ولم أتذكر الملاك ميخائيل، ووجدت نفسي أنهج قليلاً من المشي الجاد السريع في شارع الترام العائد إلى المنشية، وعرفت معنى الأمن بين الناس الصامتين، ولم أر إسكندر عوض بعد ذلك أبداً، وبعدها بكثير تذكرت مرة واحدة، وعرفت أن الخيانة والنقاوة لهما طرق خفية."
3)      تراتب الأحياء... قراءة طبقية
يرصد الكاتب أماكن سكندرية متباينة اقتصادياً، ويُقيم القيمة الاجتماعية لهذه الأماكن من خلال التراتب الطبقي مما يتوافق مع طبيعة تفكير الكاتب اليسارية، ورغم ما يبدو من وجود قطبين متعارضين للمكان في فصل السيف البرونزي الأخضر يوضح حدة الاختلاف، فيضع الخراط المنشية كحي راق مقابل غيط العنب الحي الشعبي، ويستخدم تفاصيل المكان في وصفه للمنشية متجاهلاً تقديم تفاصيل النقيض بعدما اكتفى بإيضاح الضد/الآخر (المنشية) للضد/ الأنا (غيط العنب).ليصنع بذلك صورة واضحة عن تراتب الأحياء الطبقي، فيقول: "كأن ساحة المنشية عنده -هو ساكن غيط العنب - ليست هذا العالم؛ لأن العالم كان غيط العنب؛ الفراغ الشاسع في ميدان المنشية ومبانيه الشاهقة بأعمدتها المدورة الرخامية الشكل، ونخيله السلطاني العالي بجذوعه البيضاء الرشيقة الناعمة، تميس صفوفاً على طرفي الحدائق الطويلة اليانعة دائماً بعشب غض وطري، والترام يتخطر ويدور حولها أصفراً ونظيفاً ويومض، وعربات الحنطور خيولها الصهباء سنابكها تدق موسيقى موقعة على الأرض السوداء تلمع بالبلل، وهذا الهدوء والجمال والسعة الفسيحة هذا أسطوري مخيف قليلاً، ومغو جداً.[8]"


البحر ليس مكاناً؛ بل وجود حي
وتتصيد عين الكاتب صورة خاصة للبحر مغرقة في التفاصيل، لا يستطيع أن يرى تفاصيلها أي كان فنحن أمام عدسة ترى التفاصيل الدقيقة التي لا تراها عين عابرة، فهي رؤية وجدان وبصيرة أكثر منها رؤية بصر فيقول: "كان البحر فسيحاً. مراكب الصيد الصغيرة بأشرعتها الضيقة تهتز على الموج الذي يكاد يكون مسطحاً، وداكن الزرقة.. رأيت الصيادين بالصديرى واللباس الاسكندراني واسع الطيّات يبسطون شباكهم وينفضونها من السردين فيتتابع ويصطدم ويرتطم بخبطات طرية دسمة ويسقط على الكومة الفضية التي ترتعد ـ مازالت ـ بالحياة في قاع المركب، وينحني الصيادون ويلقون بالسمكات الصغار إلى البحر، والأولاد بأجسامهم المحروقة يسبحون حول المراكب، منهم العراة تماماً ومنهم من اكتفى باللباس المنهدل الذي يكاد ينزلق من على وسطه. يغوصون برءوسهم أولا، ويخرجون على الفور وفى أيديهم السمكات التي تضطرب وتتملص وتتلوى وتنزلق، فيرمونها فى أكياس مرتجلة من الخيش الغامق المبلول يشرّ منها الماء كلما خرجوا يشقون سطح البحر.. والنوارس الرمادية الضخمة تنقض فجأة من علٍ وتخطف صيدها من المراكب، ومن أيدي الأولاد. صدورهم المخسوفة يلمع جلدها مشدوداً على العِظام الناتئة، ترتفع وتنخفض باستمرار، وتحلق النوارس ظافرة صاعدة في خط مستقيم، وهى تنعق مهددة غاضبة أو خائفة.[9]"
ختاماً...
نحن أمام كاتب تتميز رؤيته للمكان بأنها لا ترى فاصلاً بين المكان والزمان والبشر والأحداث، فيصنع من كل هؤلاء تركيبة سردية خاصة تلامس المشاعر وهي تخاطب الوعي، لتمدّنا بمعرفة موضوعية عن المكان وتحيطنا بأبعاده وصفاته من خلال قدرة سرد تستوعب المكان وتلغي المسافات بين عناصره وتقدمه للمتلقي على نحو يلبى حاجته الجمالية والمعرفية.

لمزيد من القراءة

1-   حسن بحراوى[10]: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 1990م.
2-   سيزا أحمد: بناء السرد، دار التنوير، بيروت، 1985.
3-   غالب هلسا: المكان في السرد العربي، دار ابن هانئ، دمشق، 1989.
4-   غاستون باشلار: جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، ط. ثانية، 1984م.
5-   إدوين موير: بناء السرد، ترجمة إبراهيم الصيرفى، مراجعة الدكتور عبد القادر القط، الدار المصرية، القاهرة.
6-   روبرت همفرى: تيار الوعي في السرد الحديث ترجمة د. محمود الربيعى، دار المعارف بمصر ، القاهرة، ط ثانية، 1975م.



[1] إدوارد الخراط: إسكندريتي
[2] إدوار الخراط: ترابها زعفران، دار الآداب البيروتية للنشر والتوزيع ، 1986 م مكتبة الأسرة ، 2008 م
[3] يوري لوتمان: من أهم الشكلانيين الروس الذين اهتموا بسيميوطيقا الثقافة، علاوة على عنايته ببنية النص الفني.
[4] حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المملكة المغربية.
[5] إدوار الخراط: ترابها زعفران، ص142.
[6] إدوارد الخراط: أنا والبحر الأبيض المتوسط.
[7] المرجع السابق: فصل السحاب الأبيض الجامح، ص 8.
[8] إدوارد الخراط: ترابها زعفران، فصل السيف البرونزي الأخضر، ص 127.
[9] إدوارد الخراط: أنا والبحر الأبيض المتوسط.
[10] ولد سنة 1953 بالمحمدية، ويعمل أستاذاً بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، يتوزع إنتاجه بين الكتابة القصصية والنقد الأدبي وله كتاب (بنية الشكل الروائي).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق