الأربعاء، 12 يناير 2011


الحرية

سأل سائل بعذاب واقع:

§         تُرى ما هو أصل الكوارث التي تحل بنا نحن العرب؟

السبب البسيط والمباشر، والذي لن يُقنع إلا قلة نادرة هو أننا أمة غير منهجية، ليس لدينا منهج علمي ذو أسس فلسفية، ولم نتبن منهجاً عن غيرنا.
§         سيرتفع صوت هائل بالقول أن الدين هو المنهج.
وهذه مغالطة خطيرة، أدت بنا تاريخياً لأسوأ الكوارث، فالإسلام دين، والدين علاقة بين الخالق والمخلوق، وبين مخلوق وآخر في إطار المفاهيم العقائدية، وهو بذلك مكون ثقافي؛ يشكل جزءاً من ثقافة المجتمعات كما بينت دراسات علم الاجتماع، وعلم الإنسان (الأنثروبولوجي) ولا يصح أن يسود الجزء على الكل، فعناصر الثقافة الأخرى لها الأدوار والتأثيرات التي للدين على المجتمعات كل في مساحته الخاصة، وتلك قضية أخرى للنقاش ليس هنا محلها، ولكنها ضرورة اقتضاها السياق.
لذلك نحاول في هذه المقاربة التأسيس الأبستيمي لمشكلة الحرية كمعضلة إنسانية حقيقية ذات تحولات دائمة، سعياً لتأصيل مفهوم الحرية نظرياً؛ لأن الحرية كقضية مجردة بحاجة للتأمل الفلسفي Philosophical contemplation للوصول إلى معرفة مجردة Abstract knowledge (نموذج متكامل أشبه بالنماذج الهندسية) تقودنا لفهم الحرية والقضايا المتعلقة بها، ثم استنباط حقائق جديدة عن الحرية، فما هي الحرية؟
تُستخدم كلمة الحرية للتعبير عن معان مدنية، مرتبطة بوجود الإنسان في المجتمع، وتُدعى بهذا المعنى الحرية الشخصية، والتعريف المعجمي للحرية الشخصية كما جاء في الموسوعة الأمريكية الإلكترونية إنكارتا ENCARTA هو:
 حق الأفراد في التصرف طبقاً لخياراتهم الذاتية.
 ويستخدم التعبير سياسياً لوصف تحرر الشعوب من القوى الاستعمارية التي تحرمها حرياتها، ويُدعى في هذه الحالة التحرر الوطني، كما يستخدم في الأدبيات المعاصرة للإشارة لمجموعة، أو منظومة من حقوق الإنسان، تشير لحقه في الانتماء لعقيدة، أو عرق، أو جماعة سياسية (على سبيل المثال) دون التعرض للتمييز، أو الاضطهاد، أو الحرمان من حقوق أُخر طبيعية مثل التعليم، أو العلاج، أو أي من الحقوق المدنية والاقتصادية الأخرى في المجتمع.
ولم يمنع كل الجنون المعادي للحرية من الحلم بها والنزوع إليها، فالحلم جنين الواقع، وحلم أفلاطون بالجمهورية الفاضلة، وسير توماس مور بالمدينة الفاضلة، ودفاع بن حزم، وابن رشد عن حرية العقل، وغيرهم كثيرون هو الذي أهدانا الماجنا كارتا، وهو الذي صنع وثيقة حقوق الإنسان، وهو الذي دفع سبارتاكوس للثورة على الإمبراطورية الرومانية، وشَكَّلَ كوميونة باريس، ودفع طلبة الستينات للغناء الذي أسقط ديجول بطل فرنسا الوطني.
ومازالت الجهود المبذولة لتحقيق حرية كل الأفراد تُراوح بين النجاح والفشل من زمن لزمان، ومن مكان لآخر منذ فكر الإنسان في هذه المعضلة التي أخذت بعد الثورة الفرنسية، وانتشار أفكار التنوير مساراً يرى في الديمقراطية مظلة مناسبة لتحقيق علاقة متوازنة بين حق الأفراد في الحرية، وسلطة الدولة كأداة لتنظيم هذه الحريات.

§         هل الحرية المطلقة للأفراد أمر ممكن؟
تنتفي حرية الأفراد المطلقة بسبب الاختلافات الطبيعية بين الناس؛ حيث تستحيل الحياة الإنسانية نتيجة الصراع الذي ينشأ لو تُرك الحبل للناس على الغارب؛ نتيجة تعارض توجهاتهم، ورغباتهم، واحتياجاتهم؛ لذلك كانت بعض الضوابط ضرورية، ولا يمكن تجنبها حتى تصير الحياة الإنسانية ممكنة، ومن هذه الضرورة جاءت الكارثة.
وتنشأ الضوابط من فرضية نظرية مفادها أن الشخص يستطيع ممارسة حريته كاملة، ويقوم بأي ممارسة دون تدخل من أحد، ما لم يمس حرية الآخر، فللآخر نفس الحقوق في فعل ما يريده دون أن يمس حرياتنا، ولنا حق فعل ما نريد دون أن نمس حرية الآخر، ولو شبهنا الحرية الشخصية بدائرة يتحرك فيها كل شخص، فإن العلاقة بين الحريات الشخصية للأفراد، تُشبه تماس حدود أقطار هذه الدوائر دون أن تتقاطع في أي مساحة من أقطارها، والأفعال التي تمس حرية الأفراد -مهما كانت- لا حق لأي فرد في ممارستها.
ويستلزم الحفاظ على الممارسة الصحيحة للحرية الشخصية -ليبقى كل فرد في حدود دائرته الخاصة دون تعد على دوائر الآخرين- إيجاد ضوابط آمنة، تفي بالغرض دون المساس بحرية الأفراد، موضوعة بعناية تامة، ومُحددة أساليب تطبيقها بوضوح دون لبس؛ بحيث تُرفض أي ضوابط تتعدى على الحرية الشخصية الأصيلة التي لا تتداخل مع حريات الآخرين، أو تضر بمصالحهم رفضاً باتاً وصارماً، وقد استخدمت هذه الضوابط تاريخياً كقميص عثمان – مقولة حق يراد بها باطل – فباسم تلك الضوابط وُجهت أقسى الضربات لحرية الأفراد، والشعوب على امتداد التاريخ والجغرافيا، فباسم الديانة الجديدة، اضطهد أخناتون الفرعون المصري القديم، خصومه عباد آمون، وحين قضى نحبه، ثأر كهنة آمون من عباد آتون، وظل الحبل على الجرار، فاليهود يسعون لصلب السيد المسيح، ثم تُعذب الدولة الرومانية المسيحيين، وتقوم محاكم التفتيش المسيحية بإحراق المخالفين مدعية امتلاك الحقيقة المطلقة، وحين يضيء نور الإسلام إذا بالخوارج يُكَفِرون، ويأتي خليفة يحبس من لا يقول بخلق القرآن ويُعذبه، ومن يتفلسف من المسلمين يتهم بالزندقة (من تمنطق تزندق) ومن ينادي بالليبرالية في الدول الشمولية ليس له إلا السجن أو حبل المشنقة، وفي أمريكا التي ينتصب تمثال الحرية على بابها الشرقي مرحباً بالزائرين، يُمنع اليساريون من ممارسة أي نشاط سياسي، وتُولَِدُ الماكارثية، لتطارد كل الناس بتهمة الشيوعية، وتصنع واحداً من أسوأ كوابيس العالم المعاصر في بلد يُفترض أنه تأسس على الحرية كمفهوم رئيس.
لذلك بقيت هذه الضوابط معضلة تواجه كافة الفلاسفة، والمفكرين، وصانعي القانون، ورجال الدولة طوال تاريخ البشرية الموثق، وكان ومازال نوع، ومدى استخدام الضوابط المقيدة للحرية مشكلة فلسفية، وقانونية صعبة تواجههم حتى يومنا هذا.
ظهرت (الدولة) كضرورة نتيجة َالاحتياج لهذه الضوابط، لتقوم بتنظيم العلاقات بين الأفراد، والجماعات، إلا أن فكرة الدولة (التي هي في الأساس فكرة مدنية، يفترض فيها حماية الحرية) أفسدتها عوامل كثيرة، نأت بها عن الغرض منها، وكان الحل المتاح هو بناء الدولة المدنية المؤسسة على الدستور، ومؤسسات المجتمع المدني كمرجعية تُنظم العلاقة بين الدولة والأفراد للمحافظة على حقوق الأفراد، وحقوق الجماعات في نفس الوقت (أنا والآخر).
وقد مرت فكرة الدولة بعدة مراحل بدءاً من الفكرة اللاهوتية عن الدولة، ثم منظومة الأفكار الإقطاعية، ثم الليبرالية التي توجتها الثورة الفرنسية بالعقد الاجتماعي المبني على المصالح المرسلة بين الأفراد والمؤسسة كما تصورها روسو، إلا أن تأثير الثورة الفرنسية التي عصفت بالبني الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية -ليس في فرنسا وحدها بل في أوروبا بأكملها- طرح أسئلة شديدة التعقيد، والحيوية عن مفاهيم الحرية، والعلاقة بين الأفراد وبعضهم البعض، وبين مجتمعاتهم، ومؤسسات الدولة المدنية.
فلسف هيجل مفهوماً عميقاً للدولة معتبراً إياها غاية لا وسيلة؛ إلا أن كارل ماركس انتقد المفاهيم الهيجلية عن الدولة، وأكد أنها أداة في أيدي الطبقة البرجوازية، والرأسمالية، وهي بذلك عاجزة عن تحقيق الهدف منها، واستهدفت الماركسية العمل على استخدام الثورة الاشتراكية كأداة لتحطيم الدولة الرأسمالية؛ إلا أن تطبيق ستالين لمفهوم الدولة الشمولية، طرح إشكالية معقدة، دفعت الكثير من المفكرين لنقد الفكر الماركسي بشأن الدولة، وتعمق هذا النقد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
وغالباً ما غاب التوازن بين الحرية الفردية، وسلطة الدولة في فرض الضوابط، وتحقق جزئياً في بعض المراحل التاريخية في مجتمعات دون غيرها، وللأسف كانت سلطة الدولة جائرة في معظم الأحيان، ويصف بعض المؤرخين والفلاسفة تاريخ البشرية بأنه انتقال من مجتمع اللا دولة؛ حيث حرية الأفراد مطلقة ومرتبطة بقوة الفرد؛ إلى استبداد الدولة حيث الحرية مكفولة فقط للحاكمين.
وبقيت طائفة من المثاليين، والفلاسفة الفوضويون Anarchism ترى في الدولة شراً خالصاً، ويتجاوز تصورهم الدولة ويرفضها، ويرى الحل في مجتمع تتحقق فيه الضوابط من القيم الأخلاقية الرفيعة التي يحملها أفراد تربوا على هذه القيم، وبالطبع لم يتحقق هذا الوهم لا لشيء سوى الطبيعة الإنسانية النفعية التي تحكم سلوك الأفراد.
وقد أثبتت تجارب التاريخ أن الحرية لا تتحقق بوجود دعاة، أو فلاسفة، ومنظرين؛ بل يجب أن تكون الحرية قيمة ثقافية في الأساس، متجذرة في ثقافة شعب أو أمة، بحيث ترى الغالبية أن الضوابط قيود مشروطة، لا تُوجه إلا لما يضر بحرية الأفراد والجماعة، والالتزام كل الالتزام بحرية الآخر.
يقودنا ما سبق لاستخلاص النتيجة المنطقية التالية:
(الحرية قيمة ثقافية تتجذر في المجتمع بقناعة الأفراد، ولا تتحقق بفعل فردي؛ ولكن برغبة الجماعات في أن يكونوا أحراراً، وبمدى ما تبذله هذه الجماعات من جهد، وفعل على أرض الواقع لتحقيق هذه الحرية، وقدرة هذه الجماعات على دفع الثمن اللازم للحصول عليها).
وتُصبح العناصر الأساسية لقضية الحرية في إطار هذه النتيجة:

1.     قيمة ثقافية: مفهوم عام يُعلي من شأن الحرية Concept.
2.     قناعة فردية: موقف شخصي منحاز للحرية Attitude.
3.     قناعة جماعية: بقيمة الحرية Value.
4.     فعل جماعي: ممارسة السلوك للحصول على الحرية Behavior.
5.     ثمن الحرية: ما يدفعه المناضلون مادياً ومعنوياً لفك القيود.





§         فهل دفع العرب ثمن الحرية؟
من خلال منهج برجماتي صرف Pragmatic يناقش الحرية كأداة للفعل، وكيف تتحدد قيمتها بالفائدة التي تتحقق منها في إطار العناصر الخمس الأساسية سالفة الذكر، نجد أن رحلة العرب نحو الحرية ما زالت تراوح في مكانها (محلك سر).

§         فمتى يتأتى لنا التحليق في سماوات الحرية؟

تظل إشكالية الحرية في المجتمعات العربية قائمة ما لم تتجذر الحرية كقيمة Value ثقافية، تُمثل مفهوماًConcept في إطار إنتاج المجتمعات العربية لثقافاتها المحلية؛ التي تصب في النهاية في المجرى العام للثقافة العربية، ويحتاج ذلك إلى بعض الجهد من المجتمعات العربية في اتجاهات أولية من أهمها:
1.  إعادة النظر في المناهج الدراسية، لاكتشاف المفاهيم التي تستلب مفهوم الحرية، وتُعمق مفاهيم العبودية، والتبعية، والاستبداد -أياً كان مرجعها- واستبدالها بمفاهيم تُعلم الحرية كقيمة، ومفهوم أساسي للحياة.
2.  تحرير المؤسسة الأكاديمية من أشباه الأكاديمين، وتجريم الخيانات والسرقات العلمية، والتأسيس لمؤسسات أكاديمية قيمية محترمة، لا يخضع فيها الدارس لسلطة الأستاذ، أو هيئة التدريس؛ بل لسلطة المعرفة، وتقوم فيها بيئة علمية متحررة، مُنتجة إنتاجاً إبداعياً حقيقياً، ولا تخضع فيها هيئة التدريس للسلطة السياسية، أو الاجتماعية.
3.  دعم مؤسسات المجتمع المدني لتقوم بدور رقابي فاعل على المؤسسات البيروقراطية للدولة، والحفاظ على حقوق الإنسان الفرد في مواجهة المؤسسة؛ سواء كانت سياسية، أو إدارية، أو مجتمعية، وتتعامل مع الإعلام باعتباره أداة صنع وعي -لا تزييفه- من خلال أدوات علمية تضمن عدم انحياز هذه المؤسسات في أي إطار فاشيستي، أو شوفيني.
4.  تأسيس مفاهيم ثقافية جديدة للعمل السياسي بهدف الترويج لفكرة التداول السلمي للسلطة في إطار الأشكال المستقرة، والمؤسس لها؛ كالأحزاب السياسية الحقيقة، والبرلمانات المبنية على أسس المجتمع المدني، وتجنب الابتكارات الفجة من الأشكال السياسية غير المفهومة، أو الإصرار على إعادة إنتاج الماضي في أشكال سلفية ولى زمنها.
ولن يتأتى ذلك إلا في إطار ثقافي ناضج غير نفعي، يُقَومُ الدساتير الموجودة، ويتبنى التأسيس الصحيح لها، ويضمن احترامها، والتأكيد على الحقوق الأساسية للفرد.. خاصة.. حريته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق