الثلاثاء، 11 يناير 2011

الدين.. الفكر الديني.. السياسة

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

حتى نعرف ما يخص ممارسة السياسة، وعلاقة ذلك بالدين، يجب أن نفهم بعض المفاهيم بشكل علمي بعيد قدر الإمكان عن التعقيد.
المفهوم الأول: الدين، والسياسة:
السياسة والدين بعض عناصر ثقافة المجتمعات في إطار فهم الثقافة كما يصنفها علم الأنثربولوجي التقليدي، وتحديداً أحد أشهر علماءه (تايلور) بمعنى أن أي مجتمع يُكونُ ثقافته من عناصر متعددة (العمارة.. الأزياء.. أساليب إنتاج الطعام.. الآداب.. الفنون.. الدين.. الخ) ويشبه ذلك تكون الجسم البشري من أعضاء مختلفة كل منها مكون من خلايا متخصصة للقيام بدور محدد مستقل لا يختلط بغيره، في الوقت الذي تتشارك فيه كل هذه الأعضاء في أداء أدوار مشتركة تُشبه الآلات الموسيقية في الأوركسترا، وكما أن مهمة الأوركسترا السيمفوني (إنتاج) ألحان على هيئة سيمفونيات، وكونشرتات.. الخ، فإن وظيفة (ثقافة) المجتمعات (إنتاج) (حضارة) على هيئة عمارة وصناعة وزراعة وفنون.. الخ.
المفهوم الثاني: مفهوم الشك:
الشك نقيض اليقين، وقد عرف الجرجاني الشك في دراساته الفلسفية القيمة في كتابه (التعريفات) بقوله أن الشك هو "التردد بين النقيضين" وذلك دون ترجيح مسبق لأحدهما على الآخر عند الشاك، وقد درست الفلسفة الشك بإسهاب، ومن خلال هذا الدرس طورت (المنهج) حيث ميز الشخص الشاك دوماً قدرته على التماسك أمام إصدار الأحكام الواثقة سواءً بالقبول أو الرفض، وقدرته على تمييز النقائض وتحليلها، وترجيح أحدها ثم ممارسة (منهج الشك المنطقي) على هذا الاختيار مع غيره من الخيارات لتفضيل الأفضل (منطقياً) ثم تكرار (شجرة التفكير المنطقي) لتطوير الخيارات للأفضل باستمرار، وبذلك يتحرر الشخص الشاك وإرادته من سلطة (الأفكار اليقينية).
يوضح هذا العرض البسيط لليقين والشك أن الشك هو منهج العلم الذي يرتبط بالعقل، أما اليقين فيرتبط بالنفس والهوى، وهذا العرض مدخل أساسي لفهم العلاقات القائمة بين عناصر الثقافة، وأن سيطرة عنصر من عناصر ثقافة المجتمع غير (المنطق) -الذي هو بالنسبة للمجتمع (العقل أو المخ) بينما تمثل العناصر الأخرى باقي أجهزة جسم الإنسان- يؤدي إلى خلل وظيفي هائل، وسيطرة جهاز على باقي الأجهزة يمثل نمو سرطاني يصيب الأجهزة الأخرى بالضرر، ويؤدي في النهاية إلى تدمير الجسد كله، ومن ضمنه التكوين السرطاني الذي أسس للمشكلة.
المفهوم الثالث: مفهوم اليقين:
يعني اليقين الثبات، ويمثل اليقين انحيازاً واضحاً وصريحاً لفكرة أو موقف أو فعل، نتيجة وجود معارف أو مواقف أو ممارسات مألوفة لدى الشخص المتيقن، هذا الانحياز نتيجة التربية والتعليم التلقيني، وسابق لخبرة الشخص الخاصة، فاليقين يعطيك ردوداً جاهزة مسبقة الإعداد تشبه وجبة Delivery لأسئلة متجددة، تحتاج لإجابات متجددة، فاليقين انحياز صريح لا يملك صاحبه حرية الاختيار، لأن بداخله قوة استحواذ، تدفعه لاختيار ما في هوس ضاغط Obsession لا يملك منه فكاكاً، ولا يملك القدرة على ممارسة التفكير وتخيل نقيض ما هو متيقن منه، وبقليل من التأمل نستطيع أن نرى انعكاسات هذا اليقين عند مشجعي الكرة، والمنتمين لمذاهب دينية، أو سياسية أيديولوجية كالشيوعيين القدامى، واليقين مطلب من مطالب الإيمان في الفكر الديني.
ويجب التمييز بين الدين، والفكر الديني، فالدين نتاج حاجة روحية نشطة عند الأفراد لمواجهة المجهول والمخاوف الناشئة عنه، ولمواجهة الظواهر الطبيعية، والجهل بحقائق الأشياء، والاستعانة بقوة خارقة يستند إليها الإنسان محدود القدرة في مواجهة القوى الأعظم منه والقادرة على التأثير في وجوده ومصالحه، بينما الفكر الديني نتاج هوس منحاز.
ونجد النماذج الصحيحة للممارسة الدينية في تقريظ النبي r محمد لقس بن ساعدة الإيادي حين جاءه وفد إياد يعلني إسلامه ويبايعه، فيتذكر النبي r موقف قس بن ساعدة في سوق عكاظ وقد رآه يخطب الناس من فوق جمل، فيقرظه النبي لقومه وقد مات وهو حبر يهود، وكذلك في موقف النجاشي حين سمع سورة مريم من جعفر بن أبي طالب في هجرة المسلمين الأولى للحبشة، فقال "إن هذا والذي أتى به يسوع لمن مشكاة واحدة." وهو ملك النصارى.
ويتجلى الفكر الديني أوضح تجل في ممارسات محاكم التفتيش المسيحية بعد سقوط الأندلس، وحرق المسلمين واليهود أحياء، وتحريم الحياة على من لا يرضى عنه المتسلط باسم المسيح (صاحب عقيدة التسامح والسلام والمخلص) كما يتجلى الفكر الديني في موقف أبو الأعلى المودودي من (المجتمع الكافر) وحرق الهندوس لمسجد بابري في الهند، وجريمة غاز السارين في مترو الأنفاق باليابان، ومواقف طالبان في أفغانستان من التعليم والنساء والآثار، ومواقف تنظيم القاعدة في العديد من القضايا التي لا يتسع المجال لذكرها، وأحكام المحاكم الدينية في قضايا مدنية يتم فيها انتهاك كافة حقوق الإنسان باسم الدين، وأخيراً وليس آخراً نسف برجي التجارة العالمية في 11 سبتمبر، والدين من كل ذلك براء، فالدين في جوهره علاقة بين العبد وربه.
يقول الفيلسوف وعالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل.. كارل بوبر "إن أفضل ما في العلم قدرته على نفي نفسه." وهو بذلك يوضح واجب العالم والمتفلسف في ممارسة الشك دوماً، والشك متعب ومؤرق ومقلق مثل شراء مكونات الوجبة وتحضيرها وطهوها في المنزل في حين أن اليقين سهل ومريح مثل طلب وجبة Delivery.
ما سبق ليس إلا محاولة لتوضيح أن (اليقين) و (الشك) خطان متوازيان لا، ولم، ولن يلتقيا، وأن الفكر الديني ليس هو الدين ولكنه يستمد من الدين سلطة عليا لقمع المختلف، فأنت على سبيل المثال إذا كنت عقلانياً تحدث (متأسلماً) فأنت تخاطبه بحجج المنطق والعلم، وهو يجلس على منصة عالية، ويتخيل الله Y على يمينه والنبي r على يساره، ويستمد من سلطتهما الروحية سلطته الدنيوية، وقد أدرك الفكر الأوروبي ذلك عبر ما يزيد عن الخمسمائة سنة من المعاناة، وحربين عالميين ضاريتين، ودفع الثمن ملايين القتلى، ودمار زهرة المدن، وفقد أوروبا أعظم ثرواتها نتيجة (سطوة) اليقين المسيحي، ثم الفاشي، والنازي.
ويقدم الفكر الديني واحدة من أخطر المغالطات التي واجهت البشرية، وهي فكرة أن يحتوي (المحدود) (غير المحدود) أو أن يحتوي (الفرع) (الأصل) فحين يطرح الفكر الإسلامي شعار (الإسلام هو الحل) فهو بذلك يُحكم أحد عناصر ثقافة المجتمع في كافة عناصر المجتمع الباقية، ويشبه ذلك ولاية أي ديكتاتور كهتلر أو موسوليني أو نيرون أو صدام حسين أو شاه إيران أو فرعون أو كسرى في أمور الأمة.. وقد يكون هذا الديكتاتور حاملاً لأفكار عظيمة، وقد يكون بناءً أعظم، لكنه يدمر في المقابل كل عقول وقوى المجتمع الأخرى البناءة والصانعة للحياة والابتكار من خلال اغتيال الاختلاف، ومفهوم (الإسلام هو الحل) إعادة إنتاج لحقبة محاكم التفتيش التي كانت ترى أن (المسيحية هي الحل).
لذلك فإن الفكر الديني -من وجهة نظري- هو المتهم الأول في جريمة تخلف المجتمعات لأنه يراهن على الثبات في مقابل الحركة، والماضي ضد الحاضر والمستقبل، وعلى القمع ضد الاستقلال، والعبودية كبديل للحرية، وعلى اليقين في مواجهة الشك، فالفكر الديني عبر التاريخ لم يكن إلا فكر أيديولوجي لا يختلف عن الماركسية اللينينية، والشوفونية، والاشتراكية الماوية، وعن فكر محاكم التفتيش، والفاشستية، والنازية، فكلها وجوه متعددة لعملة واحدة، ولو طابقنا بين الممارسات التي أنتجها هذا الفكر لاكتشفنا أن أسطورة إقصاء فرعون لموسى واليهود، أعادت محاكم التفتيش إنتاجها، وأعاد اليهود إنتاجها مع هتلر، وستالين مع شعوب الاتحاد السوفيتي السابق، وطالبان في أفغانستان، وأميركا في العراق، والهندوس مع المسلمين.. الخ.. كلها في صراعات غبية، الخاسر الوحيد فيها هو (الإنسان) بغض النظر عن هويته.
لذلك فإن القضية ليست الدين، ولكنها (الفكر الديني) في مواجهة (الفكر العقلاني) لأن من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولكن ليس من حق المؤمن، وليس من حق الكافر.. أيهما.. الحُكم على معتقد الآخر في إطار العقد الاجتماعي الذي يحكمهما، فالعقد الاجتماعي (الدستور) إذا نص على هوية ما، يمكن توصيفها بعنصر أو تمييز معين، فهو علمياً دستور باطل، لأنه لا يحتوي كافة عناصر العقد في إطار وحدة موضوعية واحدة، وينفي أحدها أو بعضها، ومن ثم فإن اللجوء للمسجد، أو الكنيسة، أو الكنيس، أو المعبد بديلاً للوطن هو إهدار للوطن وحقوق المواطنة، ويشبه من يفعل ذلك صاحب قصر منيف، يترك كافة غرف القصر، ويحبس نفسه في واحدة من غرفه الضيقة، ويأبي الخروج منها.
إن النتاج الحضاري الحديث موجود كله الآن في أمريكا، لكن المصنع الثقافي المنتج لهذه الحضارة ومطورها موجود خارج أميركا في بقع متناثرة من أوروبا، يقع أنشطها الآن في الشمال الأوروبي حيث أكثر النظم السياسية ثراءً اقتصادياً، واستقراراً وسلاماً اجتماعياً، وهي نظم تساهم بشكل إيجابي عظيم في صنع واقع إنساني ديمقراطي واشتراكي جديد، يستلهم حاجات الإنسان وطبائعه دون فرض وصاية أو أفكار مسبقة عليه، ودون غوغائية أيديولوجية كما فعل السوفيت في السابق، ويفعل الأمريكان اليوم.
ووجود مؤسسات سياسية أوروبية تحمل أسماء أو رموز دينية هو نوع من أنواع قبول الآخر، أو احتواء الجزء في الكل، واحترام التاريخ، وليس تعبيراً عن انتماء سياسي اقتصادي، يستند لقيم عقائدية سلفية متشددة كما هو اليمين البروتستانتي المحافظ الجديد في أمريكا، والذي هو تنظيم آخر للقاعدة في العالم المسيحي.
إن قضيتنا ليست الدين أو غير الدين، قضيتنا هي (العقل) في مواجهة (الحمق) والشك في مجابهة اليقين، والدولة كمواجه لتسلط الامتلاك والاستخلاف.. بمنتهى الاختصار.. قضيتنا هي (العلم) في مواجهة (الجهل).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق