السبت، 4 أغسطس 2018


غوايـة الصـوفي
قراءة في صحيح عاشق لياسر سليمان با شري

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

مفتتح... باب الفتوحات... انتظار
تلك الكلمة المنسية المهملة المتروكة الراقدة هناك في بعض الكتب القديمة... هل ماتت؟  أظنها تتنفس على الرغم من ذلك... هي فقط تنتظر الشفة التي تبعث فيها الحياة.
ياسر با شري
تحليل الخطاب السردي
 تقوم هذه القراءة بتحليل مكونات الخطاب السردي في عمل ياسر سليمان با شري (صحيح عاشق) ومحاولة تأويله بتفكيك عناصره باعتباره جنساً فنياً من أجناس السرد ينتمي للكتابة التجريبية؛ وذلك لإيضاح عناصر السرد، وتبيان المفاهيم التي يحتويها، ووجهة نظر السارد، والرسالة المضمنة التي اجهد الكاتب نفسه لتوصيلها للقارئ بهذا الشكل بكشف عناصر النص من خلال:
وصف المطبوعة - الجنس الأدبي - العنوان (كمفسر وعتبة دخول للنص) - لغة الخطاب السردي - زمان السرد - مكان الأحداث - الأشخاص المشاركة في تطور أحداث الفعل السردي - متن الحكاية (الوقائع) – الحبكة - دلالات وأبعاد الحدث (البعد السيكولوجي- البعد العاطفي -البعد الاجتماعي والتاريخي).
وصف المطبوعة
تمت طباعة هذا العمل في 93 صفحة من مقاس (ِA5) الـمُعدل لمقاس 19.5x 13.5 غير مصنف مكتبياً وغير مفهرس أو مقسم لأقسام ولكن وضع عنوان (باب) كبديل للقسم دون مراعاة شروط النشر الطباعي للأقسام، وفقراته (ق ق -ق ق ج - ومضة) معنونة بعناوين فرعية، وتم الطبع والنشر بمعرفة الهيئة العامة لقصور الثقافة – إقليم جنوب الصعيد = فرع ثقافة أسوان - مشروع النشر الإقليمي – فرع ثقافة الأقصر، وللأسف يتسم الإخراج الطباعي بأخطاء حرفية في الإخراج الفني للنصوص وترتيبها، أساءت للمجموعة إساءة كان من السهل تخطيها ببعض الحرفية مثل ترتيب النصوص طبقاً لجنسها السردي (ق ق -ق ق ج - ومضة) كذلك وجود أخطاء في صياغة أو ترتيب الفقرات كما في قصة (خير ص 50) التي جاءت في جملة واحدة هي فقرة واحدة في صفحة كاملة؛ كما أن القائم بصف الكتاب لم يلاحظ المسافة المتروكة في أول كل فقرة، كذلك استخدام التنقيط دون مراعاة القواعد الخاصة بعلامات الترقيم.
الجنس الأدبي
يعتبر السرد القصصي حكي موضوعي، بينما يعتبر الشعر والغناء تعبيراً ذاتياً، ويبقى النص الصوفي نصاً إشكالياً في تصنيفه في إطار التجنيس الأدبي، ولا يمكن تصنيف العمل السردي (صحيح عاشق) لياسر سليمان باشري كقصة قصيرة كما ورد في الغلاف الداخلي أو كما جاء في الغلاف الخارجي كلمة (قصص) متعامدة تسبق اسم المؤلف لأن المطبوعة جاءت على هيئة نصوص سردية قصيرة وقصيرة جداً وومضات سردية ونصوص مرسلة كلها منفصلة، فجمعت أكثر من جنس أدبي سوياً، ويعتبر تقسيم النصوص وفهرستها من نقاط الضعف الواضحة والمؤثرة في بنية المطبوعة حيث يتلاحظ الخلل الوظيفي الواضح في تقسيم نصوص المطبوعة التي تضم:
التقسيم
باب
قصة قصيرة
قصة قصيرة جداً
ومضة
نص مرسل
العدد
35
3
40
37
12
ويبدو واضحاً التقارب الشديد بين القيمة العددية للأبواب والقيمة العددية لمحتواها من فصول هي قصص قصيرة، وقصيرة جداً, وومضات قصصية، ونصوص مرسلة حتى أن عدد النصوص المرسلة، والقصص القصيرة جداً أقل من عدد الأبواب! وتكاد الومضات أن تتساوى في عددها مع عدد الأبواب؛ هذا غير إشكالية ترتيب النصوص حسب جنسها الفني (ق ق - ق ق ج - ومضة).
لغة الخطاب السردي
إشكالية الخطاب الصوفي
يعتبر النص السردي شكلاً فنياً سهل تصنيفه في إطار الأجناس السردية الفنية سواء كرواية أو قصة قصيرة أو قصيرة جداً وحتى ومضة؛ بينما يصعب ذلك مع النص الصوفي الذي يصعب تلقيه، ويحتاج قارئه جهداً للولوج إليه، ويستطيع قلة اتمام قراءته بنجاح لسببين أساسيين أحدهما متعلق بطبيعة النص ذو اللغة المجازية، والثاني خاص بالمتلقي الذي يجهل غالباً كيفية تحليل الخطاب الصوفي الذي هو تجربة تحيطها أسرارٌ عصية على الكشف، تحتاج اضاءات لقراءة نص له منظومته التي يتميز بها والتي على القارئ معرفة مرتكزاتها حتى يستطيع تلقي النص الصوفي الذي يعتري قراءته خللٌ كبيرٌ بدون هذه المعرفة، يعطل عملية الفهم حتى في درجاتها الدنيا.
ولا يختار صاحب النص الصوفي النص؛ بل ربما يختاره النص؛ الذي يعبر أسلوبه تعبيراً داخلياً عن عاصفة تأتي من صميم النفس، وهو أسلوب يصعب فهمه حتى لو أمكن التعرف عليه؛ لأن النص الصوفي إعادة إنتاج لمنهج عقل وتأمل روحاني لصاحبه وليس مجرد نص؛ وإذا كانت اللغة عند سوسير نظاماً من الإشارات؛ فالكتابة الصوفية إشارات تقترن بأسرار الروح والدم والغرائز، ويميزها مجاز عميق الكثافة، ذو صورة مركبة بلغة وجدانية مضمرة، تتكلم بها أرواحنا نيابة عن أجسادنا ورغباتنا، لتعبر عن السري منا، وعلى من يريد التواصل مع هذا الخطاب أن يمتلك روح حساس، وأدوات خيال نشط، وقدرة على التخييل والتخيل تساعده على الغوص في عالم النص.
وكما لا يختار الصوفي النص، لا يختار أيضاً لغته التي هي لغة بلاغية فريدة يميزها خصبها، حيث يستخدم المتصوفة إشارات ودلالات واستعارات للتعبير عن أفكارهم في لغتهم، تختلف عن تلك في لغة الأدب والفلسفة ؛ وكما يقول إمبرتو إيكو تشكل هذه الاستعارات في تركيبها وتكوينها سياقاً خاصاً، مكونة صيغاً من مفردات وجمل متميزة؛ لكل مفردة دلالة ولكل جملة حجة.
ونستطيع في نصوص صحيح عاشق شم رائحة كلمات كبار الصوفية مثل: عبد القادر الجيلاني، والغزالي، وابن عطاء السكندري، والشاذلي، ومحي الدين ابن عربي، وابن سبعين، والنفري، والشبلي، والحلاج وهي نصوص وإن انتمت للخطاب الصوفي إلا أن مصادرها التي جاءت منها تختلف وتتباين باختلاف مصدرها أو صاحبها.
ويحذر الصوفية أن من لا يفهم كلامهم ولا يعرف اصطلاحاتهم سيفهم قصداً غير قصدهم، وسيؤول كلامهم على غير حقيقته، وحدث ذلك بالفعل وأشهر ضحاياه الحلاج، حيث يستخدم الصوفية مفردات مميزة مثل الأنس الذي قال عنه الجنيد "هو ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة" والاتصال وهو أن ينفصل العبد بسره عما سوى الله، ولا يسمع إلا منه، والتجريد وهو أن يتجرد العبد بظاهره عن الأعراض، وبباطنه عن الأعواض، والوجد هو ما صادف القلب، أو رؤية حال من أحوال الآخرة، أو الكشف بين العبد وبين الله، إضافة لتعبيرات أخرى عدة مثل التواجد، والغيبة، والجمع.
لغة الخطاب في صحيح عاشق
يجد القارئ نفسه للوهلة الأولى التي يتناول فيها النص أمام لغة فصيحة صحيحة راقية تكاد تخلو من الأخطاء الإملائية والنحوية، ويميزها التناص المتكرر مع النص القرآني، والاقتباس من النصوص الصوفية حيث يستشهد الكاتب بنصوص كاملة - أو نصوص يقوم بتعديلها - لصوفية ومريدين كأبي سعيد الخراز(ص5) ومالك بن دينار (ص18)  وابن عطاء الله السكندري (ص 6-20) والنفري بتصرف (ص24) أو أبو يزيد البسطامي (ص40) وابن عطاء الله السكندري (ص42) وابن جريج (ص47) وابن عطاء الله السكندري (ص49) وأبو عثمان المغربي (ص50) والسيد المسيح عليه السلام (ص52) وابن عطاء الله السكندري (ص54) ويحي بن معاذ الرازي (ص56/58) ورويم (ص61) وشيخ الإسلام الهروي (ص64) والنفري بتصرف (ص68) والشبلي بتصرف (ص74) والنفري بتصرف (ص75) ورويم (ص 76) وابن حزم الأندلسي (ص84) وجلال الدين الرومي (ص85) وأبو سعيد الخراز (ص91) بمجمل اثنين وعشرين استشهاداً على امتداد صفحات النص السردي التي بلغت اثنين وتسعين صفحة.
كما يتناص مع النص القرآني في كثير من المواقع بأسلوب رشيق يحيل للنص، وينطق بالمحتوى الانفعالي للنص المتناص بأناقة وجمال كما في باب (من أشرقت بدايته أشرقت نهايته قصة {أضغاث أحلام} ص8 التي يتناص فيها مع أكثر من نص قرآني ويحيل لنص سورة الأعراف في حبك لغوي ساحر، وكما في باب (لكل أناس مشربهم – اثنتا عشر بنتاً- القصة 12 {البنت العاشقة}) حيث يقتبس عنوان الباب من الآية 60 من سورة البقرة{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}ويستخدم كلمة سبع سنابل في القصة موحياً بالآية 26 من سورة البقرة {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}أو كما قوله "دنت فتدلت فكانت قاب قوسين بل أدنى." في باب (الأنس تستوحش مما سوى محبوبك قصة {دنو} ص 76) وذلك مع النص القرآني في سورة النجم{(7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) } وفي قصة {وحدة} بنفس الباب ص 77 في قوله "ظلمات بعضها فوق بعض" الذي يقتبسه نصاً من سورة النور في قوله تعالى  {(39)أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)}
ويستخدم الكاتب المجاز في التصوير بشكل يثير الدهشة كما في باب (لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير) الذي يقتبس عنوانه من مقولة السيد المسيح عليه السلام " (إنجيل متى 7: 6) لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ." وذلك في قصة {تلويش} ص 52) في قوله"شظايا الأشياء المتناثرة لا تصيبه بسوء لكن المزيج السحري ينزف." أو كما في باب (بذل الروح قصة {دنيا} ص64) في قوله "الغاز المسيل للدموع الذي خرج علينا من شاشة التلفاز" وقوله في نفس الصفحة "حين خرجت من نفس الشاشة قنبلة وبضع رصاصات."
ولا يمنع عشق الكاتب لأسلوب الكتابة الصوفية من كتابة قصة قصيرة كاملة باللهجة العامية (باب حيث صار التنوير وصل التعبير – قصة {أزمة الحمار} ص42).
ورغم إتقان الكاتب للكتابة بلغة عربية يميزها دقة التفرقة بين حالات حرف الألف؛ ورغم مراعاة الدقة الشديدة في تدقيق لغة الكتابة يقع الكاتب ضحية أخطاء لغوية مثل على سبيل المثال لا الحصر:
·         كتابة كلمة (زاد) مرتين بحرف الذال (ذاد) في نفس صفحة 43
·         تقديم الحرف والاسم على الفعل في الجملة التي هي فعلية في الأصل كما في قصة {محاكم} ص 51) "بيده الأخرى مد حين ولى وجهه شطر الحشد الآخر." وفي نهاية نفس القصة "في المشهد خلفه بدأ الحشد في التناحر." وفي (باب كل ظاهر ينبئ عن باطن – قصة {انتشار} ص87) "الملامح ليست محددة على وجه قطعي."
وللأسف يعيب هذا النسق عدم العناية بعلامات الترقيم.
العنوان كمفسر وعتبة دخول للنص
يعتبر (صحيح عاشق) عنواناً مبهماً ومغلقاً ذو خصوصية؛ لا ينجح في جذب اهتمام المتلقي البسيط والتقليدي للعمل السردي، ويجذب فقط القارئ ذي الخلفية الثقافية والمعرفية والمتذوق للغة، كونه عنواناً غير موحِ بما في السرد، تميزه خصائص النص الصوفي السابق ذكرها؛ بما في هذا النص من إلغاز ومجاز عسير الفهم على محدود الثقافة.
زمن السرد
لا يوجد زمن كرونولوجي محدد للفعل السردي في هذا العمل، فلا تتضمن النصوص زمناً واقعياً محدداً؛ حيث لا زمن لأحداث السرد، ويوجد فقط زمن مطلق غير محدد للقراءة، يعيد القارئ التعرف إليه مع كل قراءة كوننا أمام نصوص متعددة قصيرة وقصيرة جداً لا رابط زمني للأحداث بين كل منها.
مكان الأحداث
يختلف المكان في كل وحدة سردية من وحدات هذا العمل وهو غير محدد في بعض الوحدات حيث لا مكان محدد للسرد، ولا يوجد إطلاقاً في البعض الآخر، ولا رابط مكاني لأحداث وحدات السرد المختلفة، التي تكاد لا تتضمن مكاناً واقعياً في وحدات السرد على امتداد العمل وإن غلفت الطبيعة الثقافية للبيئة الريفية المكان في بعض النصوص وبرزت بوضوح في البعض الآخر من النصوص كما في قصص بقرة وحمار وثور ص 15- خادم الله ص 24 – أزمة الحمار ص 42 – خير ص 59... الخ).
شخصيات السرد (الأشخاص المشاركين في تطور أحداث الفعل السردي)
حضر الراوي العليم بوضوح في غالبية الوحدات السردية، ويتوارى بذكاء في بعض القصص يتوارى الراوي العليم بذكاء في بعض القصص وراء فاعل آخر في النص كما في (باب العشق ماء الحياة – قصة {منك} ص86) "قال العاشق: من عينيك سآخذ حرفاً واحداً." وشخصيات السرد في غالبها مشاعر أو افكار تجسدت أشخاصاً غير ذات أبعاد مادية، لا نعرف عن تكوينها الطبيعي شيئاً إلا في حالات قليلة للغاية وعادة يكون ما نعرفه مرتبطاً بسلوك أو حالة تعبيرية فهي أفكار أو مواقف ومشاعر تتلبس شخصيات بلا وجود حقيقي.
 متن الأحداث والرؤية السردية (الحكاية - الوقائع)
تأتي الوقائع السردية عند با شري غالباً في إطار حكي يقترب كثيراً من البنية الأرسطية للحكاية كما في قصص (أزمة حمار ص 42 - أشراط ص84 – زهد أفضى إلى الجنة ص 47... الخ) وتتجاهل (أحياناً) وتلتزم (أحياناً أخرى) بشروط الحالة الصوفية لتنقل لنا حكايات غرائزية ودنيوية؛ كما تحكي عن مشاعر مجردة كما في قصص (البنت الخضراء ص 36 - صحيح عاشق ص 39... الخ) أو يمارس با شري الخيال الجامح في السخرية من الواقع بأسلوب فانتازي متمكن في قصة (بقرة وثور وحمار ص 15).
ويتجاهل الكاتب بهذه الرؤية السردية شرط وحدة شكل اللغة في الكتابة التي اختار أن تكون (صوفية) لها قواعد حالة رهبنة تأخذ تفاصيل بنيتها من التعاليم الإسلامية (حتى وإن رفضتها بعض المذاهب).
دلالات وأبعاد الحدث:
البعد السيكولوجي
يظن البعض أن الصوفية انقطاع عن العالم الحسي والحقيقة تكاد تكون غير ذلك، لأن الخطاب الصوفي هدفه التحرر من الحسي والمادي والذوبان في الذات الأعظم؛ ولا يتم ذلك دون المرور بالحسي والمادي وتجاوزه، وتأتي مجموعة السرد (صحيح عاشق) لتخلط بين الغرائزي والروحاني وبين المادي والخيالي لنجد قصصاً تحكي مواقف حسية غرائزية كما في قصص (جسدك عاصمة للمتعة ص 82 وقصة نار ص 83) وأخرى فانتازية كما في قصص (نوافذ ص 12 - بقرة وثور وحمار ص 15 - الصندوق ص 17) ولا ينسى في خضم كل تلك المشاعر الحسية والخيالية أن يعيش حالات روحانية فيها الأمل والتحرر كما في قصة (البنت الشجرة ص 31).
تحكي القصص إذاً حالة سيكولوجية من التداخل الثقافي الإشكالي تضم شهوات وغرائز، وتطمح للتحرر، وتعاني في نفس الوقت من واقع مضطرب، يعكس اضطرابه على الكائنات التي تعيش فيه.
البعد العاطفي
 يعتبر الخطاب الصوفي خطاباً إشارياً تواصلياً وديناميكياً غير محدود نابع من قلوب حية، يعبر عن مواجد صاحبه التي تسعى للذوبان في الكل الأعظم، وبذلك فالخطاب الصوفي وإن كان غير معني بالعواطف الحسية المادية والغرائز إلا أنه لا ينفيها بل يسعى للتسامي عليها برياضة الروح والبدن، واختيار الكاتب للكتابة في الشكل الصوفي يعكس عاطفة جامحة، ورغبة قوية لدى الكاتب في تهذيب الذات، وإصلاح الوجود سواء على المستوى الشخصي أو الكوني.
البعد الثقافي (الاجتماعي والتاريخي)
تعكس نصوص باشري في مجموعة صحيح عاشق اختلاط المفاهيم الثقافية وهي سمة تميز الثقافتين العربية والمصرية منذ عدة عقود، وتشكل مأزقاً ثقافياً صعب الخروج منه بلا تخطيط، فرغم اللغة الصوفية التي تحيط بالنصوص الإبداعية بدءاً من الغلاف، نجد حساً إبيقورياً صارخاً في العديد من القصص (أضغاث أحلام ص 8 – خارطة ص 20 – تجلي ص 22 – مساعدة ص 23... الخ) ورؤية اجتماعية تتراوح ما بين النقد والسخرية في قصص (نوفذ ص 13 – العصفور ص 14 – بقرة وحمار وثور ص 15... الخ) هذا الخلط المفاهيمي يطال ماهية الجمال باعتباره قيمة إنسانية عُليا ليتحول إلى مجرد شعور يهدف لإشباع الكاتب فنياً ليس إلا في حين أن الحاجة ماسة في ظرفنا التاريخي الراهن لوعي جمالي مسئول ومُوجِه لأنشطة ثقافية إنسانية في إطار مفاهيم الثقافة سواء اقتصادية أو صناعية أو سياسية أو إعلامية أو بيئية أو فنية إبداعية كما تعرفها الانثروبولوجيا، ولا يعني هذا أن الحاجة إلى الجمال تُقاس بإشباع حاجات وظيفية جمالية مفتعلة ولا بنشاط دعائي كالواقعية الاشتراكية السوفيتية ولكن بحس فني يقرأ الواقع ويبشر بالمستقبل ويمسك بيد القادمين إلى هذا المستقبل.  
ختاماً...
يمارس ياسر سليمان با شري التجريب في هذا العمل وهو حق أصيل من حقوق المبدع لا يمكن نفيه أو المجادلة فيه؛ إلا أن الالتباس الثقافي الذي تعيشه مصر ساهم في حجب الرؤية الواضحة الصحيحة للثقافة والواقع عن عين قلب كاتبه المتذوقة للجمال، وساعد تشوه المفاهيم الذي يسم هذه المرحلة من تاريخ الوطن على ذلك، وحين اختار با شري الإبداع... أو اختاره الإبداع... فضل أن يكون من القوى التي تجر قاطرة المجتمع للأمام، فاختار بذلك دوراً صعباً يستحق عليه التحية، وأصبح مطالباً في ذات الوقت بالوفاء بتبعات هذا الاختيار، وهو مرشح بقوة لأداء هذا الدور الريادي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق