الثلاثاء، 11 يناير 2011

خنوثة الدولة ومأساة الإسكندرية

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد
عضـو اتحـاد كتــاب مصـر

أبدت الدولة المصرية خنوثة غير مسبوقة في تعاملها مع الأحداث الدامية التي لوثت دماءها مدينة من أعرق مدن العالم، اشتهرت على مدى تاريخها القديم والحديث بالتسامح والتعايش، وليس أدل على خنوثة الدولة ومؤسساتها من تعرض وزراء ومحافظ المدينة للضرب حتى أن بعضهم أصيب بالإغماء من فرط الرعب.
إن تعامل الدولة المصرية مع المأساة الطائفية بأسلوبها الأثير في التسويف، والكذب على النفس والجماهير، ومعالجة الأعراض، وتجاهل الأسباب الحقيقية للأزمة الطائفية هو أساس الكارثة والطريق الذي مهدته ممارسات الدولة غير الحكيمة إليها.
لقد كانت مقدمات ما حدث واضحة بينة منذ أحداث محرم بك غير المسبوقة في الإسكندرية، وكل ما كان يجب عمله من الدولة هو تقصي الأسباب الحقيقية لهذه الأحداث، وتحليلها أمنياً وثقافياً التحليل الصحيح غير المتهاون، وتتبع جذورها والتعامل مع هذه الجذور برجولة الدولة أو أنوثتها، وليس خنوثتها التي تتجاهل الحقائق، وتضع القاذورات تحت طرف السجادة.
لقد كانت الحقائق شديدة الوضوح لمن هو محدود الذكاء، فكيف غابت عن المحترفين من رجال الأمن؟ أم هي توازنات الساسة الذين تحالفوا فينة مع تيار ديني لمكاسب سياسية، ثم انقلبوا عليه، وتحالفوا مع نقيضه ليدفع المواطن البسيط ثمن هذه التحالفات من دمه؟
لقد افتقدت الدولة وأجهزتها السياسية والأمنية الشجاعة المطلوبة، والقدرة على مواجهة الحقائق المتعلقة بالاحتقان الطائفي، وهذه الأجهزة ذاتها التي تستأسد على استحياء في (بعض) المواقف هي التي تتجاهل (وعن عمد) ما لا يتجاهله المتعصبون من المسلمين والمسيحين، وما يقيمون عليه علاقات الصراع فيما بينهم تحت بصر وسمع أجهزة الدولة الرسمية.
لقد خرج آلاف المصريين في أعقاب جريمة شارع خليل حمادة يحملون سيوفاً، وسنجاً، وسكاكين، وخناجر، وعصي، ويحمل بعضهم ما هو أخطر من ذلك من أسلحة، وتعرضوا للآمنين في مواقعهم وسياراتهم في فورة غضب، ولم نر رد فعل السلطة التي تعودت على قمع الشعب المسالم في ظروفه العادية، فلم تتخذ أي موقف يتوازى وحجم التهديد الأمنى الذي يتهدد مصر من أدناها لأقصاها، والذي لو بلغ مداه لكان كارثة من أبشع ما عرفه البشر، ولم تعرفه مصر عبر تاريخها كله.
إن الدور المطلوب من الدولة الآن يتجاوز بكثير الكشف عن مرتكبي جريمة شارع خليل حمادة، ف المطلوب من الدولة الآن وأكثر من أي وقت مضى هو دور وقائي واستباقي وعلاجي وتأهيلي باعتباره دور ثقافي شامل هربت الدولة دائماً من ممارسته في مواجهة مشاكل المصريين.
يجب على الدولة الآن تأمين الشارع المصري بما هو أكثر من جنود الأمن المركزي المساكين الذين يركضون في مواجهة (الشوم، والسيوف، والسنج) فعلى سبيل المثال لا الحصر لابد من تكثيف التواجد الأمنى ولو بالاستعانة بالقوات المسلحة في أماكن الاحتقان، والمرافق الهامة في مختلف أرجاء الجمهورية، وتأمين الكنائس والأديرة بقوات أمن حقيقية من الجيش.
الدولة الآن مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالبحث وراء الأسباب الحقيقية للاحتقان مثل ما تردد عن وجود أسلحة في الكنائس، وتأكيد ذلك أو نفيه بأساليب جادة تتجاوز بريق الإعلام الساذج عن (الوحدة الوطنية) أو ما انتشر عبر الإنتر نت عن امتلاك الكنيسة المصرية أراض تزيد في حجمها عن مجمل ما تمتلكه الولايات المتحدة الأمريكية من قواعد عسكرية حول العالم كله وهو كلام خطير مزود بالأرقام والصور، كذلك عدم التغاضي عن دور بعض خطباء الجمعة، والقسس والرهبان ومدارس الأحد في إحداث الاحتقان، ولا يمكن نفي ذلك أو إثباته إلا بدور شفاف للدولة، يتبنى قانوناً واحداً موحداً لدور العبادة في مصر، يحترم العقول والضمائر.
لقد عشت ما عشت من عمر منذ طفولتي، وأنا لا أعرف الفارق بين مسلم ومسيحي في هذه المدينة، فقد كنا أطفالاً في المدرسة المحمدية، وأتناوب أنا ونسيم على حمل زميلنا عبد الستار المصاب بشلل الأطفال إلى منزله يومياً، وحين خدمت في القوات المسلحة، كان عيسى زميلي الذي ترافقت معه بعدما اكتشفت أنه جار خالي، وكنت أحمل رسائله ويحمل رسائلي في الإجازات إلى أهلينا، وكانت أمي تقذف غسيلها المبتل الزائد إلى جارتنا أم اسطفان من الشرفة لتنشره عندها، وتلقي لها كذلك بكحك العيد، وتتلقى مثله منها.
إن ما حدث ويحدث لهو مهزلة سياسية سخيفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فإذا لم يكن هذا هو الوقت المناسب لاستخدام القانون سيء السمعة المسمى قانون الطواريء والذي ظل مسلطاً على أعناق المصريين سنوات طوال بحجة الأمن الوطني، فمتى يكون استخدامه؟
لو كان لدى المسئولين في الدولة المصرية حياء من أي نوع لاستقال على الأقل معالي وزير الداخلية، ومعالي الوزير المحافظ، وسعادة مدير الأمن العام، وسعادة مدير أمن الإسكندرية، وسعادة مأمور قسم المنتزه؛ لكن يبدو أن الغراء المستعمل لتثبيتهم في كراسيهم من نوع (سوبر جلو) الذي يتم به لصق المعادن بعضها ببعض، فتعسر عليهم مغادرة مقاعدهم.
لكن إن غلبتهم العزة بالأثم وأصروا على البقاء، فهل يتغلبون على عزة آثمة أخرى بالتنازل عن الالتزام بأساليب عفى عليها الزمن، وثبت أنها غير قادرة أو جديرة بحل المشاكل، وتبنى أساليب أكثر ثقافة، وحزماً وجدية في التعامل مع مثل هذه الكارثة، والبحث عن مستشارين أكثر وطنية وأمانة، وأقل طاعة للمسئولين، وأن يصبح مسئولونا أكثر طاعة لوجهات نظر أمينة وحكيمة لا تردد كالببغاء "كله تمام يا أفندم"؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق