الأربعاء، 12 يناير 2011


الثقافة، وأثرها في بناء الشخصية

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

تعريفات الثقافة  Culture

يعرف لسان العرب الفعل ثقف بعد تصريفه : ثقف الشيء ثقفاً وثِقافاَ وثقوفةً أي حذقه، وثَقِفً وثَقٌفّ أي حاذق فهم  ، ويقال ثَقِفتُ الشيء أي حذقته، ومنه المثاقفة، والثُقاف حديدة تكون مع القواس والرماح يُقوم بها الشيء المعوج، وتثقيفها تسويتها، ويعرف قاموس ميكرو سوفت الإلكتروني، والمورد Culture بـ :حراثة – تثقيف – يثقف، ويضيف المورد حضارة ومرحلة معينة من التقدم الحضاري – نتاج عملية الاستنبات ، وقد أجملت الدكتورة / سامية الساعاتي في كتابها الثقافة، والشخصية – بحث في علم الاجتماع الثقافي الصادر عن دار النهضة العربية تعريفات الثقافة في سبعة أنماط أساسية هي :
التعريفات الوصفية :
وتتسم بالنظرة الشمولية للثقافة كنشاط إنساني متصل العناصر، وأشهرها تعريف تايلور الذي يعبر عن الثقافة بشكل شامل في معناها الأنثروبولوجي (علم الإنسان) :"ذلك المركب المعقد الذي يشمل المعلومات، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والعرف، والعادات، والتقاليد، وجميع القدرات الأخرى التي يستطيع الإنسان أن يكتسبها بوصفه عضواً في مجتمع ما".
التعريفات التاريخية :
تركز التعريفات التاريخية للثقافة على التراث الاجتماعي Tradition والتقاليد مثل تعريف سابير :"مجموعة الممارسات، والمعتقدات المتوارثة اجتماعياً، والتي تحدد جوهر الحياة المعاشة".
التعريفات المعيارية :
وتقسم إلى قسمين القسم الأول يرى في الثقافة قواعد وطرق، وأساليب حياة، والقسم الآخر يراها منظومة المثل والقيم .
التعريفات السيكولوجية :
وتنقسم أيضاً لقسمين الأول معني بالثقافة كأداة للتكيف لمواجهة ظروف الحياة، وأداة لحل المشاكل عبر نماذج سلوكية تورث، ويعاد توريثها بعد الإضافة لها أو الحذف منها، ويربط القسم الثاني بين الثقافة، وقدرة الإنسان على التعلم .
التعريفات البنيوية:
ترتبط تعريفات الثقافة عند البنيويين بالنموذج Model، وتؤكد على العلاقات التنظيمية المتبادلة بين مظاهر الثقافة المختلفة، وتبرز الخصائص التجريدية للثقافة، فمثلاً يرى دولارد Dollard أن الثقافة"اسم يطلق على العادات المجردة، أو المرتبطة ببعضها البعض لمجموعة اجتماعية معينة بمعزل عن هذه المجموعة".
التعريفات التطورية:
تبحث هذه التعريفات في نشأة الثقافات وتطورها، فيرى بعض الدارسين أن الثقافة منتج Product للتفاعل الإنساني في البيئة، ويرى آخرون أن الثقافة أفكار Ideas تنتقل من فرد لآخر في المجتمع باللغة، والمحاكاة، وأشكال الرموز، والسلوك .
التعريفات الشمولية:
تتميز بتناول الثقافة من جوانب متعددة تشمل الوصفي، والتاريخي، والمعياري، والتطويري، وتحاول تحليل الثقافة، والتعرف على ما هيتها، ومكوناتها، وتفسير نشأتها، ومن أبرز هذه الاتجاهات الماركسية التي ترى أن الثقافة ظاهرة تاريخية يتحدد تطورها بتطور النظم الاقتصادية، والاجتماعية، وتأخذ بالتالي طابعاً طبقياً فيما يتعلق بمضمونها الفكري، وأهدافها القريبة والبعيدة، والعلاقات السلوكية المحكومة بها .
من هذا المنطلق فالثقافة هي معرفة المثقف الموسوعية بنواحي الحياة المختلفة في مستوى أعلى من مستوى العامة؛ أي أن المثقف ليس هو صاحب الأدوات الأدبية، واللغوية والإنشائية فقط؛ بل هو ذلك الإنسان الذي تُمثل الحياة بالنسبة له لغزاً عصياً، ومهمته كمثقف تتحدد في التعرف على عناصر هذا اللغز، والعمل على حله لتـُصبح الحياة  أجمل، وأغنى، وأكثر معنى وفائدة .. المثقف الحقيقي ليس معنياً فقط بشعر أبي الطيب أو أدونيس ، ولا بمقدمة ابن خلدون أو كتابات زكي نجيب محمود، وليس معلماً لأصول الأدب، أو ناظماً لشعر عمودي أو حر .. المثقف العضوي هو قيادة حقيقية فعلية غير رسمية للأمم .. لكنها قيادة عقلية وليست سياسية .. ولكي يستحق المثقف لقبه يجب أن يتبنى مشروعاً ثقافياً متكاملاً يعمل به كقاطرة تسحب أمتها نحو المستقبل والتقدم .. معنى بالعقيدة، وبالعلوم البحتة، والتطبيقية يفهمها في إطارها العام وإن لم يكن متخصصاً فيها، ويُدرك أدوات الفلسفة، واللغة، والآداب الإنسانية والفنون، ويحترم الأعراف والتقاليد حتى وإن سعى لتغييرها، فهو يحترم الاختلاف ويُدرك أهمية وجود الآخر المختلف ويتقبله ولا ينفيه .. منحاز لقضيته بغير تعصب .. يبحث عن الحق أينما وجد، والحقيقة ضالته يعيش حياته دوماً باحثاً عنها، وفي النهاية هو صاحب حرفة يتعيش منها، فالثقافة ليست حرفة.
المثقف:
يعتبرنموذج المثقف العضوي الذي وصفه جرامشي هو النموذج الإيجابي للمثقف:
"المثقف هو الذي يشارك بنشاط في المجتمع من أجل التغيير نحو الأفضل، اعتماداً على القراءة الموضوعية للواقع، وتحكيم الضمير في المواقف التي يجب عليه اتخاذها، شجاع في إعلان هذه المواقف، والدفاع عنها، وتحمل تبعاتها".
والمثقف الحقيقي والعضوي هو عقل الأمة وضميرها وقلبها النابض، وهو كتيبة الدفاع في المواجهة عن مصير الأمة، وهو القاطرة التي تجر المجتمع إلى الأمام .. إلى المستقبل
الحضارة Civilization:
يشرح لسان العرب الجذر حضر بالحضور نقيض الغياب، والغيبة، والحضَرُ خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، والحضارة الإقامة في الحضر، والحاضرةُ والحاضرُ الحي العظيم أو القوم، وحُضِرَ المريض واحتُضِرَ إذا نزل به الموت، والمُحْتَضِرُ الذي يأتي الحضر، والحضْرُ شحمة في العانة وفوقها، والحُضْرِ هو العدو بينما يعرف قاموس ميكرو سوفت الإلكتروني Civilization بـ : حضارة – شعوب متحضرة – رفعة في الذوق، وفي قاموس المورد : الحضارة المدنية – التمدن – صيرورة الأمة المتمدنة – الشعوب المتحضرة – رفعة في الذوق و التفكير أو التصرف، وفي دائرة المعارف الإلكترونية إنكارتا تعرف الحضارة بأنها حالة متقدمة من حالات المجتمع تعكس وحدته التاريخية والثقافية، وتعبر عن هوية المجتمعات من خلال إنجازاتها المميزة التي تساعد المؤرخين على التمييز بين الثقافات، وطبقاً لمناهج التاريخ الغربي الحديث تشير كلمة حضارة لعدد من المجتمعات القديمة، والحديثة للدلالة على طرز ثقافية، وتاريخية معينة مثل الحضارة المصرية القديمة، والحضارة الإسلامية الأموية، أو العباسية، والحضارات السامية، والحضارة البيزنطية .. الخ .. أي أن الحضارة تعبير عن منجزات ثقافة مجتمع ما خلال فترة زمنية .

تعريف  الشخصيةPersonality

يعتبر مفهوم الشخصية من المشكلات الثقافية والعلمية، وقد تعددت محاولات تعريف الشخصية إلا أنه لم يمكن تعريف الشخصية بشكل مجرد، وتعددت التعريفات طبقاً لإطار المنهج النظري الذي يبحث في مفهوم الشخصية نتيجة تعقد مفهوم وعناصر التركيب الشخصية من موروثة ومكتسبة سواء كانت جسمانية، وعقلية، وسلوكية، وتفاعل هذه العناصر مع البيئة الطبيعية، والبيئة الثقافية التي تتكون فيها الشخصية لتصبح شخصية سوية، أو مرضية.
الشخصية كما يراها علم الإنسان (الأنثربولوجي):
تفاوت تفسير علماء الأنثروبولوجي للشخصية بناء على تقييمهم للعوامل البيولوجية والوراثية للفرد، والعوامل البيئية المحيطة به، فتعددت تعريفات الشخصية فيرى رالف لينتون أن الشخصية هي الجمع المنظم للعمليات والحالات النفسية للفرد، بينما يرى كلاكهون أن الشخصية هي الأشكال السلوكية المستمرة والسائدة التي تتابع لدى شخص ما منذ الولادة وحتى الموت، بينما الشخصية لدى بارنو هي قوى الفرد الداخلية المرتبطة بالاتجاهات، والقيم، والنماذج الثابتة والخاصة بالإدراك الحسي، والتي تفسر بدرجة ما ثبات سلوك هذا الفرد، وتتفق كل هذه التعريفات في الربط بين السلوك والشخصية.
الشخصية كما يراها علم الاجتماع:
تعتبر الشخصية من العناصر الهامة التي يعنى بها علم الاجتماع عند دراسة المجتمع كنسق من علاقات الأفراد ولا يمكن فصل الفرد في هذه الأنساق عن المجتمع، والشخصية هي أحد العوامل الأساسية لفهم الفرد، ويعتبر تعريف بيسانز من التعريفات المعبرة جيداً عن مفهوم علم الاجتماع للشخصية حيث يعرفها بأنها تنظيم مبنى على أساس من عادات الشخص، وصفاته الناتجة من تكوينه البيولوجي، والاجتماعي، والثقافي.
الشخصية كما يراها علم النفس:
تتعدد مدارس علم النفس في تفسير الشخصية مثل تفسير مدرسة التحليل النفسي الذي يفسر الشخصية كقوة داخلية مركزية توجه الفرد، وتفسر الشخص من وجهة نظره الذاتية، ونموذج المدرسة السلوكية الذي يرى الشخصية مجموع العادات السلوكية التي يمارسها الفرد في مجمل أوجه نشاطه الحياتي، وتفسر الشخصية من خلال وجهة نظر الآخر في الفرد، والنموذج المفتوح (المتكامل) ويمثله تعريف البورت ويرى في الشخصية تنظيماً ديناميكياً ذاتياً للعناصر النفسجسمية يحدد أسلوب الفرد في التكيف مع البيئة.

أثر الثقافة في تكوين  الشخصية

يتعلم الفرد خلال عمليات التنشئة الاجتماعية ثقافة مجتمعه في مراحل عمره المختلفة، ويتحدد طبيعة دوره ومركزه وحقوقه وواجباته بناء على ما يكتسبه من التنشئة، وما يتكون لديه من رؤية لذاته وللآخرين، وفهمه للدور الواجب عليه القيام به في المجتمع،وقبول المجتمع لهذا الدور.
أثر الثقافة على الناحية الجسمانية في الشخصية:
تحدد ثقافة المجتمع الؤثرات الرئيسية على البدن مثال على ذلك:
  1. النمط الغذائي:
يؤثر نوع الغذاء الذي يتناوله الفرد تأثيراً مباشراً على حالته البدنية، والصحية، فعلى سبيل المثال يميل المجتمع السعودي لتناول الدهون والنشويات بشكل أساسي، وكان ذلك مناسباً في الماضي بسبب ظروف الحياة، والعمل الشاق حيث تمد هذه النوعية الغذائية الجسم بالطاقة اللازمة لبذل المجهود البدني الكبير؛ لكن مع تطور الحياة وتحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي، تناقص المجهود البدني، ولم تتغير العادات الغذائية، فظهرت البدانة كمشكلة صحية، وتبعتها أمراض ناتجة عنها وانتشرت في المجتمع بمعدلات عالية مثل السكر، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب والشرايين، والتهابات المفاصل.
  1. الأزياء والملابس:
تقوم الملابس بأدوار وظيفية مختلفة أهمها الحماية من العوامل البيئية وظروف الطقس والمناخ، وتستخدم للتجمل، وكشعار اجتماعي كثياب العروس، وثياب المناسبات العامة (البشت، أو البذلة الكاملة) أووظيفي يعبر عن قيمة الفرد أو رتبته كما في ملابس الشرطة، والمهن الطبية.
وتكتسب الملابس قيماً مجردة غير وظيفية كالقيم الأخلاقية، والاجتماعية وينعكس ذلك على الحالة البدنية للفرد، فارتداء ملابس فضفاضة في الورش والمصانع على سبيل المثال يُعرض صاحبها لحوادث العمل الناتجة عن إمساك الآلات بأطراف هذه الملابس مما ينتج عنه الجروح، وبتر الأطراف، وأحياناً الوفاة، ونموذج الملابس السوداء كاملة الإسبال التي ترتديها النساء وتساهم مع قلة الحركة في إصابتهن بمرض خطير يسمى سارق العظام، أو تخلخل العظام Osteoporosis حيث أن هذه الملابس تمنع وصول أشعة الشمس المفيدة والضرورية لتمثيل فيتامين د الذي يساعد على تكوين العظام والاستفادة من عنصر الكالسيوم، وقد لاحظت الدراسات العلمية التي أجرتها بعض كليات الطب في الجامعات السعودية زيادة نسبة هذا المرض بين نساء المدن مقارنة بالبدويات، وتفسير ذلك هو تعرض البدويات للشمس، وبذلهن مجهود بدني أكثر نتيجة مسئوليتهن الاجتماعية أكثر من الحضريات اللاتي تحجبهن البيوت، والسيارات، والعباءات، وتقلل من حركتهن.
أثر الثقافة على العناصر العقلانية في الشخصية:
تشمل العناصر العقلانية المعارف، والأفكار، والعقائد والمفاهيم الفرعية لهذه العناصر، وتكون هذه العناصر ميراثاً اجتماعياً في ثقافة المجتمع، يعاد إنتاجه وتوريثه للأفراد من خلال التربية والتعليم داخل الأسرة، والمؤسسات المجتمعية التعليمية كالمدرسة، أو الاجتماعية كالأندية الرياضية، والجمعيات الدينية، أو السياسية كالأحزاب مثل الحزب النازي في ألمانيا، والفاشي في إيطاليا، والبعث في العراق، وسورية.
  1. أثر الثقافة على العناصر الوجدانية في الشخصية:
تلعب التنشئة الاجتماعية باعتبارها مؤثراً ثقافياً دوراً مؤثراً في تكوين الفرد وجدانياً، وتؤثر على مدى قدرته في التحكم بالعوامل الانفعالية في الشخصية، وقدرته على كبح المؤثرات الانفعالية الفردية الموروثة لتنسجم مع ثقافة الجماعة، فالشخص ذو التكوين الانفعالي العدواني المولود في بيئة ثقافية مسالمة، يتعلم كيف يصبح مسالماً، والشخص ذو التكوين الانفعالي المسالم المولود في بيئة ثقافية عدوانية، يتعلم كيف يصبح مشاكساً مقاتلاً.

أثر الثقافة على قيم الشخصية:
تشمل القيم Values مختلف القيم الإيجابية كقيم الخير، والحق، والجمال، والشرف .. الخ، والقيم السلبية مثل الشر، والكذب، والخسة، والخيانة، والقسوة حيث أن بعض القيم الشاذة في ثقافة ما هي قيم مستحبة في ثقافة أخرى، مثال على ذلك السلوك الجنسي لدى الإسكيمو وهم قبائل بدوية تعيش في الصحارى الجليدية القطبية حيث تعتبر مضاجعة الضيف لزوجة صاحب البيت شرفاً، ودلالة على كرم المضيف، بينما ترى ثقافات أخرى كثيرة في مثل هذا السلوك خسة وخيانة.

أثر الشخصية في تكوين الثقافة

تترك بعض الشخصيات الرائدة والمتميزة أثراً كبيراً على ثقافة مجتمعها الذي تنشأ فيه، وقد تدفع بثقافة هذا المجتمع إلى تغيير جذري والمثال الأوضح على ذلك شخصيات الأنبياء، والرسل ، والقيادات الروحية، والسياسية وفي مقدمتهم الرسول الكريم محمد بن عبد الله r ، وصحابته من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ويلاحظ أن الأثر الفردي أثر استثنائي رغم وجوده وقوة تأثيره في بعض الأحيان حيث أن الشخصيات المؤثرة لا تتوفر تاريخياً بكم كبير، والتأثير الأساسي للشخصية على الثقافة يأتي من التراكم المتتالي للمؤثرات الفردية التي تتحول إلى عناصر ثقافية من خلال تفاعل الأفراد مع المجتمع.
أيهما يؤثر في الآخر؟
يختلف علماء الأنثروبولوجي والاجتماع حول تأثير الشخصية على الثقافة، وتأثير الثقافة على الشخصية إلى مدرستين رئيستين:
المدرسة الليبرالية:
وترى أن أثر الثقافة على الشخصية هو الأقوى.
المدرسة الراديكالية:
 وترى أن تأثير الشخصية على الثقافة هو المؤثر الفعال في صنع التحول الاجتماعي، وبناء الثقافة.
ومما لا جدال فيه أن الشخصية، والثقافة يتأثر كلاهما بالآخر في تفاعل مستمر ولا نهائي لا يتوقف، بل أن التأثيرات الثقافية تتجاوز تأثر الفرد بثقافته إلى حد التأثر بالثقافات الأخرى من خلال الاحتكاك والمثاقفة، ومن ثم تتأثر الثقافات ببعضها البعض عبر التأثير الثقافي على الأفراد كأشخاص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق