الثلاثاء، 11 يناير 2011

فن النقش RELIEF وتجربة تشكيلية فريدة

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

فن جميل يعتمد على تقنية تغيير ملمس السطح بصنع نقوش غائرة، أو بارزة، وأشكال ثلاثية الأبعاد على مستويات مختلفة من سطح الخامة التي يتم نقش العمل عليها حيث يمكن تنفيذ النقش على العديد من الخامات من أهمها الأحجار بأنواعها الصلبة، والمتوسطة الصلابة، وغير الصلبة، والطين والمصيص، والعظام، والعاج، والأخشاب، والمعادن والسبائك.
وحيث تختلف خصائص المواد تختلف تقنية العمل وأدواتها تبعاً لذلك، فتختلف أدوات النقش تبعاً لنوعية النقش المطلوب وطبيعة الخامة المستخدمة إذ تتنوع أوزان أدوات الطرق ما بين المطارق الثقيلة إلى المتوسطة والخفيفة، كذلك الأزاميل بأحجامها المختلفة؛ كما يتنوع شكل حد الأزميل من المدبب لذي الحد، والمقوس، وغير ذلك من الأشكال؛ كما تختلف أشكال السندات المستعملة للنقش على الصفائح المعدنية بأسلوب الطرق على المعادن تنوعاً كبيراً.
وكان الخشب – ولا يزال – من أكثر الخامات إغراءً لتنفيذ النقوش والزخارف عليه، ونحت التماثيل سواء بشكل مستقل أو على الأثاث والمصنوعات الخشبية، والأدوات المنزلية لما يتميز به الخشب من طبيعة مرنة طيعة في التشكيل إضافة لخفة وزنه النسبية، وإمكانيات القطع وتركيب قطع مختلفة مع بعضها البعض بتقنيات متنوعة، وتعدد ألوانه وتدرج أشكال أنسجته الطبيعية، وسهولة التعامل معه مقارنة بالخامات الأخرى لتنوع أدوات القطع، والثقب، والبرد، والحفر، والتنعيم تنوعاً كبيراً.
إلا أن الخشب يفتقد ميزات هامة مثل الاستقرار الناتج عن ثقل الوزن، والصلابة، وطول العمر ومقاومة عوامل الزمن مما أفقد البشرية أعمالاً فنية رائعة – سمعنا عنها ولم نراها – أفنتها الحرائق، والتعفن، أو أكلتها الحشرات والكائنات الدقيقة؛ إلا أن التقدم العلمي في العصور الحديثة منح هذه المادة المغرية للفنان إمكانيات متطورة ساعدت على حماية الأخشاب والمحافظة عليها بشكل أفضل بكثير مما سبق.
وتميز معدن النحاس بموقع فريد بين المعادن ذات الصلة بفن النقش؛ حيث استخدمه الإنسان منذ اكتشفه في صنع الأواني المنزلية، وأدوات الطقوس والشعائر الدينية، وكان المادة المفضلة لسك النقود عبر التاريخ؛ كما استخدم كحلية مضافة للخشب لتجميله، أو دعمه وحمايته، فقد استخدم على شكل صفائح لدعم أخشاب السفن وحمايتها من التآكل والتلف، وبالطبع قام الفنان بزخرفة هذه الصفائح.. ساعد على تميز النحاس ليونته النسبية وقوته في نفس الوقت مما ساعد على تصنيعه في أشكال متنوعة، وسحبه على شكل رقائق وصفائح تصلح للعديد من الاستخدامات من أهمها الطرق لإعادة تشكيلها وزخرفتها ونقشها؛ كما أن درجة الانصهار غير المرتفعة ساعدت على استخدامه في صب القوالب، كذلك إمكانية خلطه بمعادن أخرى لصنع السبائك حيث يخلط النحاس المصهور مع القصدير لإنتاج البرونز (المفضل في صب التماثيل) ومع الزنك لإنتاج النحاس الأصفر (المفضل في صنع الآنية المنزلية، ودعم وتزيين الأخشاب) كما يخلط مع الذهب والفضة لصنع سبائك ذات قيمة مادية تستخدم في بعض الصناعات وفي صنع الحلي والنقود،فقد لعبت صياغة الذهب، والأحجار الكريمة، وشبه الكريمة دوراً فعالاً في نشوء فن الحفر وتطوره عبر التاريخ الذي حفظ لنا في مراحل البشرية المختلفة قطعاً من الحلي المعدنية المنقوشة فائقة الجمال والدقة بعضها مزين بالأحجار الكريمة، أو شبه الكريمة.
وبالطبع كانت الأحجار هي الخامة الأكثر استخداماً لتنفيذ النقوش عبر التاريخ، فاستخدمت الأحجار متنوعة الصلابة، واستخدمت أنواع متعددة من الطين، والجص – سواء بشكل مستقل أو مع الأحجار – لصنع النقوش والزخارف على الجدران، والأفاريز، وأعمدة المباني الداخلية والخارجية.
يبدأ فنان النقش تعامله مع السطح الخام بتهيئة هذا السطح تهيئة أولية تتناسب ونوع الخامة التي يعمل عليها، فعلى سبيل المثال إذا كان السطح حجرياً يقوم بتحديد مساحة العمل، ثم تهيئته على الشكل المحدد سواء كان مسطحاً أو أي شكل آخر، بعد ذلك يقوم بإزالة النتوءات غير المرغوب فيها، ويرسم التخطيط المبدئي للأشكال والزخارف التي سيقوم بتنفيذها على هذا السطح، ويحدد تقنية التنفيذ أهو غائر SUNK أم بارز RAISED حيث يتم في النقش الغائر تنفيذ الأشكال في مستوى أعمق من مستوى السطح، وفي البارز تكون أعلى من مستوى السطح بارزة أمام الخلفية، وغالباً تستخدم تقنية النقش الغائر في تنفيذ الأعمال الخارجية التي تتعرض لضوء مبهر لأن النقش الغائر يبدو أكثر وضوحاً في الضوء القوي كضوء الشمس، ويفضل تنفيذ النقش البارز في أعمال تزيين البيئة الداخلية.
يبدأ الفنان عمله بعد الانتهاء من التخطيط الأولي باستخدام الأزاميل والمطارق متفاوتة الأحجام، والأوزان لحفر الشكل العام الأساسي لمشروعه الفني حتى يستقر على تصور مبدئي، ثم يقوم بأعمال التشطيب مستخدماً أدوات أكثر دقة وأقل وزناً، وقد يستعمل بعض أدوات التنعيم، أو يقوم بتلوين أجزاء من العمل - أو العمل - كله بتقنيات متباينة.
وقد عرفت البشرية منذ طفولتها المبكرة فن النقش، فوصلتنا أعمال من العصر الباليولوثي مصنوعة من خامات متنوعة مثل الحجارة، والطين، والعظام، والعاج، والقواقع، ومنها خرز، وعقود، وأساور، وأقراط، أهم ما ميزها هو الخيال الإبداعي والذكاء في التعامل مع الخامة حيث استطاع فنان هذا العصر الحجري تحوير أشكال الخامات الطبيعية بمجهود بسيط لتعطي أشكالاً بشرية، أو حيوانية متنوعة.
وتميزت قطع العاج المنقوش التي وصلتنا من العصر الحجري القديم والتي يصل عمرها إلى 13 ألف عام قبل الميلاد، ومعظمها من إنتاج الإنسان الأوروبي في هذا العصر، وكانت غالبية النقوش للشكل الأنثوي العاري، ومع اقتراب هذا العصر من نهايته أخذت أشكال الحيوانات تسود الأسطح العاجية والحجرية المنقوشة.
وعرفت الحضارات القديمة كلها دون استثناء فن النقش فوصلتنا من الحضارة المصرية القديمة على امتداد تاريخها الطويل أعمالاً رائعة في هذا المجال؛ إذ سيطر الفنان المصري القديم بأستاذية على هذا الفن بتقنياته المختلفة، واستخدمه في تزيين القصور، والمعابد، وجدران المقابر التي ضمت جدرانه لوحات رائعة من الحفر الغائر، والبارز، وتميز بعضها باستخدام الفنان لأوان من الأكاسيد المعدنية لإضفاء الواقعية عليها وكانت النقوش تصور المشاهد الملكية، أو مشاهد من الحياة اليومية.. من أشهر هذه الأعمال جداريات المقابر الملكية في وادي الملوك بالأقصر، وتلك الموجودة على جدران معبد أبي سنبل لتروي مشاهد من المعارك بين مصر والحيثيين؛ كما وصلتنا أختام أسطوانية منقوشة من النحاس والأحجار تعود لفترات تاريخية مختلفة في تاريخ مصر القديم.
وقد تركت لنا حضارات ما بين النهرين أعمالاً في غاية الثراء والجمال من النقش على الحجر – خاصة النقش البارز – فكانت جدران قصور حضارات ما بين النهرين المختلفة متاحف كاملة لمتتاليات من المشاهد أشبه بأشرطة سينمائية: كل واحد منها يروي قصة من حكايات الملوك أو الآلهة، وتميزت أعمال الأكاديين، والسومريين باستخدام الأحجار القاسية الصلبة لتنفيذ أعمالهم على عكس الآشوريين الذين فضلوا استخدام الأنواع الرقيقة من الأحجار.
وقد أثرت حضارات ما بين النهرين في المناطق المجاورة لها ونرى هذا التأثير واضحاً في الآثار الباقية من قصر الملك الفارسي داريوس الذي حكم في العصر الإخميني خلال الفترة من 518 إلى 460 قبل الميلاد.
ورغم أن النحت هو أبرز ما ميز المنتج الفني للحضارة الإغريقية؛ إلا أنها قدمت لنا ضمن ما قدمت أعمالاً زخرفية، ونقوشاً رائعة ميزت الأبنية والمعابد – خاصة الأفاريز الحجرية – كما حصلنا على صديريات ودروع محاربين معدنية منقوش عليها قصص ميثولوجي يحكي صراعات الأبطال، ومصائرهم مع الآلهة.
وكما استنسخت الحضارة الرومانية الثقافة اليونانية قلدت أعمال النقش أيضاً، وإن طورت أسلوباً يتميز بالواقعية أكثر، ويعنى بتوثيق الأحداث – خاصة الحربية منها - حيث تبدو الأشكال الحية طبيعية المظهر.
وقد وصلتنا من العصور المسيحية المبكرة توابيت رخامية تضم مشاهد من العهدين القديم والجديد (الكتب المقدسة) منحوتة على شكل زخارف بارزة مصقولة أغلبها موجود بمتحف الفاتيكان في روما؛ كما أن الفنون المصرية القبطية ضمت أعمالاً متميزة تشكيلياً من أعمال النقش.
وقد عرفت حضارات أخرى مثل حضارات الأنكا والمايا في أمريكا فن النقش والحفر، وتوجد أعمال فنية رائعة في هذا المجال، كما ضمت المعابد الهندية، والصينية، واليابانية، وكافة ثقافات آسيا أعمالاً من النقش والحفر تنتمي لمراحل تاريخية مختلفة.
وقد استمرت تقاليد فن النقش وتقنياته حتى وصلت مستوى رفيعاً في عصر النهضة على أيدي فنانين عظام في هذا المجال مثل الإيطالي أندريا بيزانو الذي زين البوابات الجنوبية لكنيسة المعمدان في عام 1336م كما احتل النقش مساحة هامة في صنع الأيقونات التي لم يصلنا معظمها للأسف.
ومازال فن النقش حتى يومنا هذا يحظى باهتمام العديد من الفنانين الذين يجدونه وعاءً مناسباً ومغرياً يصبون إبداعاتهم فيهم رغبة صعوبة التقنية، والمشاكل الناتجة عن التعامل مع خامات لا يمكن وصفها بالسهلة.
تجربة علي الضمادي التشكيلية.. تجربة فريدة في فن النقش
يعمل على الضمادي في صمت وبطء، ويعاني خامة العمل معانة غريبة، فهو يكتوي بقسوتها، ويعشق ملمسها، ويداعبها بأزاميله ومطرقته، فتتلوى صفائح النحاس القاسية بين يديه في ليونة أنثى لعوب، وإذا بالسطح الأملس عديم الشخصية تنفجر خفاياه، وتنطق بحوار بصري ولمسي فريد.
قد يكون علي الضمادي مصوراً تتشابه أعماله وتتجاور مع كثير من المصورين، وقد يكون رساماً متميزاً خطوطه شديدة القوة والجرأة والوضوح، تصنع المساحات المتفجرة بالحركة، والكتل المتحدية التي تجبر العين على الحركة على السطح في اتجاه تقوده الخطوط، إلا أنه في مجال الطرق على النحاس يبقى علامة فارقة يصعب مقارنتها بأحد آخر، فهذا الرجل الذي سرق حرفة المعادن من زمن النبي الحداد داوود، وعاش وما زال يعاني النار، والمطارق، وقسوة المعادن بحب عجيب، يمتلك أصابع شاعرة، وخيال مغرق في الحيوية، وروح مسكونة بتراث شعبه وأمته في أجمل تجلياته، وأكثرها إنسانية، وذات مسرفة في الذوبان في البيئة، وامتصاص عناصرها بحب ووله، واكتناز كل ذلك وهضمه، ثم إعادة إنتاجه في إبداع يستلهم كل العناصر، ويعمل على تقديم وجبة بصرية شهية مؤسسة على قواعد الفن الحقيقي الراقية، فالموهبة الرائعة التي تساندها خبرة تقنية لا تقل عنها روعة، يجبران العين أن تتلمس كأصابع مدربة هذه النقلات النغمية في ملمس السطح الذي لا يسمح بوجود أي مساحة عديمة التشكيل، وتملآن المشهد بالأجسام التي كانت مألوفة لنا بعد أن حولها الخيال الخصيب، والمهارة الفنية إلى جمال بديع مكون من كتل ومساحات هندسية تتحاور في حب أحياناً، وعنف أحياناً أخرى، وتتجاور، وتتفرق في حوار لا ينتهي.
يعتمد تحليل أعمال النقش للفنان على الضمادي (في هذا المقام) على العناصر المكونة للغة البصر، مع الابتعاد قدر الإمكان عن التفسيرات الأدبية، وغير التشكيلية من خلال عناصر التحليل التشكيلي (الخامة.. المساحة..الخط.. الكتلة.. الفراغ.. النسيج.. الحركة.. النسبة والتناسب.. التكوين.)
الخامة، والمساحة...
يفضل الضمادي رقائق النحاس ليصنع عليها عمله الفني؛ كما يفضل المساحات الضخمة والمتوسطة للعمل.
الخط.. Line..
 حين يستخدم الفنان الخط ليعبر عن الذكورة، يستخدم خطوطاً مستقيمة تتصل بعضها ببعض في أشكال زجزاجية حادة الزوايا، وحين يستخدم الخط ليعبر عن الأنوثة، يستخدم خطوطاً قوسية تتصل بعضها ببعض في ليونة وبلا زوايا.
 الكتلة Mass ..
الكتلة هي العنصر الرئيس لتنفيذ أعمال الفنان، فهي مركز اللوحة التي تتكون غالباً من كتل صغيرة ومتوسطة، تتحاور فيما بينها، ومع الخلفية من خلال لغة خطية متنوعة، ففي حالة الكتلة الأولى، تأخذ الكتلة الأنثوية الأشكال الدائرية ومشتقاتها مثل الأشكال الكروية والبيضاوية والخطوط المقوسة، وفي الحالة الثانية تأخذ الكتلة الذكورية الأشكال المستقيمة ومشتقاتها مثل المثلثات، والخطوط الحادة.
الفراغ  .. space /leisure..
 لا يترك الضمادي أي فراغ في لوحة العمل كفنان واع بتقنية التشكيل؛ حيث يوزع مساحات العمل بين الفكرة الأساسية، وموتيفات تصنع توازن معها، يوازنها في الفراغات نسيج زخرفي.
النسيج.. الملمس.. ..Texture
 مهما كانت قوة التكوين الأساسي وتنوعه، يحرص الضمادي على بناء خلفية قوية مكونة من نسيج زخرفي في الفراغات، والنسيج الزخرفي الذي يملأ الفراغ نسيج حساس رقيق ودقيق، يحتاج لصبر ومهارة في تنفيذه، ويعتمد النسيج الزخرفي في اللوحة على سلسلة لا نهائية من العلاقات ما بين (النقاط، والشرط) ومن ثم يحيل الفراغ إلى زخرفة تشكيلية تصنع نسيجاً يشبه الدانتيل.
الحركة.. Motion..
 تتميز الحركة في أعمال علي الضمادي بالرشاقة التي يعبر عنها باستخدامه لتركيبات هندسية يمتزج فيها المثلث الذي توحي زاويته العليا باتجاه الحركة، ولا تكون الخطوط بحدتها المعهودة؛ بل يمتزج فيها التثني بالاستقامة.
النسبة.. Golden rule..
 الإطار العام لنسبة طول اللوحة إلى عرضها يخضع لقانون النسبة الذهبية، وهي غالباً نسبة (6/9) في معظم اللوحات، كما يخضع تكوين اللوحة وتقسيمها أيضاً لقانون النسبة الذهبية.
التكوين Composition..
يعتمد تكوين العمل الفني على استخدام أكبر مساحة من اللوحة لتنفيذ العمل الذي هو غالباً شكل رئيسي مكون من عدة أشكال فرعية.
قلبي مع هذا الرجل يوم تجبره السنون أن يستثقل حمل المطرقة، ويصعب عليه احتضان لوح النحاس الثقيل، ليضعه فوق سندانه المتحرك ليمارس أغرب عشق.. العشق بين المطرقة والسندان.

لكن عزاءك يا صديقي أن كل قطعة مما أبدعت سوف تبقى كما بقيت آثار الفراعين، والبابليين، واليونان والرومان، فسواء كنت أنت الذي اخترت الخامة، أو هي التي اختارتك، فقد اتفقتما على الخلود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق