الأربعاء، 12 يناير 2011


رسائل لم و لن تصل

الرسالة الأولى : (( و ))

الطريق

" الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة "
صديقي.. تحياتي..
حتى تدرك معي طبيعة الواقع الذي أعيشه.. و لماذا تدرك؟ فقط أكتب حتى أضع معادلاً لشحنة التفجر بداخلي.. مرة أخرى.. هل هذا حقيقي؟ هل أكتب لك أم لي؟ هل هو هروب من التوتر أم شحن لتوتر جديد ذي نصال شائكة دامية؟.
أعتقد.. لا أعرف.. سـأكتب.
سأتحدث عن رحلة يوم في طرق عادية.. أحكي مشوار الذهاب أم العودة؟ أعتقد أن العودة بما تحمله من خيبة، و يدا الغراب محملتان بالهدايا لأمه جديرة بالرواية، فبعد أن نشرب جرعة الزيف حتى الثمالة، و ما يتبقى منها نتوضأ منه لنؤدي طقوساً وثنية غريبة ولاءً لإمبراطوريتنا الغراء.. مانحة العيش.. ساقية ينبوع البقاء.. تبدأ السيقان في دبيب منتظم غريب ( رغم أنك لو نظرت لوجدت فوضى رهيبة ) و يبدأ صراع هائل أحاول فيه الخروج من قطيع الرقص الوثنيّ، و حين أنجح في الخروج أجد أنّي توافقت وإيقاعات قطيع آخر، و كلما حاولت الخروج دخلت.. كلما هربتُ.. أُسرت.. سئمت.
في البدء.. الخروج من باب ضيق مظلم إلى ممر أبيض ناصع ثم درجات قليلة تلقي بنا في سرداب بارد طويل طويل.. أبيض ناصع، فباحة رمادية قميئة تنتهي بمخرج أشبه بفرج داعرة عجوز هرمت و تغضنت.
و أنحني لأخرج للضوء.. تصلب عيناي على حائط السماء الرمادي الواهن تبرقشه ندف سود من سحب ودخان، فتنسحب عيناي خزيانة.. تتدحرج نظراتي فوق الجدار الشاهق المليء بالندوب البنية السوداء كل ندبة فرج عجوز هرمت وتغضنت يبول البشر.
و لابد في النهاية من تقبل الحقيقة التي لا مفر من مواجهتها، وهي أنك على الطريق.، والشارع متسع طويل ومزدحم.. تشقه بالطول مُدى قاسية ملتوية، وفي وسطه تسير المخلوقات الآلية الرهيبة تفتح فاها تبتلع البشر ثم تقيئهم في قرف مستمر، فيندفعون في رعب هائل إلى أكتاف الطريق يمتطونها، ويبدءون في الدبيب.
في ذلك اليوم تمردتُ على إيقاع الدبيب العام، و انطلقتُ مثنيّ الخطوة راقصاً أقطع المسافات المـقـسـومـة و المـخـطـطة ساخراً مـن كـل القطعان، وأخذت قطعة حجر من الطريق تنظر إلي في دهشة، و ازداد بريق قرص الشمس الذهبي، فانسحب اللون الرماديٌّ خزياناً حاقداً، وأطل اللون السماويُّ الأزرق ففرحت.. هزني ميلاد السماء، ففتحت ذراعاي أحتضن الكون وأنشق الهواء في جرعات ضخمة، وأحسست - للمرة الأولى - أني أحب طعم الهواء، وفي ذلك الحين كان اللون الرماديُّ يرمقني شذراً، وأتى من بعيد مخلوق من مخلوقات السكاكين القضبانية، فاعترضه اللون الرمادي وتهامسا، ثم عاد اللون الرمادي ببطيء وبإصرار يزاحم اللون الأزرق السماوي.. هنا خفت، وحين هزّني الخوف تلقفتني المُدى القاسية الملتويّة وأسقطتني، و مرت عجلات المخلوق الآلي الرهيبة فوق رقبتي ففصلت رأسي عن جسدي ثم أخذت تبتلع البشر وتقيئهم من أجنابها وأنا منطرح مقطوع الرأس و دمي ينساب في دفقات دافئة لزجة.. تتماسك حتى تصبح جيلاتينية القوام.
التم حولي بعض من القطعان بعد أن سار المخلوق بما ابتلعه من البشر مجلجلاً.. مما بي لم أستطع أن أتبين هل كان يضحك أم يئن من الشبع.. اقترح البعض أن يغطيني ببضعة أوراق حتى يأتي القطيع المسئول، وترائى لآخرون أن ينقلوني لجانب الطريق، و تساءل البعض إن كان ممكناً إنقاذي، فسخر ساخرون.
حين كثر اللغط والجدل، وجدت أنه من سوء الأدب الاستمرار فيما أنا عليه - خاصةً - بعد أن تأكد لي من كلام أحد القانونيين من القطيع بأني مخطئ منذ البداية إذ حاولت أن أكون أكثر سعادة و تمايزاً عن باقي القطعان، وحين تأكد لي فعلاً أني كنت أريد أن أكون سعيداً.. غمرني عرق خجل غزير.. تململت.. ثم أمسكت برأسي بهدوء واضعاً إياه تحت إبطي، و أخذت في السير بهدوء حتى تأكدت أني أسير في إطار الدبيب العام.. أدركت فجأة أني الوحيد الذي يحمل رأسه تحت إبطه فازداد خجلي ووضعته مكانه فوق كتفيً فسقط وتدحرج، و حين جريت وراءه اختفى.. اختفى، و ما زلت حتى الآن أبحث عنه.
الرسالة الثانية (( ط ))

الخروج

صديقي العزيز..
حين عثرت على رأسي تكشف لي أنه تحول إلى خريطة لمصر، و ملامحه مدائن عشقتها ومسامه دروب خبرتها، وتجاعيده شوارع أحببتها، و عالم ذبت فيه - لكني - لما لم أتمكن من إعادته مكانه، وخوفاً من ضياعه.. حملته تحت إبطي وهربت من إطار الدبيب العام محاولاً البحث عن معنى لما يحدث متمنياً أن أحقق ذاتي التي فقدت، وإنسانيتي التي أضاعها ضـعـفـي في تجربة مبتسرة قاصرة.. وحين لفظني الناس، و لم يدركوا أني ما خرجت إلا من أجل حبهم..لم يرض بي سوى صاحب سيرك غليظ القلب تكشف له شكلي عن مقدار ما يمكن أن يربحه منّي، فعرض عليّ أن أسير برأسي المقطوع فوق السلك المشدود، و حين أخبرته أنّي لا أعرف قال لي : ستتعلم، وحين قلت له أنّي لا أصلح لدور المهرج الذي يريد مطّ شفتيه و قال ابحث عن آخر يرضى بك، و لأني أعرف جيداً أن لا أحد يرضى بي.. قبلت، وصرت المهرج الحزين.. كما أُطلق عليّ.. أسير كل ليلة على السلك خائفاً رغماً عني، ولا مفر من رحلة الهزؤ الليلية دون أن أصل أو أسقط، و بدأت أعي معنى آخر للأسى.. شيئاً آخراً.. لم يكن شجياً ولا متسامياً.. بل خوفاً حقيراً و إحساساً رهيباً بالمهانة والضعف، فتحولت كافة الأشياء الماضية في حياتي إلى سياط جالدة.. تلومني أن حاولت أن أكون شيئاً أكثر مما قدر لي.. يستذلني الضعف، و أحس أن أمي خدعتني، و أني "هـامـلـت" جـديـد.. ضـعـيف أكـثـر.. عـاجـز عـن قـتل الداعر الفاجر.. أن أكون.. أن أتعدد...أن أجد "هاملت" آخر.
ووقعت في هوة أبشع من هوة التناقض بين أن أكون أو لا أكون.. سقطت في بئر الصمت.. حزيناً.. أردد قول شاعري العاجز " حين فقدنا الرضا.. فقدنا هدأة الجنب " أندم لرفض النوم مخدراً و أعاني آلام الأفاقة.. أتألـم وأضيع. فهل أجدني أكثر صدقاً؟ هل تلصق بي رأسي؟
وأخذت الأصوات القابعة في داخلي تدكني ونساني صاحب السيرك و بعدت بيني و بينه الشقة، وكان لابد أن أفقد شيئاً آخر حتى أستطيع أن أكون واحداً من أسرة العاملين في السيرك فكل منهم فقد شيئاً.. هكذا قيل لي..فقد كنت رغم قطع رأسي أبدو لهم كاملاً مكتملاً.
قال لي يوماً أحدهم أنه حين دخل من باب السيرك ترك كرامته عند البوابة، و قال أني لم أترك شيئاً فقلت له أني فقدتُ كرامتي من قبلُ في حادث قطع رأسي، فسخر منّي وقال أنه لم يسأل عما فـقـدتـه مـن قـبـل، و لكن عما يجب أن أفقده هنا، فقلت له ألسنا متساويين، فضحك مؤكداً لي أن القضية ليست كذلك و اقترح علي أن أفقد " وعيي " و حين قلت له أني لا أملك غيره ومن الظلم أن أفقده، ضحك عالياً و سألني عن معنى الظلم فتحيرت، فربت على كتفي وقال لي أنّي غبي، و أني لو فقدت وعيي منذ البداية لكنت فقدته وحده ولم أفقد كل الأشياء الأخرى و مضى.
من لي بالرد المفحم؟.. من لي بالقول الحق؟.. أين أنا من جبل يعصمني؟.
الرسالة الثالثة (( ن ))

البركان


قد يكون سذاجة، و قد يبدو جنوناً أن أحدثك عن امرأة أحببتها - لكن - وسط كل هذه البلادة والموت لا يستطيع الإنسان إلا أن ينبض.. للوهلة الأولى بدت لي كالغانيات.. زيها الأسود.. الثوب المشقوق من الأرض حتى الركبتين.. الوجه الأبيض وكتلة الشعر الفاحم يلقي بظلاله في فوضى وحشية حول دائرة الملامح المنمنمة ( فيما بعد حين حدثتها عن انفعالاتي الأولى بها ضحكت.. ضحكت في صدق أسيان، و دفعتني برفق في صدري ).
و اندفعت للتعرف عليها.. أحسست أنها من تستطيع أن تعطيني ما أبحث عنه، ولم أندم أبداً فقد منحتني أكثر من الكثير.. أبعد مما حلمت وما لم يستطع خيالي المراهق أن يصل إليه.. أعطتني عمراً جديداً، وجعلت لحياتي بعداً أكثر إنسانية.
كانت الفوضى الوحشية التي تحيط بها تحيط بي وتدور كدوامة رهيبة، ووجهها الطفولي والنظرة الأسيانة من إنساني العينين شديدة الصفاء عوالم كونية لا أعرف مداها.. و بين الصـفـاء و الـوحـشـية أتأرجح كإيقاع الضوء فوق سطح الماء.. لا أدري كيف.
فجأة وجدتني بجانبها تلصق رأسي بي.. نضحك ونتحرك ببراءة طفلين.. واختفى ضوء الهالة الوحشية، وغرقت في بحر العينين الصافيتين ورنين الضحكة الطفولية وبـحّـة الصوت الأسيان و القلق الممزق.. وحكت لي كيف اختطفوا طفليها ( للمرة الأولى تكشف لي أن من حولنا محسوبون علينا ويشكلون بالنسبة لنا رصيداً من المحبة أو الكراهية ) وازداد حبي لها، وغرقي في بحر العينين حين رأيت صورة طفليها.. ملاكين صغيرين.. و تأكدت لي طفولتها حين رأيتها في وجه الطفلين ووجهها في صورتهما.
حدثتني عن عالم البركان وأملهم الخروج منه.. حدثتني عن وطني وطفليها، و حين حدثتها عن نفسي.. عرفتني و طلبت منّي أن أذهب لزيارة البركان، و دهشت إذ لم تخطر ببالي هذه الفكرة، و حين ذهبنا وجدت رفاقي، والتصق بي رأسي أكثر.. وجدتهم يعملون حثيثاً حتى يعود البركان القديم إلى ذروته ليحرق العالم القديم فيقيمون عالماً جديداً غير عالم المُدى القضبانية والمخلوقات الآلية وحـقـن الـهـرمـونات.
طلبوا مني أن أبقى معهم ووجدت بيتاً فصنعت أسرة، وها نحن ننقل بيوتنا كل يوم خارج الفوهة، و ننشط البركان... حيث يوماً لابد أن نجعله يفور ويلقي بالحمم.
نحن يا صديقي يوماً ما سنصنع البركان.. نحن من سيفجره.. انتظر رسالتي القادمة مكتوبة بالنار والحديد المصهور، فلم يعد هناك حبر للكتابة ولا ورق.. لم يبقَ لنا سوي أيدينا.. ندقُّ بها على أبواب البركان لنصنع فورته القادمة... يوماً ما.. لابد سيجيء.. سينفجر البركان وبأيدينا.. نحن.. نحن.

أحمد إبراهيم أحمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق