الأربعاء، 12 يناير 2011


لغز أبو المغيث

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

من هو؟
كافرٌ أم متصوف؟
أسياسي هو؛ أم من دعاة القرامطة؟
...
هو الحسين بن محمي بن منصور الحلاج، وكنيته أبو المغيث، وُلد عام 244 هـ بقرية تابعة لبلدة البيضاء بفارس، ونشأ بواسط في العراق ... مُتهم في عقيدته، وشاعرٌ عاشق...  درس علوم الدين، ثم سلك طريق الصوفية على يد الشيخ سَهْل بن عبد الله التسترى، بعد ذلك صحِبَ وتتلمذَ على يد شيخه الجنيد بن محمد ثم اختلف معه، وصحب أبا الحسين النوري، وعمر المكي، والفوطى، وغيرهم، وقال خور ازاد بن فيروز البيضاوي وكان من أخص جيران الحلاج وأقربهم له:
-   كان الحلاج ينوي في أول رمضان، ويفطر يوم العيد، وكان يختم القرآن كل ليلة في ركعتين، وكل يوم في مائتي ركعة، وكان يلبس السواد يوم العيد ويقول: "هذا لباس من يُردُ عليه عمله."
وقال ابن خفيف:
-    أبو المغيث الحسين بن محمي منصور الحلاج صحب جماعة من مشايخ الصوفية، وصاحب عمرو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري... والحسين بن منصور عالم رباني.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي:
-   سمعت إبراهيم ابن محمد النصر أباذي وهو يُعَاتَبُ في شيء حكاه عن الحلاج، فقال للذي عاتبه: "إن كان بعد النبيين والصديقين مُوحدٌ، فهو الحلاج."
وقال أبو عبد الرحمن:
-   سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي (تلميذ الحلاج وصديقه) يقول: "كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلا أنه أظهر وكتمتُ."
 وقد روي عن الشبلي أنه قال للحلاج وهو مصلوب:
-        أولم ننهك عن العالمين. (اقتباس قرآني)
والمشايخ في أمره مختلفون، فقد رده كثرة من المشايخ، وأبوا أن يصفوه متصوفاً، وقبله بعض مشايخ الصوفية ودونوا حديثه؛ من جملتهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصر أباذي.
**********
كان الحلاج متصوفاً محباً للحق... عاشقاً لله U حتى أن وَجدَهُ، دَارَ به في أسواق بغداد، يتغنى بعشقه لربه...
جبلت روحك في روحي كما
فإذا مسك شيء مسني
وقوله:
*
*

يجبل العنبر بالمسك الفنق
وإذا أنت أنا لا نفترق

مزجت روحك في روحي كما
فإذا مسك شيء مسني
وقوله:
*
*

تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا أنت أنا في كل حال

قد تحققتك في سري
فاجتمعنا لمعان
إن يكن غيبتك التعظي
فلقد صيرك الوج


*
*
*
*

فخاطبك لساني
وافترقنا لمعان
م عن لحظ العيان
د من الأحشاء دان

*******
والحلاج هو المتصوف الذي تمرد على خرقة الصوفية لأنها كانت ستراً بينه وبين الناس... والحلاج هو المتصوف الذي حول حبه للناس لموقف سياسي لم يفهموه، فقتلوه... والحلاج كان السياسي المحبُ للفقراء... والفقراء هم من خدعهم القضاة، فتنكروا له... والفقراء هم من أسلم الحلاج للسلطان...والفقراء هم من أهدروا دمه فوق رؤوسهم.
وفقراء بغداد هم من حول الحلاج لأسطورة، وهم من كتبوا سيرته الشعبية، وزادوا فيها من الخوارق ما جعل منه حكاية تُحكى في ليالي السمر، ويذكرون فيها أحداثاً خارقة تُنسب للرجل النبيل، فجعلوه مرة مثيراً للفتن، وأخرى مُجترحاً للمعجزات كالطيران والمشي فوق النيران أو الماء، وثالثة يَفهم ما لا يُفهم، ويقول ما لا يُعرف، وينسبون إليه ما فعل وما لم يفعل، ويجعلونه حيناً قديساً، وأحياناً أخرى لُغزاً عصياً على الفهم والحل.
*******
لم يكن الرجل إلا متصوفاً عظيم المحبة لله U وكان سياسياً آراؤه مناوئة للحاكم الخليفة العباسي المقتدر بالله... هذا الحاكم الضعيف المستبد الذي قضي على الحلاج بالموت عام 309 وقيل 310 هـ في سوق بغداد؛ بعد محاكمة تبرأ منها القاضي الشافعي لأنه لا يستطيع أن يحكم على إيمان إنسان، ووَجْدُ رجل صوفي أفناه حبه لله، وترك المحكمة لزملائه من المذاهب الثلاثة الأخرى، وكان من سعى في قتل الحلاج وعقد له مجلساً، حكم عليه فيه بالموت القاضي أبو عمر محمد بن يوسف المالكي، الذي أحل دمه للعامة، وقتله كمرتد تعذيراً سنة (309 هـ أو 310 هـ) وقد امتدحه ابن كثير على ذلك فقال في كتابه (البداية والنهاية) 11/172: "وكان من أكبر صواب أحكامه وأصوبها قَتْلَهُ الحسين بن منصور الحلاج."
وكما يقول الكاتب العراقي وليد عبد الله: "قُتل الحلاج بعفونة الفقيه المتسلِّط، ووحشية السلطان المتفقِّه ".
*******
قيل أن والدة الحلاج لما حملت به نذرته خادماً للفقراء، فلما وضعته وكبر، لم يَهُن عليها فراقه، وأرسلته لسوق الصناع يتعلم منهم صنائع أهل الدنيا، فلم يتعلم منهم شيئاً، وعاد لها ذات يوم قائلاً:
-        "يا أماه.. أنتِ نذرتني خادماً للفقراء، فأرسليني للشيخ أبي القاسم الجنيد لتفي بنذرك."
فأخذته، ومضت به وسلمته لشيخ الصوفية أبي القاسم الجنيد فعلمه كتاب الله، والحديث الشريف، وكان الحلاج يخدم الزاوية، ويكنس الخلوة، ويملأ أباريقها بالماء، وينفض الغبار عن الكتب، ويبسط السجادة لشيخه، ويؤدي حاجات الفقراء.
*******
كانت حياة الحلاج مثيرة للجدل بين وجده المتفلت في أسواق بغداد؛ حتى أنكره شيوخه من أجل بوحه بسر الهوى الإلهي، وحياته التي لم يرض أن تكون سجينة خرقة الصوفية، فانحاز للناس الفقراء ينادي بحقوقهم التي أكلها وأهدرها حكم ولي أمر فاسد، فعاداه الأثرياء، ونقِم عليه الخليفة وأمه لأنه يهدد سلطتهما، ليُسلمه الذين حارب من أجلهم من فقراء بغداد عاصمة الخلافة لخشبة الصلب.
*******
قيل أن شيخه الجنيد سأله:
-        ما المحبة؟
فرد الحلاج قائلاً:
-   نزل الحب بقلبي فلم أر إلا ربي، فأخذ مني لبي، وسلبني عني، ثم نظرت منه إليه، فلم أنظر إلا هو، فعلِمتُ أنه الحق، وقال لي: "يا حلاج، ما أسرع ما كانت المحبة، رضعتَ من ثدي محبتنا رضعه، وشربتَ من كاس محبتنا جرعة، فما ثبتَ إلا لحظة، و ما كتمتَ إلا غمضة‍."
ثم قال :
-   أرى نوراً حتى هام بي قلبي، ولم أر إلا ربي، فأخذ عقلي مني، وسلبني عني، ثم نظرت منه إليه، فلم أر الكون إلا هو‍.
ومضى الحلاج يتغنى وجداً في الله الذي عشقه، والذي اتهم بالزندقة من أجل حبه ويقول:
لي حبيب أزور في الخلوات
ما تراني أصغي إليه بسمع

كلمات من غير شكل ولا نطـق
فكأني كنت مخاطباً إياه
حاضر غائب قريب بعيد
هو أدنى من الضمير على الوهم

*
*
*
*
*
*
حاضر غائب عن اللحظات
كي أعي ما يقول من كلمات
ولا مثل نغمة الأصوات
على خاطري بذاتي لذاتي
وهو لم تحوه رسوم الصفات
وأخفى من لائح الخطوات

ويقول الحلاج فيما يقول:
لم يبق بيني وبين الحق اثنان
هذا وجودي وتصريحي ومعتـقدي
هذا تجل بنور الحق نائره
لا يستدل على الباري بصنعته

*
*
*
*
ولا دليـــل بآيات وبرهان
هذا توحد توحيدي وإيماني
قد أزهرت في تلاليها بسلطان
وأنتـم حدث ينبي عنه أزمان

*******
وشاءت الأقدار أن يُسجن، فلما دخل السجن وجد خلقاً كثيراً، فلما رآهم قال:
-   لا اله إلا الله محمد رسول الله، الله وحده لا شريك له... له الملك وله الحمد... يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير... يا معشر المسلمين... ما حَبَسَكم إلا ذنوبكم وغفلة قلوبكم عن محبوبكم، وقد رغبتُم في هذه الدنيا الدنيّة عن سيدكم، فلو رجعتُم بقلوبكم إليه لبكيتم بعيونكم عليه، فجعل لكم من أمركم فرجاً ومخرجاً... فاسمعوا مني ما أقول إن كان لكم عقول، وإلا بقائكم في هذا الحبس سيطول.
ولما علم الحلاج أنه مقتول لا محالة، قال:
-        آتوني بدواة وقرطاس.
فأتوه بما طلب، فكتب:
-        لكم مهجتي طوعاً... لكم مهجتي رضاً... لكم جسدي مني... لكم دمي حل.
ثم ألقى الورقة في الهواء.
*****
وللحلاج كتاب شهير أسمه (الطواسين) ونسب له أقوال كثيرة... منها:
-        ما انفصلت البشرية عنه، ولا اتصلت به.
-        من ظن أن الإلهية تمتزج بالبشرية، أو البشرية بالإلهية فقد كفر.
-        حجبهم بالاسم فعاشوا، ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا، ولو كشف لهم عن الحقيقة لماتوا.
-        إلهي... أنت تعلم عجزي عن مواضع شكرك، فاشكر نفسك عنى، فإنه الشكر لا غير.
-        أسماء الله من حيث الإدراك اسم؛ ومن حيث الحق حقيقة.
-        إذا تخلص العبد إلى مقام المعرفة، أوحى الله إليه بخاطره، وحرس سره أن يسنح فيه خاطر غير الحق.
-        لا يجوز لمن يرى أحداً، أو يذكر أحداً، أن يقول أنى عرفت الأحد، الذي ظهرت منه الآحاد.
-   من أسكرته أنوار التوحيد، حجنته عن عبادة التجريد؛ بل من أسكرته أنوار التجريد، نطق عن حقائق التوحيد؛ لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتوم.
وسُئل:
-        لم طمع موسى في الرؤية وسألها؟
فقال:
-    لأنه انفرد للحق، وانفرد الحق به في جميع معانيه، وصار الحق مُواجههُ في كل منظور إليه ومقابله؛ دون كل محظور لديه على الكشف الظاهر إليه؛ لا على التغيب؛ فذلك الذي حمله على سؤال الرؤيةِ لا غير.
ويقول عن الحلول:
-   إِنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ هِىَ تَوْحِيدُهُ، وتَوْحِيدُهُ تَميُّزُهُ عَنْ خَلْقِهِ، وكُلُّ مَا تَصَوَّرَ في الأَوْهَامِ فَهْوَ الله بِخِلاَفِهِ؛ كَيْفَ يَحُلُّ بِهَ، مَا مِنْهُ بَدَأ؟
*****
وتقول رواية صلبه أنه جيء به من السجن إلى بغداد محمولاً على جمل، ووراءه غلام له على بعير آخر، ومُنادِ الحاكم الكذاب يُنادي عليه:
-        "أحد دعاة القرامطة فاعرفوه."
قالها باسم الحاكم العباسي الضعيف المستبد الخليفة المقتدر بالله... هذا الحاكمُ؛ الحاكمُ كذباً باسم الرب، الحاكمُ الذي حوَّل الدين إلى ثكنةً شرائع وطقوس والدين لم يزل عمره ثلاثمائة سنة أو أزيد بقليل، فتمرد عليه القرامطة، فحول مُسماهم لتُهمة تسوق الناس إلى الصلب، وتصيب من يفكر مجرد التفكير في الخروج على الحاكم بالرعب، وتجمد دمه في شرايينه، وتنزع السكينة من قلبه وروحه.
كان موت الحلاج مأساوياً، جرح مشاعر كل ذي قلب يشعر ويحس؛ إذ تفنن جلادي أصحاب السلطان في تعذيبه والتمثيل به حياً وميتاً، وهو صابر يترنم وجداً، يُعذب وهو مصلوبٌ، فلما بتر السياف يده مسح جبهته وقال:
-        "ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم."
وعندما ثنّى الجلاد بقطع رجليه أنشد :
اقتلوني يا ثقاتي
فحياتي في مماتي
إن عندي محو ذاتي
فاقتلوني واحرقوني
ثم مروا برفاتي
تجدوا سر حبيبي
فأنا أستغفر الله


*
*
*
*
*
*
*
إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي
من أَجلّ المكرمات

في عظامي الفانيات
في القبور الدارسات

في طوايا الباقيات
عن عظيم السيئات


لقد بَحَثَ الحلاج المتصوف عن الحقيقة، ووجدها مُبكرًا، وقال فيما قال :
-        دلَّلني الله دلال المعرفة والمحبة والعشق الأبدي دلالاً لا أطيقه... خلِّصوني من الله.
فقيل له:
-        "ما هي الحقيقة التي وجدتَها؟"
فقال:
-        "أنا الحق."
ويُنسب للحلاج قوله "أنا الله" إذ شهد جماعة من الناس أن الحلاج كفر ذات يوم في السوق، حين وجدوه على غير العادة وقد ارتدى جبة من صوف، فسألوه:
-        بصرنا يا حسين ما في جبّتك؟
فقال لهم:
-        ما في الجبة غير الله.
فلامه العلماء، فقال لهم:
-        اذهبوا فهذا معبودكم تحت الأرض.
وأشار إلى موضع من الأرض بإصبعه، فقالوا:
-        كيف تجعل معبودنا الأرض، ونحن نعبد الله وحده لا شريك له؟
فقال لهم:
-        ائتوني بمسحاة وقفّة.
 فحفر موضع ما أشار بإصبعه، فظهر كنز من ذهب، فقال:
-   يا قضاة... أنتم تبيعون دينكم بدنياكم، ولم تعبدوا الله حق عبادته، أما قولي "ما في الجبة غير الله" فيعني أني من مصنوعات الله U وأما قولي أن "معبودكم تحت الأرض" فلأنكم بالذهب تجعلون الحقَ باطلاً والباطلَ حقاً، فكأنكم عَبدتُم الذهب ولم تعبدوا الله Y لأن من أحب غير الله ورسوله صار عبداً له.
*****
قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية:
"مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنْ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أَنَا اللَّهُ، وَقَوْلِهِ: إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ، وَالْحَلاجُ كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهاً وَهَذَا مِنْ الآلِهَةِ فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلاجُ."
*****
سُجن الحلاج ثمانية أعوام...
وصُلب الحلاج على جزع نخلة ثلاثة أيام...
عُذب الحلاج وقُطعت أوصاله وهو حي...
شهد الناس على كفره، وهو غير كافر...
تغنى الحلاج خلال صلبه وتعذيبه بحب الله...
قال أبو بكر الشبلي:
"قصدتُ الحلاج وقد ُقطعت يداه ورجلاه وصلب على جذع فقلت له:
-        ما التصوف؟
فقال:
-        أهون مرقاه منه ما ترى.
فقلت له:
-        ما أعلاه؟
-        فقال: ليس لك به سبيل، ولكن سترى غداً، فإنّ في الغيب ما شهدتَهُ وغابَ عنك.
فلما كان وقت العشاء، جاء الإذن من الخليفة المقتدر أن تضرب رقبته، فقال الحرس:
-        قد أمسينا؛ نؤخر إلى الغد.
فلما كان الغد أُنزل من جذع النخلة حيث صُلب، وُقدم ليُضرب عنقه، فقال بأعلى صوته، يُسمعُ الناس وهم جمهرة كثيرة:
-        حسب الواحد إفراد الواحد له.
ثم قرأ:
-        "يستعجل الذين لا يؤمنون والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون الحق." الشورى 18
وقيل هذا آخر شيء سُمع منه، ثم ضُرب عنقه، ولُف في بارية، وصُب عليه النفط وأُحرق، وحُمل رماده على رأس منارة لتنسفه الريح، وقيل أنه لما ذُهب به إلى القتل يوم مقتله، وبينما هو مشدودٌ على الجذع الخشبي، وقُبيلُ حَزَّ رقبته؛ نظر إلى السماء مناجياً ربه:
"نَحَنُ بشَوَاهِدِكَ نلُوذُ، وبِسَنَا عِزَّتِكَ نَسْتَضِئ، لِتُبْدِى لَنا مَا شِئْتَ مِنْ شَأْنِكَ، وأنْتَ الذي في السَّماءِ عَرْشُكَ، وأَنْتَ الذي في السَّمَاءِ إلَه، وفِي الأرضِ إِلَه... تَجَلَّى كَمَا تَشَاء، مِثْلَ تَجَلِّيكَ في مَشِيئتِكَ كأَحْسنِ صُورَةٍ، والصُّورَةُ هي الرُّوحُ النَّاطِقُ الذي أفْرَدْتَهُ بالعلمِ (والبيَانِ) والقُدرَةِ، وهَؤَلاءَ عِبَادُكَ قَدْ اجْتَمَعُوا لِقَتْلِى تَعَصُّباً لدِينكَ، وتَقَرُّباً إليْكَ، فاغْفرْ لَهُمْ، فإنكَ لَوْ كَشَفْتَ لَهُمْ مَا كَشَفْتَ لي، ما فَعَلُوا ما فَعلُوا، ولَوْ سَتَرْتَ عَنِّى مَا سَترْتَ عَنْهُمْ، لما لَقِيتُ مَا لَقِيتُ... فَلَكَ التَّقْديرُ فِيما تَفْعَلُ... ولَكَ التَّقْدِيرُ فيِما تُرِيدُ."
*****
أكد موت الحلاج وعذابه صدق قول المتصوفة بوجود سر بين العاشق والمعشوق... وأن السر لا يُباح به... ومن باح بالسر أُبيح دمه... فذُبح الحلاج مُعلقاً على جذع نخلة وهو يغني فرحاً بنجاته من الدنيا... وكذا دماء العاشقين تُباحُ...
مات الحلاج دون أن يشعر بعذابه إذ كان تحت سطوة وجد العشاق وأهل القلوب الذين حملهم عشقهم حيث وصلوا إلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت.
*****
ويحكى أن أخت الحلاج بعدما شهدت موته وضعت رأسها فنامت، ورأت فيما يرى النائم أخاها الحلاج كالبدر وعلى رأسه تاج من ذهب مُرصع بدُرِّ وجوهر وهي تبكي، فقال:
-        لم تبكين؟ لقد ضاق بسببك صدري.
فقالت:
-        يا أخي كيف لا أبكي وقد جرى عليك ما جرى‍.
فقال:
-   لا تحزني يا أختي... لما قطعوني كان قلبي مشغوفاً بالمحبة فلم أجد ألماً، ولما رجموني نزلت ملائكة أخذتني تحت العرش وقالوا "هذا حسين المحب." فتنادى منادٍ "يا حسين... رحم الله من عرف قدره وكتم سرّه." فقلت: يا مولاي أردت التعجل لمشاهدتك، فقال"انظر إلى جمالي أي وقت شئت، لا احتجب عنك أبداً." ثم كُشِفَ الحجابُ، فلما رأيت النور امتلأ قلبي فرحاً وسرورا‍ً.
*****
والحلول والاتحاد وإن اتضحا في كلماته إلا أنهما ليسا كفراً بالله Y بل تعبيراً عن الإيمان والحب والذوبان في المعشوق الأعظم الله U ويحتاج فهم هذه الكلمات لفهم التصوف؛ حيث يعتبر المتصوفة إفناء الجسد حقيقة الحقائق الواجب العمل عليها، والفناء في الذات الأعلى هو الغرض والهدف، وما يمارسونه على أجسادهم من عبادات وشعائر تُجهدهم، لتُفضي إلى رقة القلب ورهافة الحواس، فمن المتصوفة من يتراقص وجداً عند السماع، أو يهتز اشتياقاً مع آية من القرآن، وقد يسقط مغشياً عليه؛ بل قد يموت موتاً لساعته؛ إذ يحاول الصوفي أن يتجاوز جسده المادي، للسمو بروحه في طريق النور حتى يصل إلى الله I.
نعم... تحدث الحلاج عن اتحاده بمعشوقه الحق حتى يتمكن من الروح، وتصبح هي وما تحلم به طوعه، فكفروه عن جهل أو إنكار لما في العقيدة من مجاهدات للتحرر من الجسد ومتطلباته كالصيام وتقليل الطعام، والحرمان من النوم، والقيام والناس نيام، وأحيانا الصوم عن الكلام كما فعلت مريم العذراء كذلك زكريا كما جاء في القرآن... حتى جاءت تهم الهرطقة والزندقة والكفر من جراء هذا الكلام.
وثنائية الروح والجسد عند الصوفية قضية فكرية وإيمانية تستحق التفكيك والتحليل والدراسة لفهمها الفهم الصحيح، مما يُجهد كثيراً عقل وقلب من يبحث وراءها؛ لكنها مسألة تستحق ما يبذل فيها من وقت وجهد... لكن بدلاً من محاولة الفهم المجهدة، استسهل المسلمون التكفير، وأصبح بديلاً للتفكير، وتحولت تعبيرات الصوفية ككلمتي (الحلول والاتحاد) إلى مصطلحات كفرية عند المتشددين من أهل السنة، والحديث بهما يُكفر الناطق بهما، أو حولهما، أو عنهما.
لم يكن الدين يوماً مجموعة الشرائع تلك التي يُضيقها الحكام حين يشاءون على رعيتهم بعون خلانهم من الفقهاء، ويوسعونها على أنفسهم كلما أرادوا، ويفعلون ذلك وهم يأكلون سمن اليمن وقمح مصر، ويشربون عسل الشام، ويتعجبون من صناعات الغرب والشرق، وقبضتهم محكمة على الثروات، فما كفر المسلمون بعضهم بعضاً بسبب الدين، ولكن دوماً لخلاف سياسي.
*****
عاد قضاة الحلاج بخفي حنين بعدما قتلوه ظلماً لأن نفوسهم شغلتهم عن قلوبهم.
قال الحلاج:
-        "أنا الحق."
فقُتل، وسامح جلاديه وقاتليه قُبيل وفاته...
*****
أين الخليفة يوم تلقى حبيبك I يا حلاج؟


لمزيد من القراءات:
1. السراج الطوسي: اللمع في التصوف، تحقيق د. عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور (دار الكتب الحديثة - مكتبة المثنى 1960م).
2.   ابن باكويه: أخبار الحلاج (نشرة ماسينيون، وكراوس، باريس 1936م).
3.   ديوان الحلاج، وكتاب أخبار الحلاج.
4.   شطحات الصوفية: د. عبد الرحمن بدوى (وكالة المطبوعات - الكويت، الطبعة الثانية 1976م).
5.   السيرة الشعبية العراقية للحلاج.
6.   تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي.
7.   المنتظم: لابن الجوزي.
8.   سير أعلام النبلاء: للإمام الذهبي.
9.   البداية والنهاية: لابن كثير.
10.      مأساة الحلاج: مسرحية شعرية ودراسة قيمة لصلاح عبد الصبور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق