الثلاثاء، 11 يناير 2011


العقل العربي بين الالتزام، والإلزام

 تعد الطاعة أحد الفضائل في الثقافة العربية كما تعد ضماناً رئيسياً للتماسك الاجتماعي ودعامة أساسية لاستتباب الأمن بين مختلف طوائف وفئات المجتمع، وضمانة لاستقرار العلاقة بين الفرد ومختلف المؤسسات الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد في مختلف مراحل حياته - لذلك تركز تربية الإنسان العربي علي تثبيت قيمة الطاعة في مختلف مراحل التنشئة، وغرسها في نفسه بحيث تصبح جزءا لا يتجزأ من تكوينه المعنوي.
ويقوم الخطاب الجمعي للمجتمع في فترة تاريخية محددة بالتعبير عن الحاجات الحضارية المرحلية لهذه الفترة، وهنا لابد من وقفة بسيطة للتركيز علي الفارق بين مفهوم الحضارة ومفهوم الثقافة حيث الحضارة تعبير مادي عن منجزات ثقافة المجتمع في فترة تاريخية محددة بينما ثقافة المجتمع هي المنجز الفكري التاريخي، والآني لهذا المجتمع متضمنا العادات والتقاليد وقيم هذا المجتمع إضافة لإبداعاته العقلية - لذلك - فالمؤسسات الاجتماعية المختلفة يؤرقها المنجز الحضاري بينما المبدعون ورجال الفكر محملين بهموم الثقافة حيث انهم الأقدر علي استشراف المستقبل، وهم القاطرة المفترض فيها أن تجر المجتمع نحو هذا المستقبل.
يبرز نتيجة لذلك موقف صراعي بين المجتمع والمبدعين بحكم ارتباط المجتمع بالواقع الحضاري، وإصرار المبدع علي سحب هذا المجتمع إلي مساحات أرحب تستهدف تطوير ثقافة هذا المجتمع واختراق آفاق أكثر جدة وتطورا من الواقع الآني.
ينتج هذا الموقف الصراعى عن لجوء قوي اجتماعية - تحت دعوى الالتزام - لربط المبدع بالواقع ومحاولة إقناعه بالتخلي عن الحلم في المستقبل، وهي في حقيقتها محاولة إلزام للمبدع بالقيم الحضارية الآنية، وقمع نزوعه الثقافي المستقبلي، وتجريده من أفكاره وميوله الطبيعية باعتباره ذاتا موهوبة متميزة، فينتج عن هذه المحاولة - التي هي في الأساس محاولة فرض نظرة اجتماعية متجانسة علي المبدع وذاته الفريدة - تحولات وتغيرات في ميول واتجاهات المبدعين تجعلهم أكثر إحباطا وعدمية في بعض الأحيان بينما تتحول إلي رفض وتمرد وجنوح في أحيان أخري، وفي كل الأحيان تدفع المجتمعات العربية تكلفة ذلك مضاعفة نتيجة اغتراب هذه العقول عن مجتمعاتها ورفضهم لمختلف التيارات والاتجاهات السائدة في مؤسسات المجتمع كرد ملموس علي إغفال المجتمع لأحلامهم واغتيال رؤاهم بقصر الاختلاف بين الأبيض والأسود، وإغفال كل مساحات الاختلاف الأخري وإغلاق النافذة المفتوحة بينهم وبين المستقبل كما يرونه.
و تساهم –للأسف- المؤسسات الأكاديمية العربية بشكل إيجابي في تعميق هذا الخلل من خلال النمط التعليمي والتربوي الذي ينتج قوالب من المتعلمين الذين يحق لهم النمو الوظيفي دون نمو عقلي وعلمي مبدع، وبغير امتلاكهم لأدوات عقلية تمكنهم من فهم الأفكار والأطروحات التي تصنع الفهم الشامل لحركة المجتمع ككل واستشراف القوانين الطبيعية والعلمية التي تحكم نمو وتطور هذا المجتمع، ومن ثم تساهم هذه النماذج في تزييف الوعي وتغييب التيارات الفكرية الفاعلة والمبدعة بدلا من المساهمة في تنمية العقل الجمعي.
ويبقي المبدع العربي وسط كل هذه التراكمات مرفوضا منبوذا بدعوى عدم الالتزام، والصحيح أنه لن يُقبل ما لم يقبــَـل بما يُلزم به من أدوار، وأفكار، وهنا تحضرني أسماء طه حسين، وبدر شاكر السياب، والجواهري وبلند الحيدري، وأمل دنقل، وغيرهم كثر.
وتجدر الإشارة إلي تجربة الاتحاد السوفيتي السابق في سعيه لإنتاج فن وثقافة دعائيين من خلال أطروحات نظرية لتقنين الإبداع الفني تحت مسمي الالتزام - وهو إلزام في جوهره - فكانت النتيجة أن توقف تيار الإبداع الروسي العظيم المتمثل في تولستوي ودستويفسكي، وبوشكين، وجوركي، وتشيكوف وجوجول واتخذ الإبداع مسارات ملتوية للتعبير عن نفسه بعيدا عن القيود الستالينية، فعمد إلي تطوير تقنيات وأشكال معقدة في نظريات الفن لم تجد مساحة حقيقية لتحقيق ذاتها إلا بعيدا عن الإلزام الشيوعي ضيق الأفق، ولعل الكتاب العظيم (واقعية بلا ضفاف) للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي ابلغ تعليق علي ذلك.
إن الإبداع العربي الحقيقي لن يتحقق إلا بمصالحة صادقة بين المجتمع، والمبدعين من خلال إدراك المؤسسات الاجتماعية العربية بأن الالتزام هو نتاج لتفاعل المبدع تفاعلا صادقا مع ثقافته، وتنامي قدرات المبدعين علي هضم مفردات هذه الثقافة، وإعادة إنتاجها دون إلزام أو قهر، أو تزييف نتيجة لحاجات آنية عابرة، والنتيجة في صالح المجتمع العربي آنياً، ومستقبلاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق