الأربعاء، 12 يناير 2011


الأطر المعرفية الحديثة في التعليم والتعلم

أحمد إبراهيم أحمد
"التعليم هو وسيلتنا لبلوغ المستقبل، والمستقبل ملك لمن يصنعه اليوم"
مالكولم إكس – الزعيم الأمريكي الأسود
ليس المثقف الموضوعي العضوي بمعزل عن قضايا مجتمعه الثقافية، بل هو جزء حيوي وفعال في هذه الثقافة، ولأنه مطالب بدور في تطوير مجتمعه، فإن دعاوى التخصص والأكاديمية لا يجب أن تعيقه عن طرح ما يتوصل إليه حول القضايا التي يهتم بها، ويرى أنها ذات تأثير في محيطه الطبيعي، فدوره أن يفتح نوافذ على المعرفة، ويثير قضايا، وتطوير أبعاد هذه القضايا بالدراسة التقنية مهمة تالية لدوره، وليس مسئولاً عنها فهي مهمة متروكة للمختصين والأكاديميين الذين قد لا يكونون بالضرورة من المثقفين، وإن كان من الأفضل بلا شك أن يكونوا.
يأتي هذا الطرح الثقافي لموضوع المعرفة والتعليم في ذاك الإطار، فقد دخلت مؤثرات جديدة في السنوات القليلة الماضية، وأثرت على عملية التعليم والتعلم تأثيراً كبيراً من هذه المؤثرات:
*        العولمة، وما أنتجته من انفجار معرفي.
*        ثورة الاتصالات، وإتاحة المعرفة بكل شيء وبأساليب تجاوزت تقنيات التعليم التقليدي.
*        ظهور التعليم الدائم والمستمر طوال العمر، وتطوير مؤسسات تعليمية تساهم في تحقيقه.
*        تحديد المهارات المطلوب إكسابها للمتعلمين في كل تخصص بشكل هو الأوضح تاريخياً.
*        التحديات التقنية، وما تطلبه من استجابات ذات كفاءة محددة KEY COMPETENCIES.
واستلزم ذلك اعتماد علمي واضح على النظرية المعرفية الابستيمية Epistemology في إعداد مناهج التعليم التي يؤثر فيها متغيرات عديدة VARIABLES متعلقة بثقافة المجتمع مثل:
1.        السياق الثقافي لعملية التعليم، وما يتضمنه من تصورات عقلية Mindsets عن المعرفة ووجهات نظر عن الوجود.
2.       الهدف/الأهداف من عملية التعليم.
3.       حجم المعرفة المتوفر عن المعلمين والمتعلمين.
4.        النتائج المتوقعة من التعليم على المتعلمين، والمعلمين.
5.       العلاقة بين هدف التعليم، وبيئته، والنتائج المتوقعة منه.
وحيث ينزع كل إنسان إلى التفكير في اتجاه معين، تحكمه مرجعياته الثقافية، ولأن المعنين بالتعليم ليسوا استثناءً، فقد ظهرت في العصور القريبة الأخيرة نظريات هامة، أثرت في التعليم في بلدان العالم المتقدمة، وتركت أثرها بقوة على أساليب التفكير والسلوك .. من هذه النظريات:

البنيوية Constructivism:
تأسست البنيوية - كفلسفة تعليم - على مقدمة منطقية مفادها أن الإنسان يشيد بنية فهمه الخاص للعالم الذي يعيش فيه بما يعكسه هذا العالم على خبرات الإنسان، ويستخدم الإنسان القواعد RULES والنماذج العقلية المجردة MENTAL MODELS لتأسيس هذا الفهم ليجعل من الخبرات شيئاً ذا معنى، وبذلك يصبح التعليم نشاطاً للمواءمة بين نماذجنا العقلية وخبراتنا، وفي إطار هذه النظرية فإن التعليم يعتمد على الأدلة والقرائن، مُهدف ثقافياً، وذاتي للغاية.
ويصبح المعلم حسب البنيويون "ميسراً FACILITATOR" أو مديراً فنياً بلغة الرياضة COACHE يساعد المتعلمين على تأسيس مفاهيمهم الخاصة، واكتشاف حلولهم للمشكلات التي يواجهون.

النظرية التجريبية في التعليم Experiential learning theory:
تساعد هذه النظرية المتعلم على تطوير قدرته على الإدراك Cognition وتكوين المواقف واكتساب المهارات Attitudes and skills  وتتحدد المقدمات المنطقية للنظرية في أن:
1.        المعلومات وحدها غير قادرة على إحداث تغيير معرفي.
2.       الخبرات الشخصية بمفردها لا تولد المعرفة.
3.       لا مفر من الربط بين المدلول النظري Theoretical meaning والخبرة experience.
4.     رغم أن المتعلم قادر على ممارسة المهارت المكتسبة حديثاً، إلا أنها لا تكون راسخة بداخلهintegrated ما لم تؤسس على مواقف Attitudes يدعمها استيعاب نظري لتغيير نظرية الفعل (يُكونها الفرد لتمكنه من فهم عناصر سلوكه الشخصي، وترتيب هذه العناصر، والظروف المؤثرة فيها معتمداً على السببية المنطقية: إذا فعلت س فسوف يحدث ص).

مبادئ التعليم التجريبي:
أسس العالم كيرت ليفين Kurt Lewin نظرية في التعليم التجريبي عام 1935م طورها العالمان جونسون وجونسون ( طبيب وزوجته) ونشرا نتائج عملهما عام 1994م، وكانا قد اشتهرا منذ الستينات الميلادية بأبحاثهما في السلوك الإنساني، وعلاقته بالمشكلات الشخصية خاصة الجنسية منها، وكان من أهم ما جاء في هذا العمل من نتائج:
1.     عند تعريض المتعلم لتعليم تجريبي تتأثر بنيته المعرفية (نظرياته للفعل، ومواقفه، وقيمه، وإدراكه الحسي، وأنماطه السلوكية) وطبقاً لهذه النظرية فإن المعلومات وحدها غير قادرة على إحداث تغيير – لذلك -  حتى يحدث التغيير يجب أن يؤثر التعليم في بنية الفرد المعرفية بأكملها.
2.       يعتنق الناس المعارف التي يكتشفونها بأنفسهم أكثر من تلك التي تصلهم من الآخرين.
3.     التعليم الإيجابي أو التفاعلي (الذي يأخذ شكل حوار بين المعلم والمتعلم في أكثر من اتجاه) أكثر فاعلية من التعليم السلبي (الذي يتم فيه التعليم في اتجاه واحد، يُرسل المعلم فيه المعلومات وعلى الطالب تلقيها فقط).
4.     يجب أن تكون عملية التعليم لإحداث التغيير المعرفي عملية شاملة لتغيير كل المنظومة السلوكية؛ إذ لا يصلح أسلوب التجزئة الذي تقسم فيه عناصر التعليم إلى أجزاء لإحداث تغيير في البنى المعرفية والسلوكية، ويتسبب أسلوب تجزئة التعليم في عدم تبنى الأفراد لنظريات فعل حديثة، ولا تتكون لديهم مواقف، ولا أنماط سلوكية من المطلوب إكسابهم إياها.
5.       لا تكفي الخبرة المبدئية first hand experience لتكوين معرفي فعال.
6.      تظل التغيرات السلوكية مؤقتة حتى تدعمها تغيرات نظرية الفعل والمواقف التي تدعم التغيرات السلوكية.
7.     تغير إدراك الفرد لذاته وبيئته الاجتماعية أساس لحدوث تغيير في نظرية الفعل والمواقف التي يتبناها، وبالتالي تغير إدراك الفرد لذاته وبيئته الاجتماعية هو المقدمة الفعلية للتغيير السلوكي.
8.       يمارس الفرد تجريب السلوكيات، والمواقف، ونظريات الفعل الجديدة بحرية كلما زاد دعم وقبول المجتمع لهذا التجريب.
9.       لا تدوم أوتستقر التغيرات السلوكية والمواقف ونظريات الفعل الجديدة إلا بعد أن يطال التغيير المجتمع كما يطال الفرد.
10.     يسهل إحداث التغيير في الأنماط السلوكية والمواقف ونظريات الفعل الجديدة في سياق جماعي أكثر من السياق الفردي.
11.     يكتسب الفرد أنماطاً سلوكية ومواقف ونظريات فعل جديدة عند انضمامه لتشكيلات اجتماعية جديدة (جماعات - أحزاب..الخ).
المهارات العقلية المتعددة  Multiple intelligences:
صممت جامعة هرفارد عام 1983م مشروعاً هاماً لتطوير التعليم اطلقت عليه اسم المشروع صفر Project Zero حيث أوضحت دراسة للدكتور هاوارد جاردنر Dr Howard Gardner أن تعريفات الذكاء التقليدية لم تعد تفي بالغرض منها، ثم نشر في عام 1997م في ملبورن تعريفاً للذكاء مفاده:
" الذكاء هو القدرة على حل المشاكل، أو تصميم منتج ذو قيمة من وجهة نظر مجتمع واحد، أو ثقافة واحدة على الأقل ".
وحدد جاردنر عدداً من المهارات العقلية؛ الأساسي منها ثمانية هم:
1.        المهارات اللغوية، والتخاطب.
2.       المهارات المنطقية (الرياضة الذهنية).
3.       المهارات السمعية المتعلقة بالموسيقى والبنى الصوتية.
4.        المهارات البصرية المتعلقة بالجماليات المرئية والتشكيلية.
5.       المهارات البدنية المتعلقة بالأداء الحركي الجمالي والتوافق العضلي العصبي.
6.      مهارة إدارة الإمكانيات الذاتية Interpersonal .
7.       .مهارة إدارة العلاقة مع الأشخاص الآخرين Intrapersonal .
8.       المهارات البيئية، وتلك اللازمة للبقاء وحفظ النوع.
وعرف جاردنر المهارات العقلية المتعددة في مؤتمر عُقد في ملبورن باستراليا في يناير 1997م تحت عنوان "مؤتمر استخدم عقلك The Using Your Brain Conference" كالتالي:
" تعتبر المهارات العقلية المتعددة معادلة كيميائية، تضم العناصر والمركبات المكونة لعقل ما"
ومن المتوقع أن تصبح نظرية المهارات العقلية المتعددة وسيلة فعالة في تطوير التعليم في الفترة القادمة كونها تحقق استفادة أكبر لاكتساب المعرفة والخبرة بطرق متعددة، عبر فهم أساليب المعرفة Knowing – الفعل  Doing – التحقق أو الوجود  Being.

نظريات تعليم الكبار  Adult learning theories:
اهتم عدد كبير من المنظرين والممارسين ببحث العوامل المؤثرة في تعليم الكبار من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر نوليز Knowles  عام 1984م وريفانس Revans  عام 1985م وروجرز Rogers  ونوكس Knox  عام 1987م، وكانت خلاصة الدراسات أن هناك عوامل أساسية تتعلق بتعليم الكبار من أهمها:
1.        عند الكبار أسئلة دائمة تتعلق بقيمة وأهمية الشئ، وإجابات هذه الأسئلة ذات أثر رئيسي على نجاح عملية التعلم.
2.       لا يمكن تعليم الكبار ما لم تتوفر لديهم الرغبة الذاتية في التعلم، والإحساس بالحاجة للمعرفة.
3.       يؤثر مفهوم المتعلم الذاتي عن التعلم على عملية التعليم، ومدى استفادته منها.
4.        حتى تنجح عملية تعليم الكبارلابد من تثمين المعارف والمهارات الفعلية التي يمتلكها المتعلم.
5.       يستلزم تعليم الكبار تنوع وحيوية عملية التعليم التي لا تفلح إن كانت استاتيكية.
6.      يحتاج تعليم الكبار إلى إشراك أكثر من حاسة من حواس المتعلم الخمسة.
7.       الحاجة ماسة في تعليم الكبار إلى استخدام أكثر من أسلوب وتقنية تعليم.
8.       يستلزم نجاح تعليم الكبار إتاحة الفرصة لهم للتعبير عما تعلموه بأنفسهم، وتطبيق ما اكتسبوه عملياً.
9.     لا يكتمل تعليم الكبار إلا بالتغذية العكسية ( طرح الأسئلة، وتلقي الإجابات، لتقليل التشويش وسوء الفهم الناتج عن عوامل مختلفة من ضمنها وسائل التعليم المساعدة).

التعليم المؤسساتي Organizational learning:
طور المهتمون بتطوير المؤسسات والمنظمات خلال العقود القليلة الماضية أسلوب التعليم المؤسساتي ليكون عنصراً رئيسياً في نظام الإدارة management paradigm وكان ذلك على أيدي العالمين أرجيرس وشون Argyris & Schon  خلال الفترة ما بين 1978 – 1980م حيث وضعا بنية نظرية وأسلوب لاستقصاء ودراسة أساليب التفكير التي تحكم الأفعال من خلال أسلوب التأمل والاستفهام reflection and inquiry وطورا أدوات صُممت خصيصاً لتكون فعالة في التعامل مع المشكلات المؤسساتية، لتحرير العاملين من الأساليب الدفاعية defensive routines التي تؤدي إلى انعدام الفاعلية المهارية skilled incompetence  بحيث يكون التأمل والاستفهام مكونان أساسيان مدمجان في الممارسة practice.
وشهد تطوير الإدارة في بريطانيا خلال الفترة ما بين 1991 إلى 1994م طفرة رائدة، تمثلت في جهود العلماء بدلر وبرجوين وبويدل Pedler, Burgoyne and Boydell اللذين تتبعوا المسار التاريخي لاستراتيجيات التطوير المهني، وأنجزوا نظام تحليل المشكلات وحلها، وصولاً إلى ما تعرفه المؤسسات المتطورة الآن بمفهوم إدارة الجودة الشاملة  Total Quality Management والشركة التعليميةthe Learning Company .
طور سنج Senge  وزملاءه ما بين 1990-1994م في نفس الاتجاه إطاراَ ناضجاً للتعليم بأسم فن وتطبيق منظومة التعليم Art and practice of the learning organization يتضمن أدوات عملية تساهم في تطوير الأفراد والمؤسسات، وتعتمد على مبادئ التعليم المستمر طوال الحياة، ومن أهم هذه الأدوات النظم المفكرة Systems Thinking التي تعتبر العمود الفقري في قيادة الأفراد Personal Mastery ونماذج التفكير Mental Model  والتصورات المشتركة Shared Vision  وتعليم الفريق Team  Learning.
وشهدت جامعة غرب سيدني الاسترالية جهود ريتشارد باودن Richard Bawden ومجموعة من الأكاديمين لتطوير التعليم والتعلم اعتماداً على قواعد التنمية المنتظمة (يطلق عليها التنمية المستدامة)  systemic development وشرح باودن في مقال له نشر عام 1995م كيف أن هذه المبادئ تُحَدِث وتُطَور قدرتنا على الفهم والفعل سواء كمتعلمين أو عاملين وحتى كمواطنين عاديين.
تفتح هذه الأطر العامة عن نظريات التعليم الحديثة والمعاصرة في بلدان العالم المتقدمة نافذة رحبة على المتغيرات التي تعصف بالعقل الإنساني المعاصر، وتدفعه نحو مساحات جديدة شاسعة من الإمكانيات المعرفية، ليس باعتبارها هدفاً في حد ذاتها، ولكن لتحقيق قدرات أنضج، تساعد الإنسان على ممارسة مختلف الأنشطة التي يتطلبها تحقيق وجوده في هذا الكون كخليفة لله في أرضه، وما أجدرنا باتباعها.

REFERENCES

  1. Argyris, C. and Schon, D.A. (1978). Organizational Learning: A Theory in Action Perspective. Reading, Mass.: Addison-Wesley.
  2. Bawden, R. (1995). Systemic Development: A Learning Approach to Change. Occasional Paper #1. University of Western Sydney: Centre for Systemic Development.
  3. Gardner, H. (1983). Frames of Mind: The Theory of Multiple Intelligences. New York: Basic Books, Inc.
  4. Johnson, D. and Johnson, F. (1984). Joining Together. Boston: Allyn and Bacon.
  5. Knowles, M. (1984). The Adult Learner: A Neglected Species. 3rd Ed., Houston: Gulf.
  6. Knox, A. (1987). Helping Adults Learn. San Francisco: Josey -Boss.
  7. Pedler, M., Burgoyne, J. and Boydell,T. (1991). A Manager's Guide to Self-Development. 3rd ed. U.K.: McGraw Hill.
  8. Revans, R. (1985). The Origin and Growth of Action Learning. Chartwell-Bratt.
  9. Rogers, C.R. (1971). On Becoming a Person. London: Constable.
  10. Rogers, C.R. (1983). Freedom to Learn for the Eighties. NY: Chas Merrill.
  11. Rogers, J. (1979). Adults Learning. 2nd Ed., England: Open University Press. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق