الثلاثاء، 11 يناير 2011

التوحيدي

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد
"إن العقل هو الملك المفزوع إليه؛ المرجوع إلى ما لديه في كل حال عارضة وأمر واقع عند حيرة الطالب، ولدود المشاغب، ويبس الريق، واعتساف الطريق، ونوره أسطع من نور الشمس."
"فلقد فقدت كل مؤنس وصاحب، ومرافق ومشفق، و والله لربما صليت في الجامع، فلا أرى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال أو عصار، أو نداف أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مُستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، مُعتاداً للصمت، مُلازماً للحيرة، مُحتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى."[1]
أبو حيان التوحيدي

ولد أبو حيان التوحيدي (علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي) في العراق ببغداد سنة 332 إلى 335 هجرية وعاش أكثر أيامه في بغداد وإليها يُنسب.
توفي بعدما جاوز الثمانين من العمر في شيراز سنة 414 هجرية، وفي هذه التواريخ خلاف؛ إلا أن المؤكد أنه عاش في القرن الرابع الهجري حسب ما تفيد بذلك رسائله.[2]
غلبت كنيته (أبو حيان) على اسمه، واختلف الباحثون حول نسبة كنيته إلى التوحيد, فقيل نسبتها لأباه الذي كان بياعاً للتمر العراقي المسمى (التوحيد) ذكره المتنبي في قوله:
يترشفن من فمي رشفات
*
هن فيه أحلى من التوحيدِ
وقال ابن خلكان في كتابه (وفيات الأعيان) بأنه لم يقف على هذه النسبة (التوحيد) في كتب الأنساب العربية، ويميل ابن حجر العسقلاني لنسبة كنيته إلى التوحيد جوهر العقيدة الإسلامية؛ لأن أبي حيان كان معتزلياً، والمعتزلة لقبوا أنفسهم بـأهل العدل والتوحيد، وممن مال إلى هذا الرأي ونقله عنه جلال الدين السيوطي.
نشأ التوحيدي في عائلة بغدادية فقيرة، وتربى يتيماً, يعاني شظف العيش ومرارة الحرمان بعد رحيل والده, وانتقاله لكفالة عمه الذي كان يكرهه ويقسو عليه، ورغم ذلك بقى معه حتى شب عن الطوق.[3]
قال التوحيدي عن عمه في كتابه (البصائر والذخائر) أنه كان ينتقص ابن أخيه (التوحيدي) في قطيعة الربيع ببغداد لأنه "كان يأكل أربعة أرغفة."[4]
تعددت الآراء حول جذوره وأصل أسرته, فقيل من شيراز، وقيل نيسابور ولكن رَجَحت أغلبية الباحثين أنه عربي الأصل، وقد ساهمت هيئة التوحيدي صاحب البشرة البيضاء المحمرة، والعيون الخضراء في تشكيك بعض معاصريه في أرومته؛ إذ كان التوحيدي صحيح البنية، حديد المزاج، قوي الصوت والبدن، زري الهيئة، وقد وصف التوحيدي نفسه في كتابه (الرسالة البغدادية) بأنه شيخ ذو لحية بيضاء، تلمع في حمرة وجه، يكاد يقطر منه الخمر الصرف، وله عينان كأنه ينظر بهما من زجاج أخضر، تبصان كـأنهما تدوران على زئبق.[5]
وما وصلنا عن حياته قليل مشوش، بعضه ظنٌ وترجيحٌ؛ ولا يتجاوز الموثوق فيه ما ذكره أبو حيان عن نفسه في كتبه ورسائله.
يعود ذلك في الغالب إلى تجاهل معاصري التوحيدي له ونقمتهم عليه؛ وقد أبدى ياقوت الحموي في معجمه الشهير (معجم الأدباء) استغرابه من هذا التجاهل, واقتبس أجزاءً من كتب التوحيدي التي تحدث فيها عن نفسه، وضمنها ترجمته عن التوحيدي في معجمه، ولّقبه فيها بفيلسوف الأدباء؛ مما يعتبر تقييماً صحيحاً، ورداً كريماً لاعتبار هذا المثقف الفريد حيث قال ياقوت الحموي:
"فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وفرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاءً وفطنة، وفصاحة ومكنة، واسع الدراية والرواية."[6]
وقد تناول الكثير من الباحثين في العصر الحديث شخصية التوحيدي وإنتاجه الإبداعي، ووجدوا فيهما ما يثير الإعجاب، يقول الدكتور عبد الرزاق محي الدين:
"كان أبو حيان مزوداً بكفايات يكفي أهونها لبلوغ حظ من حياة كريمة، فقد كان كاتباً أدنى ما يقال فيه أنه من طبقة ابن العميد، والصاحب، والصابي، وابن يعدان، وعبد العزيز بن يوسف، وكان إماماً في النحو وفي اللغة وفي الفقه، وفي الكلام والتصوف والفلسفة."[7]
وقد تتلمذ أبي حيان مباشرة على عدد كبير من أفضل علماء عصره، مثل أبو سعيد السيرافي الذي أخذ عنه النحو والـتصوف، وأبو زكريا يحيا بن عدي المنطقي الذي تعلم منه الفلسفة، وعلي بن عيسى الرماني الذي علمه علم اللغة وعلم الكلام، كما تتلمذ على أبو حامد المروزي، وأكد ذلك ما نقل شمس الدين الذهبي عن ابن النجار في قوله:
"سمع (يعني أبا حيان) جعفراً الخالدي، وأبا بكر الشافعي، وأبا سعيد السيرافي، والقاضي أحمد بن بشر العامري، وغيرهم الكثير، فقد كان ملازماً لمجالس الفكر والأدب والفلسفة وسواه."
وتواصل مع أدباء عصره وعلمائه ومثقفيه، وتتلمذ علي يده عدد غير قليل منهم، فقد نقل الذهبي في سيره عن ابن النجار قوله:
"روى عنه (يعني أبا حيان) علي بن يوسف الفامي، ومحمد بن منصور بن جيكان، وعبد الكريم بن محمد الداوودي، ونصر بن عبد العزيز الفارسي، ومحمد بن إبراهيم بن فارس الشيرازي."
ثم عّقب الذهبي بقوله:
"قلت: قد سمع منه (يعني أبا حيان) أبو سعد عبد الرحمن بن ممجة الاصبهاني، وذلك في سنة أربع مئة، وهو آخر العهد به."
وأبو حيان التوحيدي مثقف ذو سيرة مُتميزة؛ امتلك مخزوناً معرفياً هائلاً، وقلماً مُبهراً، وأسلوباً أنيقاً، وخبرة في التعامل اللغوي، فقد احترف التوحيدي في شبابه حرفة الوراقة، التي أتاحت له التزود بكم هائل من المعرفة، جعله مثقفاً موسوعياً، وشكل نسخه للكتب خلال فترةً كبيرةً من حياته رافداً أساسياً من روافد ثقافته، وأثرى أصوله المعرفية؛ وأمده باتصال دائم مع ثقافة عصره، ووجهات نظر أقرانه من المعاصرين له، ووصل معرفته بالنتاج الفكري والإبداعي السابق عليه.
الطريف أن أبي حيان التوحيدي تذمر كثيراً من هذه المهنة في كتبه، واعتبرها مهنة لا تُرضي طموحه، وحاول الاتصال بكبار رجال عصره أمثال ابن العميد، والصاحب بن عباد، والوزير المهلبي، الذين لم يقدروه حق قدره مما خيب أمله، وجعله ناقماً على عصره ومجتمعه، وخاصة ساسته ومثقفيه.
لقد كان أبو حيان أديباً بارعاً متكلماً مسموع الكلمة بين المتكلمين، لغوياً متمكناً من ناصية اللغة، متفلسفاً متمكناً من أدواته ومتفقهاً في الدين متعمقاً في المذاهب والطرق الصوفية، فيلسوفاً متصوفاً بين فلاسفة عصره، ومتصوفاً متفلسفاً بين الصوفية، وكان يرى نفسه من أحسن الناس، وأن مكانه يجب أن يكون الأقرب إلى الوزراء والأمراء، وقد أغضب ذلك المقربون من الوزراء والأمراء، فكرهوه وحجبوا عنه أبواب الرزق، وسدوا عليه كل الطرق الموصلة إليهم.
وكان أبو حيان شخصاً مُثيراً للجدل -وما زال- حتى الآن، ويعود ذلك إلى طبيعته التي أثارت عليه حنق الكثيرين، كما يعود في جانب آخر إلى ما نُسبَ إليه أو تبناه من آراء ومواقف، فقد امتاز أبو حيان بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الأسلوب، كما امتازت مؤلفاته بتنوع المادة، وغزارة المحتوى، وصدق التناول؛ فضلاً عما تضمنته من ملاحظات دقيقة كشفت الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية للحقبة التي عاشها، إضافة لآرائه الدقيقة والصائبة حول رجال عصره من سياسيين ومفكرين وكتاب، جاء في (معجم الأدباء) لياقوت الحموي عن ذلك:
"وأبو حيان التوحيدي، الذي كان كثير الغرام بثلب الكرام لم يترك أحداً من رؤساء زمانه إلا وشتمه، أثنى على البرامكة في كتابه أخلاق الوزيرين، فذكر أن معروفهم كان يسع الصغير والكبير، ويعم الغني والفقير، ونقل في كتابه كذلك ما أورده محمد بن داود الجراح، في كتابه (أخبار الوزراء) في الثناء عليهم، فقال: كان آل برمك أندى من السحاب أخلاقاً."[8]
حاول التوحيدي أن يكون الأدب سبيله للرزق والثراء إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً  وواجه البخلاء والمنافقين والحاسدين فذمهم هم وأخلاقهم وحياتهم، فعادوه ليظل منبوذاً يعاني الفقر والحاجة، ويصب غضبه على العالم من حوله، يقول التوحيدي في وصف حياته:
"اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله، - ولا شك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي، وربطه بأمري -، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي، ومما شحذ العزم على ذلك ورقع الحجاب عنه، أني فقدت ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها، فإن قلت ولم تسمهم بسوء الظن، ونقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عيائي منهم في الحياة هو الذي حققه ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين عاماً فما صح لي من أحجهم وداداً، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظٌ،  ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى مالا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم."[9]
وقد حيرت عقيدة التوحيدي العديد من العلماء، فمنهم من رماه بالكفر والزندقة ومنهم من رفعه لمراتب العلماء والشيوخ وكبار الصوفية، فقد اتهم القادحون أبا حيان بالضلال والزندقة والإلحاد واختلاق الأخبار، ومن هؤلاء الحافظ الذهبي؛ حيث قّدم لترجمته في مصنفه سير أعلام النبلاء بقوله:
"الضال الملحد أبو حيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية. وكان أبو حيان هذا كذاباً قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لأمور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل، ولقد وقف سيدنا الوزير الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدغله ويخفيه من سوء الاعتقاد، فطلبه ليقتله، فهرب، والتجأ إلى أعدائه، ونفق عليهم تزخرفه وأفكه، ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته، وما يبطنه من الإلحاد، ويرومه في الإسلام من الفساد، وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح، فطلبه الوزير المهلبي، فاستتر منه، ومات في الاستتار، وأراح الله, ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية."[10]
وقال أبو الفرج بن الجوزي:
"زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرحا، وهو مجمج ولم يصرح."
وقال الذهبي:
"كان سيء العقيدة، كذاباً قليل الدين والورع عن القذف والمجاهدة بالبهتان والقدح في الشريعة."[11]
 كذا قال: "بل كان عدواً لله خبيثاً."
وهذه مبالغة عظيمة من الذهبي.
"بقي إلى حدود الأربع مائة ببلاد فارس، وكان صاحب زندقة وانحلال، قال جعفر بن يحيى الحكاك، قال لي أبو نصر السجزي إنه سمع أبا سعد الماليني يقول: قرأت الرسالة المنسوبة إلى أبي بكر وعمر مع أبي عبيدة إلى علي على أبي حيان، فقال: هذه الرسالة عملتها رداً على الروافض؛ وسببها أنهم كانوا يحضرون مجلس بعض الوزراء -يعني بن العميد- فكانوا يغلون في حال علي، فعملت هذه الرسالة؛ قلت: فقد اعترف بالوضع."[12]
وكان للمعتدلين والمنصفين موقف آخر من أبي حيان التوحيدي وهم كُثرٌ، فقد ذكر ابن النجار أبا حيان في كتاباته، وقال عنه:
"له المصنفات الحسنة كالبصائر وغيرها، وكان فقيراً صابراً متديناً."
إلى أن قال:
"وكان صحيح العقيدة."[13]
"شيخ الصوفية وصاحب كتاب البصائر وغيره من المصنفات في علم التصوف."
وقال عنه ابن السبكي:
"ولم يثبت عندي إلى الآن من حال أبي حيان ما يوجب الوقيعة فيه، ووقفت على الكثير من كلامه، فلم أجد فيه إلا أنه كان قوي النفس، مزدرياً بأهل عصره، ولا يوجب هذا أن ينال هذا النيل منه."[15]
وقد ذكره ابن خلكان قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس احمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الشافعي، المؤرخ الحجة، والأديب الماهر، صاحب كتاب (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) وهو من أشهر كتب التراجم، ومن أحسنها ضبطاً وإحكاماً في آخر ترجمة أبي الفصل ابن العميد فقال: "كان فاضلاً مصنفاً."
وقال ياقوت الحموي عن التوحيدي:
"أبو حيان التوحيدي.. صوفي السمت والهيئة، وكان يتأله والناس على ثقة من دينه.. شيخ الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام, ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبني ساسان، سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شانه، والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا، الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدوداً محارفاً يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه."[16]
ورغم أن ما وصلنا من إنتاج أبو حيان التوحيدي هو عدد محدود من الكتب؛ إلا أن كتبه تُعتبر من تراث العربية القيم، فقد ترك التوحيدي إرثاً نفيساً في مجالات متعددة منها الأدب، والأخبار، والفلسفة، والتصوف، واللغويات، وانفرد بنوادر لم يوردها غيره عن الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية التي عاش فيها.
ومما وصلنا من أعمال التوحيدي التي لم يصبها الفناء كتابه البديع (الإمتاع والمؤانسة) وهو ثمرة لمسامرات سبع وثلاثين ليلة نادم فيها الوزير أبا عبد الله العارض، ويعتبر من الكتب القيمة التي يغلب عليها طابع التأمل، كذلك كتابه (البصائر والذخائر) الذي  يعد موسوعة ضخمة؛ تقع في عشرة أجزاء، انتخبها مما حفظ وسمع وقرأ، إضافة إلى آراءه وتعليقاته التي تضمنت الكثير من التفاصيل، وكشفت الجم من الحقائق عن الزمن الذي عاش فيه وطبيعة الثقافة السائدة في ذلك الوقت، وكتابه (الصداقة والصديق) الذي يكشف عن موسوعية وتبحر، وكتاب (أخلاق الوزيرين) أو كما يسمى (مثالب الوزيرين) الذي جمع فيه مشاهداته، وما سمع من وعن الوزيرين (ابن العميد، والصاحب بن عباد) اللذان صاحبهما، فحرماه ومنعاه، ولم يكرماه، ولم يجد عندهما ما كان يستحقه ويأمل من حظوة وإكبار، وكتابه (الهوامل، والشوامل) الذي يكاد أن يكون كتابين في كتاب واحد، حيث تمثل الهوامل أسئلة بعثها التوحيدي إلى مسكويه، وإجابات مسكويه على هذه الأسئلة هي الشوامل، وكتاب (الإشارات الإلهية) وكتاب (تقريظ الجاحظ) فقد كان أبو حيان جاحظي الأسلوب، يميل إلى التقسيم والتفسير والـتعليل، ويولى المعنى اهتمامه، ويفضله على السجع والمحسنات البديعية، يكتب بأسلوب ساخر، وإن كانت سخريته مرة في أغلب الأحيان، إضافة إلى كتابه القيم (المقابسات).[17]
ويعتبر الكثرة من دارسي إنتاج التوحيدي أن كتابه (الإشارات الإلهية) هو آخر ما كتب، وقد ألفه في السبعين من العمر، متوجهاً فيه خالصاً لله، متبرئاً تبرأً تاماً من الذنوب،
وجاء في كتاب (بغية الوعاة في طبقات النحويين والنحاة)[18] أن أبا حيان لما تقلبت عليه الأيام، رأى أن كتبه لم تنفعه، فضن بها على من لا يعرف قدرها، وجمعها فأحرقها، ولم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق، وقد أشار إلى هذه الحادثة ياقوت الحموي في معجمه، وأورد رسالة أبي حيان إلى أحد الفضلاء الذين لاموه على حرق كتبه، فقد عاني أبو حيان طوال حياته من الإحباط الدائم، والإخفاق المتواصل؛ مما انتهى بهذا العبقري إلى يأس، دفعه لإحراق كتبه في نهاية العمر لقلة جدواها له، وضناً بها على من لم يقدره ويقدرها، فعذله القاضي أبو سهل على ذلك، فرد عليه أبو حيان معتذراً في كتاب طويل جاء نصه في كتاب (الطبقات الكبرى).
فّر أبو حيان من مواجهة صعوبات الحياة لأحضان التصوف، حيث وجد العزاء ونعم بالسكينة والصفاء، ولعل السر في ما لاقاه أبو حيان في حياته من عناء وإهمال وفشل يعود إلى طباعه وسماته؛ حيث كان مع ذكائه وعلمه وفصاحته واسع الطموح، شديد الاعتداد بالنفس، سوداوي المزاج مما وضع المتاعب في طريقه، وحال بينه وبين وصوله إلى ما يريد.
ويروى عن أصحاب لأبي حيان، أنه لما حضرته الوفاة، كان بين يديه جماعة من الناس، فقال بعضهم لبعض:
"اذكروا الله فإن هذا مقام خوف وكل يسعى لهذه الساعة."
ثم جعلوا يذكرونه ويعظونه، فرفع أبو حيان رأسه إليهم وقال:
"كأني أقدم على جندي أو شرطي؟! إنما أُقدم على ربٍ غفور."
ومات من ساعته.


 [1] عبد الرزاق محيي الدين: أبو حيان التوحيدي في سيرته وفلسفته.
[2]  أبو حيان التوحيدي: الرسالة البغدادية، تحقيق عبود الشالجي، ص 16، منشورات الجمل- الطبعة الأولى- كولونيا- ألمانيا 1997م.
[3]  محمد إبراهيم: أبو حيان التوحيدي.
[4]  أبو حيان التوحيدي: البصائر والذخائر، الجزء الثاني، ق 2، ص 475.
[5]  أبو حيان التوحيدي: الرسالة البغدادية، تحقيق عبود الشالجي، ص 15، منشورات الجمل- الطبعة الأولى- كولونيا- ألمانيا 1997م.
[6] ياقوت الحموي: معجم الأدباء 5: ص380.
[7]  عبد الرزاق محي الدين: أبو حيان التوحدي، ص.30.
[8] ياقوت الحموي: معجم الأدباء 2-282-380-498.
[9] يا قوت الحموي: معجم الأدباء.
[10] الحافظ الذهبي: سير أعلام النبلاء، طبعة مؤسسة الرسالة، الجزء السابع عشر.
[11]  الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: بغية الوعاة في طبقات النحويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- دار الفكر- الطبعة الثانية- الجزء الثاني ص 190/191.
[12] ابن حجر العسقلاني: لسان الميزان، باب الكنى.
[13]  الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: بغية الوعاة في طبقات النحويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- دار الفكر- الطبعة الثانية- الجزء الثاني ص 190/191.
[14] تاج الدين السبكي: طبقات الشافعية للسبكي.
[15]  الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: بغية الوعاة في طبقات النحويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- دار الفكر- الطبعة الثانية- الجزء الثاني ص 190/191.

[16] ياقوت الحموي: معجم الأدباء، الجزء الخامس عشر، حرف العين.
[17] إحسان عباس: أبو حيان التوحيدي.
[18]  الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: بغية الوعاة في طبقات النحويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- دار الفكر- الطبعة الثانية- الجزء الثاني ص 190/191.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق